ثنايا الكلام

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

منتصر القفاش                          

أقصر قصه قصيرة

" حين استيقظ كان الديناصور ما يزال هنا " تعد هذه القصة اقصر قصة قصيرة في العالم وكتبها الكاتب الجواتيمالي أوجوستو مونتيروسو " 1921 – 2003 " والذي لم تترجم من أعماله إلى اللغة العربية سوى مجموعتين. وقد تدفع القصة بعض القراء إلى رؤيتها على أنها جملة مقتطعة من نص أكبر وسيحاولون أن يتخيلوا ما الذي حدث قبل هذا المشهد وما الذي حدث بعده، ويبحثون فور قراءة عن معنى سياسي أو اجتماعي ينهون به غرابة القصة وعدم معقوليتها ويستقرون في النهاية على أن  الديناصور رمز لشيء ما ثم يرتاحون لأنهم حلوا اللغز. وقد تدفع القصة قراء من نوع آخر إلى تخيل المشهد فقط ويتركون الأفكار تتداعى دون خطة مسبقة، فالمشهد الذي تقدمه القصة من القوة والغرابة بحيث يكفي أن نظل فيه ولا نحاول أن نفرض عليه سياقا آخر أو نبحث عن أسباب أو نتائج بل يصير من استيقظ هو القارئ ويعايش تلك اللحظة التي تسلبه كل منطق اعتاد عليه وكل معرفة استقرت داخله، ويرون القصة تفتح أعينهم على أن الحياة ليست فقط الروتين اليومي المحفوظ، وأن في المعتاد قد تكمن غرابة وفانتازيا وأننا غالبا لا ننتبه لمستويات أخرى في الحياة بسبب ركوننا لما هو آمن. وقصة الديناصور يصعب الكلام حولها فهي مثل بيت الشعر الذي قد يفسد بالشرح والتحليل، وقوتها في معايشتها مثل أي ذكرى يصعب نسيانها وان كانت دلالاتها تتبدل كل حين ولا تستقر على معني محدد وقد تتداخل مع أحداث في حياتنا ونراها في نور جديد. وقد توقف عند هذه القصة كل من الكاتب الايطالي إيتالو كالفينو والكاتب البيروفي ماريو يوسا، ا

لأول في كتابه ” ست وصايا للألفية القادمة “، وتحدث في الوصية الثانية ” السرعة ” عن تفكيره في كتاب يضم حكايات من جملة واحدة لكنه لم يجد حكايات تضارع الديناصور، فهذه القصة من الأعمال التي يصعب تكرارها، وأوضح كالفينو السبب في تفكيره في كتاب مثل هذا بـ ” إنني أحلم بكونيات هائلة وقصص بطولي وملاحم تختزل كلها في نطاق أبعاد قصيدة قصيرة أو سطر يشبه حكمة قصيرة. على الأدب حتى في الأزمنة الأكثر احتقانا من زمننا، الأزمنة التي تنتظرنا، أن يستهدف أقصى حد من التركيز في الشعر والفكر “. أما ماريو يوسا فقد ذكر قصة الديناصور في كتابه ” رسائل إلى روائي ناشئ ” وفي الرسالة التي تحمل عنوان ” مستوى الحقيقة ” يصل في تحليله أن راوي هذه الحكاية شديد الواقعية في حين يروي حكاية فانتازية ويدلل على هذا باستخدام  الراوي لـ ” ما يزال ”  التي تعني في رأي يوسا ” انظروا إذن إلى هذا الحادث الملفت الديناصور مازال هنا في حين يفترض بالطبع أن لا يكون، ذلك أن هذه الأمور لا تحدث في الحقيقة الواقعية وهي غير ممكنة إلا في الفانتاستيكي ” ما سعى إليه يوسا هو إثبات المفارقة بين طبيعة الراوي وما يحكيه ورغم ذلك نجح في حكايته. إن الفرق كبير بين تناول كالفينو ويوسا، فكالفينو لم يحاول أن يحدد القصة أو يفرض طريقة لقراءتها بل انطلق منها ليحلم بكتابة موجزة أو مكثفة  لكنها برحابة الكون والملاحم القديمة، كلماتها القليلة تفتح الأبواب لمستويات مختلفة من التجربة الإنسانية  وليست مجرد اختصار لتلك المستويات. إن حلم كالفينو يحرر الديناصور من مجرد أنها حكاية مستحيلة ليجعل المستحيل جزء من  حياتنا. أما يوسا فقراءته أشبه بكاتب كبير يهدي الكاتب الناشئ إلى طريق آمن يسلكه دون أن يجعله يختار بنفسه الطريق، ويضع خطوطا حمراء للإرشاد والتوجيه بين الحقيقي والفانتازي. إن القراءة – مثل الكتابة – تكشف عن اختيار القارئ بين أن ينزل نهر الحكاية ويكتشف الحياة من جديد أم يكتفي بالفرجة عليه من بعيد ويصف الحدود والأبعاد.                             

اتصال الحدائق                                                  

قد يدفعك إعجابك بقصة قصيرة إلى خط كلمات تعبر عن إعجابك أو إلى كتابة تعليق منفعل  بها على هامش صفحاتها. وقد يدفعك إلى إعادة حكيها عدة مرات إلى أشخاص مختلفين وفي كل مرة تشعر أن حكايتك لها أقل مما قرأته. أو تتذكرها بينك وبين نفسك وتتخيل أحداثها أو الموقف الذي بنيت عليه القصة ولا تمل من تكرار تذكرها، خاصة عندما تتذكرها فجأة وأنت منشغل بأمور حياتك وتستغرق فيها ثواني منفصلا عما يشغلك أو عن العالم من حولك. كل مظاهر إعجابك بهذه القصة جزء منها نفسها كأنك تجعل حياتها لا تتحدد أو لا تتوقف عند صفحات الكتاب. وتصير ضمن ذكرياتك الخاصة، ومماثلة لما تتذكره عن حياتك الشخصية وربما تكون أكثر تأثيرا من حدث عشته بنفسك وشاركت فيه. وقليلة القصص التي تحدث فيك هذا الأثر بل وقد يتناقص هذا القليل بمرور الوقت وبازدياد صعوبة أن يعجبك شيء. وفي كل مرة تعيد قراءة هذه القصة تنتظر أن تثير إعجابك كما أثارته في أول مرة وتضعها أمام اختبار صعب: هل مازالت صامدة أمام مرور السنوات أم زال عنها سحرها؟. وعندما تجدها مازالت صامدة أمام تغيرات ذوقك وازدياد خبرتك تجد أن هناك أبعاد جديد فيها تتكشف لك و لم تنتبه لها من قبل، كأن القصة ترد على الاختبارات التي وضعتها فيها لتكشف لك أنك أنت موضع الاختبار. وأنك رغم قراءاتها وتذكرها كثيرا لم تنتبه إلى تلك المستويات التي مازالت تظهرها لك. ومازالت خبراتك أنت بها تزداد وتبدو لك كما لو أنها تسبقك بخطوات دائما. وتكون التعليقات التي كتبتها في الهوامش منذ سنوات دليلا على قصور وعيك بها في قراءتك الأولى. ربما تلتمس العذر لنفسك لأنك وقت كتابتها كنت أقل خبرة لكنها تظل شاهدا على أن النص يمنحك بقدر ما ترى دون أن تقدر على الزعم أنك رأيته كله.  كل هذه الأفكار أثارتها لدي إعادة قراءة قصة ” اتصال الحدائق ” لكورتاثار ضمن المختارات التي اختارها له وترجمها المترجم القدير محمد أبو العطا في كتاب ” كل النيران ” والذي صدرت له طبعة ثانية مضافا إليها قصصا جديدة تحت عنوان ” الجولة الأخيرة ” . وقصة اتصال الحدائق تكاد أن تكون قصة عن فعل القراءة نفسه وكيف تتداخل في هذا الفعل زمن النص الذي نقرأه والزمن الذي نجلس فيه للقراءة وكيف ننتقل بينهما رغم البون الشاسع الذي يفرق بين الاثنين. وكيف يمتزج الزمنان داخل القارئ الذي يعيش في لحظة القراءة كل ما هو عادي وغرائبي دون أن يفصل بينهما ودون أن يتساءل في أي زمن هو. ففي قصة ” اتصال الحدائق ” التي لا تزيد عن صفحتين ينتهي القارئ الشغوف بإكمال الرواية التي استغرق في أحداثها إلى أن يصبح جزءا منها. من لعبتها. وتخيب توقعاته وتوقعاتنا ليجد أن الرواية تسبقه بخطوات بحيث صار القارئ في متناول المدية التي تحملها إحدى الشخصيات في الرواية. وكأن الاطمئنان الذي انتاب شخصية القارئ في القصة وظنه أنه قادر على توصيف عوالمها وتذكرها جزء من الخطة المحكمة التي وضعتها شخصيات الرواية للإجهاز عليه أو وضعه قاب قوسين أو أدنى من قتله. وتنتهي القصة دون أن تغلق الدائرة. فقد يتوقف شخصية القارئ في القصة عن إكمال القراءة فيظل غير عارف بجوانب لم يتوصل لها بعد وعيه ويستمر في ظنه أنه ملم بكل عالم الرواية أو قد يستمر في القراءة فيتم الإجهاز تماما على كل توقعاته وكل ما كان ينتظره من الرواية ليصير أعزل أمامها ويعيد النظر في الطريقة التي قرأ بها الرواية أو يعيد الحوار معها محاولا أن يطيله بقدر استطاعته حتى يستمر في الحياة.

أحلام اليوميات               

عند قراءة يوميات المبدعين الذين يفصلنا عنهم زمن طويل لا نفاجأ بأسرارهم فقط بل بتشابه مشاكلهم اليومية مع ما نعانيه من مشكلات. بودلير في يومياته كتب فقرات كثيرة في حث نفسه على العمل وعدم الاستسلام للرغبة في تأجيل ما يجب عمله ” ما من عمل طويل إلا ذاك الذي لا نجرؤ على الشروع فيه. إنه يتحول إلى كابوس. بتأجيل ما يجب علينا القيام به، قد نقع في المحظور أن لا نستطيع القيام به أبدا” أو ” أفترض أنني أعلق مصيري على عمل متواصل لساعات طويلة ” المفارقة أننا في الوهلة الأولى قد نسعد بقراءة ما يشبه مشاكلنا في يوميات المبدعين إلى حد أننا ننسى ما يقوله المبدع عن المشكلة نفسها في غمرة دهشتنا للتشابه بيننا وبينهم. ففرق كبير بين اليقين النظري أن المبدع الكبير إنسان في النهاية وبين أن نطالع تفاصيل حياة هذا الإنسان كما كتبها دون تفكير في أن يقرأها أحد.

وتحتشد يوميات المبدعين المنشورة بأحلامهم بإنجاز أعمال فنية انتهت حياتهم دون أن ينجزوها. وبقدر ما تكشف تلك الأحلام عن البذور الأولى لتكون العمل الفني لديهم فإنها قد تكشف عن أحلام لا مجال لتحققها إلا في اليوميات، إلا في الحرية التي رفعت عنها الممكن والمستحيل. كتب المخرج الإيطالي أنطونيوني  ” ظلت كلمات ماك نيس في ذهني لسنوات: فكر برقم. ضاعفه، اضربه بثلاثة، ربعه، ثم الق به. أنا واثق من أن هذه الفكرة يمكن أن تكون نواة لفيلم” نجد مثل هذا عند بودلير أيضا الذي حدد بوضوح فكرة رواية يحلم أن يكتبها ولم يكتبها أبدا. فأحلام المبدعين قد تكون نابعة من طبيعة اليوميات المكتفية بذاتها ولا تطلب إلا صاحبها.

حمّامات

كانت بداية معرفتي بمدرسة التمريض تحذير صول مركز التدريب لي قبل ذهابي إليها، بأنه ليس أمامي إلا شهادة قدوة حسنة أو محاكمة عسكرية، ويجب علىّ ألا أظن أن فترة تجنيدي هناك سهلة، وأكد على أن كل المؤهلات العليا مدانون حتى تثبت براءتهم. وتأكدت تحذيراته بمجرد وصولي إلى المدرسة التي على الرغم من صغر حجمها فان كم التنبيهات التي يجب الالتزام بها تجعلك تشعر أنك في مكان لا أول له ولا أخر. خاصة عندما تكون الطالبات في الفصول فلا يجب الوجود في الممر الذي تفتح الفصول علية إلا للضرورة القصوى، ولا يجب التحدث بصوت عال في مكتب السرية، وأهم شيء ممنوع استخدام الحمامات، وإذا  لزم الأمر فيجب الذهاب إلى حمامات المستشفى المجاورة. وأحيانا كان يغلق الباب الذي يصل بين المدرسة والمستشفى حينما تزور ” رتبة كبيرة ” المستشفى مما يعني أنه لا سبيل أمام العساكر سوى حمام المدرسة وحتى في هذه الحالة مخاطرة غير مأمونة العواقب وليست المخاطرة في التأكد من خلو الحمامات من الطالبات بل في مجيء طالبة بينما هناك عسكري في الداخل، والمشكلة ليست في وجود الطالبة لكن في  احتمال مرور المديرة أو نائبتها لتتفقد المدرسة فتكشف وجود الاثنين في الحمام. ويظل العسكري المحبوس في الحمام يتوقع أن يخبط على بابه الصول ويطالبه بالإسراع لمكتب المديرة بعد أن كشفت أمره أو تأتي طالبات أخريات فيضطر للخروج محاطا بصراخهن المبالغ فيه.  أسوأ السيناريوهات تمر في خيال هذا العسكري مادامت الطالبة مازالت في الحمام. ولن يطمئنه الهدوء الذي يحل على المدرسة وعدم سماعه أي صوت في الممر، فكل شيء وهو في هذا الوضع ممكن أن ينفجر فجأة ويصير الهدوء من النوع الذي يسبق العاصفة. وعندما يتأكد من انصراف الطالبة تبدأ رحلة خروجه الحذرة ومع كل خطوة يخطوها يزداد اطمئنانه وإن ظل القلق ولا يرتاح تماما إلا عند وصوله مكتب السرية حيث يسأله زملاؤه العساكر عما حدث في الحمام ويساعدونه في وصف أحاسيسه ومشاعره فكلهم مروا بهذا الموقف من قبل وإن ظلت أسئلة تقال وقتها أو بعد ذلك عما إذا كان حدث شيء آخر. وبعد انتهاء اليوم الدراسي وانصراف الطالبات تصبح الحمامات حقا مستباحا للعساكر وتعلو أصواتهم داخلها وتفتح وتغلق الأبواب بقوة وتتناثر التعليقات دون حذر وقد يأتي عدد من عساكر المستشفى مسرعين ليدخلوا حمام المدرسة فمازالت ” الرتبة الكبيرة ” تزور المستشفى ومازالت الحمامات هناك منطقة محظورة.                             

خطبة

من سنوات قليلة كانت خطب عبد الناصر تسمع في أماكن كثيرة في القاهرة وخاصة ميدان العتبة المزدحم ببائعي شرائط الكاسيت المستنسخة والمزدحم أيضا بآلاف البشر الباحثين عن شراء أشياء رخيصة، أو المنتظرين أتوبيسات في ‘موقف العتبة’، ومع كل هذا كان يمكن أن تسمع خطاب عبد الناصر وهو يعلن تأميم ‘القنال’ وصراخ الجماهير ­ وقت الخطاب­ وهتافاتهم وتصفيقهم المتداخل مع صيحات البائعين ودوشة الميدان. ومن بعيد أو من قريب حسب موقعك لتستطيع أن تري شخصا يرتدي سترة ‘كاكي’ محلاة بنياشين وأشرطة ملونة وتحتها بنطلون بيجامة ويصرخ أيضا، ولكن هذه المرة في الناس­ أي ناس­ ويشتمهم ويطالبهم بسماع ما يقوله وحاملا عصا رغم أنها لا تلمس أحدا لكن كل واحد يحاذر وهو يمشي أن تناله ولا تعرف ماذا سيكون رد فعله لو اقتربت وأعطيته نقودا، هل سيصرخ في وجهك ويضربك بالعصا بعد أن يأخذ النقود أم يخطفها منك ويتوجه إلي ناصية أخري وغالبا ما تكمل سيرك بعيدا عنه وأنت تسمع خطب الرئيس وصراخ الشخص المحلي بالنياشين وتكمل بحثك في الميدان عما تريده

موسم كتابة البنات

ظهرت في المنتصف الثاني من التسعينيات في مصر عدد كبير من روايات ومجموعات قصصية لكاتبات ينشرن لأول مرة.  ولاحق النقاد والصحافة هذه الظاهرة بمسميات عديدة منها  ” موسم كتابة البنات ” أو ” كتابة النساء الصغيرات ” وخلال هذا عادت بقوة ثنائية الشكل والمضمون التي كان الخطاب النقدي يسعى إلى  التخلي عنها وتسامح مع تقليدية قصص عدد من الكاتبات بدافع أن الأهم هنا استعادة المرأة لصوتها بعد غياب قرون عديدة. وتم نظر إلى القصص التي كتبت بضمير المتكلم على انه صوت الكاتبة أو شهرزاد الجديدة. صارت القصص وثيقة لإثبات تلك المسميات. وعندما يتعثر ناقد في قصص أو رواية  لكاتبة بعيدة عن هذا الصخب وتخلت عن الحكاية التقليدية وتندرج أكثر في حوار مع النوع الأدبي وتحاول أن تشارك أقرانها رجالا أو نساء في الكشف عن الإمكانيات المضمرة في السرد نجد هذا الناقد المنشغل بموسم كتابة البنات يتغافل عن كل هذا  ليثبت أن الحكاية تراجعت وسيفتقدها القارئ لكن سيحظى في المقابل  ببوح المرأة ضد ذكورة مجتمعها. والمفارقة التي تجذب الانتباه أن الدراسات النقدية التي أكدت رفضها لمثل تلك المسميات وتحاول أن تقرأ نصوصهن في أدبيتها غالبا لا تنجو من إشارة  إلى نجاح الكاتبة في البعد أو عدم الوقوع في المنظور النسوي الضيق وكأن الناقد يجد أن دراسته ناقصة من غير هذا التنبيه الجليل الذي لا يخص العمل الأدبي الذي يناقشه ويعلن به براءته من ذنب لم يقترفه وفي نفس الوقت يشعر بأنه مطارد به.                                                                          هناك رأي يشيع بين عدد من الكاتبات والنقاد ويكاد أن يكون ” متفقا عليه ” أن المرأة أبرع من الرجل في وصف جسدها ورغباتها. كأن القصة صارت مذكرات أو يوميات تكتبها المرأة وتكشف فيها المستور الذي لا يعلمه أحد، وفي ظل هذا يتسيد الصوت المفرد المتباهي بأنه المتحدث الرسمي عن جسد المرأة وفي نفس الوقت تفقد الكتابة ألوان طيفها وتلهث وراء فحولة الصوت الأنثوي.

تجارب مثل الولادة، العشق، الطلاق، الخيانة أو التجارب المشحونة بدلالات تاريخية واجتماعية ” كبرى ”  تكشف عن  الشيء الذي تهتم به الكاتبة: هل تراهن على الجانب المثير فيها وتستثمر توقعات القارئ وتدفعه إلى أن يتخذ شخصية المتلصص لينعم بما ينتظره أم هي تراهن على كتابة ما لا يتوقع في هذه التجارب وتنقض الجزء المتعارف عليه لتكون التجربة بما تصيره في الكتابة وليس استثمارا للمتاح.

 

لمسة

وهو مازال في طريقه انشغل بتخيل أشياء تنجز بلمسة واحدة من يده، بحيث لا يرى المراحل التي مر بها الشيء ليتم، فقط من حالته الأولى ثم استواؤه كاملا مكملا. ورغم عدم قدرته على هذا، لكنه كان يجد هذا التخيل يصاحبه دائما. ويظل يحس كأنه قد لمس هذه اللمسة من قبل، وأحدثت مفعولها السحري أمامه، وانبهر بالمعجزة ومن يقينه أنها ستحدث مرة أخرى. وتدريجيا صارت هذه اللمسة المتخيلة أقوى عنده من الأشياء المحيطة به والتي يستطيع لمسها بالفعل.

من جديد                                                         
                                                                                

إمكانية أن يبدأ الإنسان حياته من جديد على الرغم من أن الكثيرين يرغبون فيها، ويتمنون لو استيقظوا ليجدوا أنفسهم يعيشون حياتهم من جديد، ويتجنبوا الأخطاء التي وقعوا فيها في حياتهم السابقة، لكنهم سرعان ما يرون أو يعلنون استحالة فعل هذا ويركنون إلى محاولة تغيير أمور في حياتهم. كانت هذه الإمكانية لن تشعر بالسأم من عدم وجود من يحققها لو كانت منسية لا يرغب فيها أحد، كانت لحظتها ستعرف أنها مجرد وهم لكنها تتردد بكثرة لدرجة تشعر معها أنها قاب قوسين أو أدنى من التحقق. وعندما تجد شخصا يرددها كثيرا ويظل يتكلم عنها مع أصدقائه تسارع تلك الإمكانية لمساعدته وتشجيع تخيلاته وإمداده بالمزيد من الجمال الذي ينتظره. لكن لا فائدة فبقدر ما يرغب في حياة جديدة تجده يتحدث عن الصعوبات وعدم قدرته على أن يهجر كل شيء في حياته الراهنة ويسترسل في وصف الكوارث التي يمكن أن تصيبه لو بدأ حياته من جديد. بالطبع تود هذه الإمكانية لو استطاعت أن تخنق هذا الشخص بكل قوتها حينما يعود للحديث عنها مرة أخرى ويؤكد لنفسه وللآخرين أنه سينفذها في يوم من الأيام. من صوت الشخص الذي يرددها تستطيع معرفة مدة بقائها معه فقد يقولها كفاصل سريع ويعود بعده إلى الانشغال بما اعتاد فعله أو كتهديد لحياته أنه سيغادرها لو لن تنصلح. وقد تظل تلك الإمكانية تتساءل لماذا هي موجودة مادامت لا تتذكر أنها تحققت أبدا في يوم من الأيام. فقط الشعر. القصص.الأفلام…هي التي أكدت على وجودها الذي لم يعشه أحد. ولم يسمح لها أن تنال فرصة مثل بقية الإمكانيات.

المبدع ناقدا

في المقالات النقدية التي يكتبها المبدعون تتضح سمة رئيسية وهي أنها لا تعرف المقدمات المدرسية ولا تحاول أن تمهد لفكرتها بذكر المنهج النقدي الذي ستتبعه. في تلك المقالات نجد أن هناك فكرة برقت أو اهتدى إليها الكاتب أثناء قراءاته أو كتاباته. فكرة نابعة من خبرة خاصة وتحاول أن تقدمها بنفس العنفوان الذي ظهرت به دون أن تسجنها في أطر نظرية أو تبحث لها عن شواهد من كتب النقاد المتخصصين. وفي نفس الوقت قد تدفع مقالات المبدعين المكثفة إلى أن يعيد النقاد النظر فيما كانوا يرددونه وقد تفتح أمامهم طرقا جديدة للبحث لم يلتفتوا إليها. كتب بورخيس مقالة بعنوان ” كافكا وأسلافه “، لم يتوقف فيها عند الأسلاف القريبين لكافكا زمنيا أو لم يتناول الأسلاف الذين يردون في كتب النقاد المتخصصين في كافكا. بل وجد أن أسلافه يمتدون في آداب وعصور عديدة ومتباينة. بدأها من مفارقة زينون الإيلي ضد الحركة، والتي ترى أن جسما متحركا من النقطة أ لا يمكنه أن يصل إلى النقطة ب لأنه ينبغي عليه  أن يقطع نصف هذه المسافة بين النقطتين وقبل ذلك نصف هذا النصف وهكذا الى ما لانهاية. ويرى بورخيس أن تلك المفارقة تعد سلفا من أسلاف أعمال كافكا وخاصة روايته القلعة ،والتي لا يستطيع فيها ” ك ” أن يصل إلى القلعة رغم أنها تبدو أمامه. كما نتذكر قصته سور الصين الذي لا يكتمل أبدا بناؤه. ويتنقل بورخيس بين أسلاف كافكا: قصة من الأدب الصيني إلى كيركجارد وآخرين، ويصل إلى أن كل كاتب ” يخلق أسلافه… ففي كل تلك النصوص شيء من كافكا، غير أنه لو لم يكتب كافكا ما استطاع أحد أن يلاحظ ذلك… فإنتاجه يعدل تصورنا للماضي مثلما يعدل تصورنا للمستقبل.” ولنا أن نتخيل كيف تستطيع هذه الطريقة أن توسع من أفق المتلقي ولا تجعله يكتفي بالنظر إلى الحدود القريبة، أو يكتفي بترديد كلمة الجيل التي تحبس النصوص في قفص زمني كل عشر سنوات، بل تجعل تلقيه إبداعا في حد ذاته لأنه يصل بين نصوص وكتاب متفرقين زمنيا ومكانيا. وبقدر ما يثرى النص بهذه الطريقة فان المتلقي يثرى بدوره من اتساع أفق قراءاته وتأملاته. وفي مقالات وكتابات المبدعين النقدية التي تركت أثرا تتضح ملاحظة أنهم كتبوها على نفس الأرضية التي ينطلقون منها في كتابة نصوصهم الإبداعية. كونديرا في كل كتبه النقدية ينشغل بالكتابة عن الأعمال التي تصير فيها الفلسفة وتأملات الكاتب جزءا من السرد ونابعة من أحداث الرواية. ولا يقصد الفلسفة الموجودة في الكتب المدرسية أو كتب الفلاسفة بل فلسفة تخص الرواية ولا تستطيع سوى الرواية أن تقوله، وتتشكل حسب شخصياتها وما تواجهه من مواقف.  ولا يعني هذا أن المبدعين يكتبون عما يحبونه فقط بل يعني في الأساس أنهم ضد العموميات والكلام النقدي المرسل الذي لا يكشف عن أي موقف أو ذائقة. ومقالات يحيى حقي تمتلك تلك القدرة التي تجعلك تتعرف على ذائقته وكيف يتلقى الأعمال الفنية بمختلف أشكالها. وتكثر في مقالاته تلك المناطق الشائكة التي تلتبس فيها أحاسيسه ومشاعره إزاء بعض الأعمال والأشخاص. ويحرص على أن يظهر هذا الالتباس للقارئ دون أن يتسرع بحله، بل يتركه كمنطقة جديرة بإعادة النظر. ولنتذكر مقالته أنشودة البساطة ومقالاته عن روايات نجيب محفوظ وما كتبه عن شخصيات أدبية مثل المازني. ونقاد قلائل في ثقافتنا العربية القادرين على كتابة مقالاتهم ودراساتهم من منظور إبداعي، وأهمهم عبد الفتاح كيليطو الذي لا ينشغل بتقسيم تراثنا العربي إلى عصور ومذاهب والاكتفاء بالحديث عن سمات عامة تختزل النصوص التراثية وتقضي على الحياة فيها، بل يتوقف عند تفاصيل وأحداث تبدو صغيرة ومتوارية في كتب التراث لكنها من خلال تأملاته ومعايشته لها تبدو أنها  مازالت قادرة على الحياة حتى الآن.  

تاريخ خاص

 في رواية كل الأسماء لساراماجو نتعرف على ” دون جوزيه ” الذي يعمل ويسكن في دار المحفوظات العامة للسجل المدني. هذا المكان الذي اختلطت فيه بطاقات الموتى بالأحياء، وقد تظل البيانات تعلن عن استمرار الميت حيا، والبحث في أروقة المكان الداخلية عن ملفات الموتى أشبه بمغامرة قد تنتهي بالموت تحت تلال الملفات الآيلة للسقوط في أية لحظة. ويحرص جوزيه على جمع قصاصات من جرائد ومجلات عن المشاهير ويبوبها ويبحث عن تواريخ وأماكن ميلادهم، ويرصد كل فترة من خبت عنه أنوار الشهرة ويقصيه عن مجموعته. دليل جوزيه الذي يعده ليس للاستخدام. دليل لا يستخدمه ولا يعرفه إلا شخص واحد. ولو تصادف وهذا نادر أن تأتيه فرصة ليتحدث عن سره أو حبه فسينطلق في الكلام عكس ما هو معروف عنه ويبين عن خبرة فريدة وسيكشف عن وجه آخر لا يعرفه عنه أحد. مع شخصيات مثل خوزيه ليس المهم فقط أنهم لديهم حكاية خاصة لا يعلم بها إلا القليلون بل الأمر في أنهم يملكون تاريخا خاصا بهم غير معلن لكن يؤثر في حياتهم و يروونه كلما سنحت لهم الفرصة. وقد يكون هذا التاريخ الخاص غير مهتم بما هو معروف عن مشاهير الكتاب والفنانين ويركز على جانب غير متوقع أو لم يلتفت إليه. وقد يتصادف أن تلتقي بأحد أصحاب التاريخ الخاص وعندما يجدك مهتما بالكتابة والقراءة تجده يبدأ كلامه بالتأكيد على أنه كان مهتما بالكتابة قبل أن تجرفه ظروف الحياة وله محاولات في الكتابة قد تكون أعجبت أساتذته في المدرسة أو الجامعة ثم يشير إلى أن الكتابة لم تعد مثل زمان، ويحدثك عن كتاب لنزار قباني لا يملكه أحد غيره، فتظن أنه يقصد نسخة من طبعة أولى لأحد دواوين نزار التي نفدت، لكنه يحدثك عن دفتر كتب فيه مختارات انتقاها من كل دواوين نزار، ويرى مختاراته تماثل أو تفوق المختارات التي أصدرها نزار بنفسه، ويحكي لك كيف ذهب إلى الأمسيات التي أحياها نزار في معرض الكتاب ليريه هذا الدفتر لكنه لم يستطع الوصول إليه لكثرة المعجبين الملتفين حوله. ويجذبك كلامه كلما كان بارعا في الحكي وقادرا على أن يتذكر دون مشقة أجزاء من القصائد يرددها في سلاسة كأنها صارت من البديهيات التي تسكنه. فمهما كان ذوقك وانحيازاتك الشعرية فانك ما إن يلقي أمامك احد الشعر غيبا دون تعثر حتى تجد نفسك منتبها إليه أو مصغيا له سواء كان إصغاؤك للكلمات أو الإيقاع المنساب.ويزداد انتباهك عندما يكون هذا الشخص ليس من زمرة الشعراء أو الكتاب، ولقاؤك به كان مصادفة. وكحال معظم هذه الشخصيات يحن إلى العودة إلى إنجازه السري الذي لم يفتحه منذ وقت بعيد ليستعيد ذكريات عكوفه على المختارات والأيام التي شعر فيها أنه يضيف كتابا إلى أعمال نزار.   وشخصية أخرى بعد الترحم على أيام زمان أيضا  يتحرك نحو منطقة مختلفة يتذكر فيها  مواقف جمعته بأحد الكتاب المشاهير ويتذكر مثلا أنه رأى نجيب محفوظ في مقهى علي بابا  – الذي تم إغلاقه الآن –  في الدور الثاني جوار النافذة المطلة على ميدان التحرير، وسلم عليه ودعاه إلى الجلوس معه، ويحكي لك غضب نجيب ما إن رشف أول رشفة من فنجان قهوته التي كان يشربها سادة ونادى على الجرسون الذي أكد أنها سادة لكنه رفعها من أمامه حملها ليغيرها، وعندما أتى بفنجان جديد أخبر الأستاذ أنه كان على حق فقد تم تقليب قهوته بملعقة وضعت في السكر عن طريق الخطأ. ويركز على تلك الحادثة التي يعرف أنك لا تعلم عنها شيئا وتراه في تركيزه عليها سعيدا لأنه يضيف جديدا إلى سيرة نجيب محفوظ،  وعندما تكون تلك الحادثة الوحيدة التي يملكها عن أحد المشاهير فإنه يعوض هذا النقص بالتوقف عند التفاصيل فيصف لك ملامح وجه نجيب محفوظ ما أن ارتشف أول رشفة وعدم تشككه لحظه في أنها ليست قهوة سادة. ويكمل كل هذا بأنه كان زمنا آخر وكتابا من نوع انقرض فقد كانوا أصحاب مزاج وذوق لا يعلى عليه. وأنه كلما حكى تلك الحكاية يشعر كأنها حدثت أمس أو اليوم، فمازال قادرا على استعادة تفاصيل المشهد كما حدث دون نقصان وقد يشير إلى كرسي أمامه ” كأن الأستاذ لسه قاعد هنا وأنا لسه قاعد قدامه “.

كيف وأخواتها

كيف تصبح ناجحا، كيف تصبح مديرا، الطريق إلى النجاح. يعشق قراءة هذه النوعية من  الكتب. ويهوى جمعها. ويساعده على جمعها عدد من الأصدقاء يخبرونه بالجديد الذي لمحوه عند بائع الجرائد. يخبرونه لمعرفتهم بحبه لها وليس بسبب اهتمامهم بها. بالإضافة إلى سهولة أن يلمحوا تلك الكتب حتى لو كانوا غير مهتمين بها، فغالبا ما تحتل مكانا بارزا في فرشة بائع الجرائد. وقد يكون نفس العنوان القاسم المشترك بين كتب عديدة تتبارى في أن يشد غلاف كل منها الزبون الطامح لمعرفة الأسرار. وقد يكون سبب إخبار أصدقائه له بالكتب الجديدة مراقبته ومعرفة هل ستؤثر فيه تلك الكتب أم سيظل واقفا في مكانه ويتأكدون من أنهم كانوا على حق في الانصراف عنها. يمسك بالكتاب الجديد أو بطرق جديدة للنجاح ولا يرتاح إلا بعد أن يأتي على الكتاب في أسرع وقت وغالبا في جلسة واحدة. المشكلة أنه أثناء قراءتها وفور انتهائه منها يشعر بنور داخلي ويجد الطريق أمامه صار متسعا و سهلا ويرى مجموعة النصائح المركزة مفاتيح ستفتح أمامه أي باب وما عليه إلا أن يستخدمها ويشهرها أمام صعوبات الحياة. لكنه يشعر بكل هذا وهو على الشاطئ أو بين ضفتي الكتاب لأنه ما إن يستأنف حياته المعتادة  حتى يجد نفسه يتصرف بنفس الطريقة التي يعرفها عن نفسه والتي يحاول تغييرها بأية طريقة. أو يتذكر تلك النصائح قي نهاية اليوم أو في وقت غير مناسب. مثلا يتذكر بأن عليه ألا يؤجل أشياء يستطيع إنجازها الآن،  فتجد نبرات صوته تتغير فجأة وهو يتحدث معك ليقترح عليك الانطلاق في رحلة الى الإسكندرية، وقد توافقه على الاقتراح لكن ما إن تبحثا عن أنسب الأوقات للرحلة تتراجعان، لا لشيء إلا لضيق الوقت وارتفاع تكاليف الرحلة في الوقت الذي تحتاجان فيه كل جنيه. ولا يظهر أية مقاومة في التراجع فبقدر ما أسعفته تلك الكتب في اقتراح الرحلة بقدر ما ساندته أيضا في التراجع، فعليه كما نصحته أن يخطط لأفعاله ولا يتسرع ولا يترك أموره بين يدي أهوائه. يعجبه دائما في هذه الكتب استخدامها لضمير المخاطب. مباشرة يتوجه الكاتب إليك أنت أيها القارئ ويحدثك حديث الأصدقاء الذين لم يفترقوا أبدا وأنه لا يشك في أهمية ما يقوله لك بل وقد يسألك بنبرة العليم بأحوالك: ألم تفعل هذا. ألم تقع في هذا. ألم تشعر بهذا؟ أسئلة يعلم الكاتب إجاباتها مسبقا لأنه يعرف طبيعة من يدفعون النقود لشراء كتابه وينتظرهم ليلبي احتياجاتهم. قال له صديق إن هذه الكتب مثل الإعلانات التي تدفعك للاتصال بالتليفون والإجابة على الأسئلة للفوز بآلاف الجنيهات أو الملايين. الاثنان يتشابهان في أنهما يخاطبان ويناديان على الذي يأس من إيجاد حل لمشاكله. أي حل. وإن كانت الكتب توهمه بأنها تحترم يأسه وتضع الكرة في ملعبه وترشده لطريقة لعبها. في مرة نظر إلى فرشة بائع جرائد فوجد أكثر من عشرة كتب من نوعية الطريق إلى النجاح. شعر بأن ازدياد عدد تلك الكتب دليل على أن هناك كثيرين يشاركونه البحث عن النجاح لكنه في نفس الوقت وجد أن الرواج والانتشار دليل على احتياج السوق أيضا وأنها صارت سلعة مطلوبة هذه الأيام. تذكر مرة أخرى خبرا قرأه في إحدى الجرائد، أن مصر تطبع من كتب ” كيف “: كيف تكون مديرا ناجحا، كيف تفكر، تحب، تعيش… أكثر من خمسمائة كتاب سنويا وأن توزيعها يحقق أرباحا تفوق العشرة ملايين جنيه، وفكر مرة أخرى أيضا أن سؤال ” كيف ؟ ” يثير لعاب أي شخص لكنه سيصطدم بعد ذلك بسؤال أين يحقق ما تعلمه من كيف. وجد ” أين ” هي المشكلة الحقيقية التي تنتظر كل من يعبر حاجز كيف، وفي نفس الوقت تكاثر تلك الكتب يوحي بضآلة ” أين ” مادام ما يجب أن يتعلمه الشخص من كيف يتكاثر، وقد توحي أيضا بضرورة أن تتقبل المتاح لك من عمل مادمت لا تقدر على مواصلة تتبع كيف التي لا تنتهي. قد يصارح نفسه بعد هذا التفكير العميق بأهمية أن يتخذ القرار بالتوقف عن الانشغال بهذه الكتب، وأن يعتبر حياته بنجاحاتها وإخفاقاتها أحسن دليل ومعلم له ليطور من نفسه ويكتشف إمكانيات جديدة داخله، لكنه يتشكك في ضرورة اتخاذ مثل هذه القرارات ويرى أن إدمانه في البحث عن كتب ” كيف ” دليل واضح على رغبته في التغيير والوصول الى أقصى ما يمكن، وما عليه سوى الصبر حتى يأتي الوقت المناسب لتزدهر في حياته كيف وأخواتها اللاتي لا يعرف ولن يعرف أبدا عددهن.

حكاية تافهة

قصة ” حكاية تافهة ” من قصص تشيخوف الطويلة، والتي أجدها تبتعد عما اشتهرت به قصصه القصيرة من نهايات مفاجئة تم الإعداد لها جيدا ومن ذكاء واضح في صنع المفارقات. في ” حكاية تافهة ” تتكشف لنا التجربة القصصية بعد أن تكون النهايات المفاجئة قد اتضحت ونكمل السير مع شخصيتها الرئيسية بعدما اتضح لها ما كان خافيا عنها طول سنين طويلة، فمنذ الصفحات الأولى في هذه القصة الطويلة نتعرف على الدكتور نيقولاي ذائع الصيت وهو يرى شعوره المطمئن بحياته وبعمله وقد انقلب عليه وصار يرصد تفاهة ما يحيطه وعدم جدواه ويصاب بالأرق الذي يبدو ثمرة حياة امتدت 62 عاما. وخلال الرصد الدقيق لحالة الأرق نتتبع مشاعره المتضاربة بأفراد أسرته والتي تصل به الى شكه في أنه يعرفهم ويحاول رسم ملامحهم وصفاتهم ومعنى العلاقة معهم. وقد نظن أن هذا ليس جديدا على تشيخوف فدائما ما تقصى مشاعر متضاربة تصيب شخصياته لكننا هنا لا نجده يحاول الوصول بتلك المشاعر إلى أقصى نقطة ممكنة حتى تنفجر وتشكل نهاية مفاجئة بل يظل الدكتور رغم استغراقه في تضارب مشاعره وتخيلاته الغريبة يتعامل معها كأنها شيء عادي يعادل رتابة وقائع حياته وتكرارها المميت كأننا إزاء شخصية تعيش حالة ” على وشك الانفجار ” بنفس رتابة معايشتها لأفراد أسرتها وطلاب الجامعة وتتساقط توقعات من ينتظر انفجارا ويحل مكانها تأمل الدرجات المتباينة للانفجار المؤجل. وتشاركه في هذه الحالة الفتاة التي كان وصيا عليها، وتمثل لقاءاتهما مسرحا تتجسد عليه كل الاحتمالات الممكنة للمستقبل والتشكيك فيها في نفس الوقت، لقاءات امتداد لحالات الأرق وإن بشكل معلن. ويكثر راوي القصة الدكتور نيقولاي من عدم قدرته على تسمية الكثير من المشاعر والأفكار رغم أنه يصف تفاصيلها بدقة تشبه دقته العلمية المشهور بها، فالعجز عن التسمية يدفع الراوي إلى رصد المزيد من التفاصيل فيما يحيطه أو داخله بثقة العالم اللامع وبتعثر من تتكشف له الحياة لأول مرة.

عودة إلى الملف

 

 

مقالات من نفس القسم