د. صلاح السروي
فى رواية “إنجيل مها” للروائي د. حسن هند، والصادرة أخيراً عن دار ابن رشد بالقاهرة، يتجاور الماضى والحاضر على نحو سيمترى، فتأتى الرواية على هيئة التعاقب بين ما تسميه بـ”العهد القديم” و”العهد الجديد”. والمقصود بالطبع، هو الدلالة اللغوية المباشرة، وليس الدلالة الدينية التى يمثلها “الكتاب المقدس”، وهو ما يعنى أن أحداث الماضى تماثل، أو ربما تضاهى، على نحو أو آخر، ما يتم فى الحاضر. ومن يمكن فهم عبارة: “التاريخ يعيد نفسه”، وهى التى تكررت كثيرا فى ثنايا الرواية.
لذلك جاء بناء الرواية قائما على هذا التوازى. وما يجمع بينهما أن مصر، فى كلتا المرحلتين، كانت تواجه منعطفا تاريخيا كبيرا (مع الفارق) فى كل من:
– ثورة يوليو وثورة يناير، والآمال المحبطة التى نجمت عن الثورتين. (فيما يتعلق بالديمقراطية، على وجه التحديد).
– السنهوتى وحفيدته، كلاهما يواجه العالم ببراءة ودون مصالح خاصة. الرواية تنتصر للسنهوتى، الذى درس فى فرنسا وتلقى تعليما راقيا وتزوج من امرأة راقية وعمل فى أهم مشروع اقتصادى وطنى (بنك مصر) ووزع جزءا من أرضه على الفلاحين، مبشرا بالاصلاح الزراعى. كما أنها تعلى من شان السنهورى الذى انحاز للدستور والقانون، على الرغم من أنه أيد ثورة الضباط واتهم بالشيوعية، ولكنه فى النهاية لم يرق لهم لمعارضته حل الأحزاب.
– (الضباط) الضابط ماهر، والضباط الأحرار. كلاهما لديه من الحسابات والتلاعب بالخصوم، وكلاهما يملك خيوط اللعبة.
– (الإخوان) الهضيبى و(الشيخ) زوج ثريا (الذى لم يذكر اسمه إلا بلقب “الشيخ”) والفارق هنا أن الإخوان، فى هذا الزمان أصبحت لهم علاقات أكثر تشعبا بالخارج والداخل (أمريكا وألمانيا وانجلترا) وفى كل اتجاه، قياسا بالماضى، حيث كانت العلاقة تقتصر على الملك والإنجليز.
لكن الفارق أن الضباط، هذه المرة، هم الذين يمثلون الحكم، بينما كانوا فى السابق، هم القوة الطليعية الثائرة ضد الحكم.
ولعل الرواية قد اكتسبت مبرر عنوانها من حيث محاولتها استثمار الشحنة الدلالية الكامنة فى مسمى “العهد القديم” و”العهد الجديد”، اللذين يمثلان الانجيل (أو الكتاب المقدس) الذى يحتوى على العهدين معا. ومن حيث كونهما لايتناقضان بل يبدو أن العهد الجديد يراكم دون تناقض على ما جاء به العهد القديم.
ومن هنا يصح ما إشرنا اليه آنفا من أن كلا العهدين فى الرواية لا يتناقضان ولا حتى يتجادلان وإنما يتضاهيان ويتشابهان. وربما كانت عبارة “إنجيل مها” التى تمثل العنوان، تدل على أن المقصود بالعهد الجديد هو سيرة مها وعثراتها فى طريق حياتها، مشبهة إياها بالمسيح الذى يتألم على الرغم من كونه لا يريد إلا الخير. ومن هنا يمكن اعتبار مسيرة الرواية سجلا لما يعرف بـ”طريق الآلام”، الذى لاقاه السيد المسيح، وتحدث عنه الإنجيل.
تتمحور بؤرة الصراع فى الرواية على محورين، أو لنقل خندقين متقابلين. هما مصر وشعبها ممثلين فى السنهوتى والسنهورى وأضرابهما، من جهة، والإخوان وحلفائهم، من جهة ثانية. وعلى الرغم من أن هذين المحورين يمكنهما الاقتراب فى بعض الأحيان (علاقة السنهوتى بالهضيبى) فإنهما على الدوام فى حالة تناقض وتغاير، إلى أن يصل الصدام فى نهايته إلى وضع تناحرى صفرى بامتياز، كما فى الوضع الراهن. وربما تحاول الرواية، بذلك، الإشارة إلى أن ما يشهده واقعنا (تدور احداث الرواية فى الفترة من 25 يناير 2011 إلى ما قبل الثلاثين من يونيو 2012) إنما هو حصيلة هذا الانسياق وراء سراب إمكانية إدراج هذه الجماعة فى النسيج الوطنى، والتخاذل فى تحديد موقف قاطع منها، منذ بدايات ظهورها.
وبين هذين الخندقين يوجد خندق ثالث هو خندق (الضباط)، سواء أكانوا متمثلين فى ضباط يوليو، فى الماضى، أو الضابط (ماهر)، فى الحاضر. وهو ضابط الأمن الوطنى الذى يلعب مع الجميع، أو قل إنه، فى الحقيقة يلعب بالجميع. ولكنه يتميز عن الطرف الآخر بوضوحه وقدرته الفائقة على الحضور الكفء فى المشهد.
ويتركز الصراع، فى “العهد الجديد”، على من الذى سيمكنه استقطاب (مها) إلى صفه، ويأخذها فى جانبه. هل هو الوطن والشعب الفقير المطحون، أم (أحمد عطية) الإخوانى المتلون المتعدد العلاقات واللائذ بجناح “الشيخ” والد مها، أم ماهر ضابط الأمن.
وعلى هذا فإننا نرى أن الرواية تتمحور حول شخصية (مها)، على التحديد، فهى تحتل البؤرة المركزية للعمل، ليس فقط لأن الرواية جاءت باسمها، لكن أيضا لأن كل ما جاء من شخصيات، سواء، أفى الماضى، أم الحاضر، إنما كان مكرسا لابراز واقع وآمال وإحباطات (مها). وإن غلب عليها كثرة التفاصيل المتعلقة بصيرورة الأوضاع فى المرحلتين. وما جاء الماضى، سوى، لتبيان جذور ماهو حاصل فى الحاضر، سواء أكانت جذور الأحداث أو جذور (مها) نفسها، على المستوى الشخصى والتكوينى، أو جذور باقى الشخصيات، وما ترمز اليه على المستوى السياسى والاجتماعى.
وعلى هذا، يمكن أن تعد شخصية (مها) بمثابة بنية دالة، داخل العمل، لتتجاوز كونها مجرد شخصية روائية، إلى أن تصبح ممثلة لرمز (وطنى) سابغ الدلالة. فهى هنا تشبه، على نحو ما، الدلالة المركزية لشخصية (حميدة) فى رواية “زقاق المدق”، و(زهرة) فى رواية “ميرامار”، لنجيب محفوظ، و(بهية) فى “منين أجيب ناس” و”ياسين وبهية”، لنجيب سرور، و(بهية) فى فيلم العصفور .. الخ.
وربما رشحها، لاحتلال هذه المكانة، كونها جمعت، على المستوى الشخصى، كونها سليلة الجد (الفلاح المصرى)، الذى تسرى فى عروقه دماء (تركية)، ويتسلح بثقافة حديثة، وانتماء ليبرالى منفتح. ومن ناحية الجدة ذات الدماء الفرنسية، التى ربما تمتد الى أصول روسية .ومن ثم فهى تمثل، من الناحية العرقية والثقافية، نموذج الشخصية المصرية ذات الانتماء “المتوسطى”، كما ذكرت الرواية، (ناسبة هذا التصور إلى طه حسين)، المنفتح العقل والتواق الى التقدم والحرية. فهى، كذلك، الفتاة المصرية التى تعلمت فى مدارس وجامعات أجنية، على الرغم من أن أباها ينتمى إلى جماعة الإخوان المسلمين.
وهى، أيضا، تمثل الأرستقراطية المصرية التى انحدر بها الحال لتصبح منتمية إلى الشرائح العليا من الطبقة الوسطى، ويتسلق على أكتافها كل المستغلين مثل أبيها (الشيخ)، أو من حاول الاقتراب منها أحمد عطية، وإن دافعت عن الفقراء وتسلحت بالليبرالية. فهل هذه هى نموذج “الوطن” كما تحاول أن تقدمها لنا الرواية .
إذا صحت هذه الاستنتاجات، فالجميع يتسابق ليخطب ود مها) من إسلاميين (أحمد عطية، الذى كان يعمل فى أرض جدها ووالدها) إلى الضابط ماهر. وهى لا تلقى منهما إلا الخديعة والخسران.
وعلى الرغم من مشاركتها الجسورة فى ثورة يناير وبدايات ثورة 30 يونيو، بغية تحقيق “الديمقراطية”، سيرا على طريق جدها، وبالمخالفة مع اتجاه أبيها، فإنها لم تجن من ثورة يناير إلا الخذلان والنكوص، بسيطرة الإخوان فى نهاية المطاف. فمن حيث أردنا الديمقراطية والقضاء على الفساد ، جاءوا لنا بدكتاتورية أبشع مما كان فى السابق (الإعلان الدستورى الذى صكه مرسى ومنح نفسه فيه صلاحيات مطلقة) مع قمع وعنف لا متناه.
تماما كما لم يجن جدها، من ثورة 52 ، الا الخسران، (من ناحية الطموح الى الديمقراطية وسيادة القانون، باعتباره رجل قانون ليبرالى). حيث تم تأميم ممتلكاته وهو المبشر بضرورة تغيير الأوضاع فى مصر.
أما ثورة 30 يونيو فعلى الرغم من أن الرواية قد توقفت قبلها، (عند معركة الاتحادية قبل إقصاء مرسى، وهذا يعنى أن الرواية تحتمل جزءا ثانيا)، فإننا نستطيع أن نخمن النتيجة منذ الآن نظرا للبعد الكامل عن الديمقراطية الذى أسفرت عنه نتائج تلك الثورة (حتى الآن على الأقل). فهل تدعم الرواية القول بأن “كل فاوست يؤدى إلى دون كيشوت” كما قال السنهوتى لكاترين، ص 38 بما يفضى بنا إلى نوع من العدمية والميلودرامية.
تصنيف الرواية:
يمكن اعتبار رواية “إنجيل مها”، من الأعمال التى تنتمى إلى منحى “الرواية التاريخية”. من حيث أنها تتحدث عن أحداث وشخصيات تاريخية معروفة وتوقف عندها المؤرخون (من قبيل: الضباط الأحرار والملك والنحاس والإنجليز .. الخ)، بشخوصهم وأسمائهم ومسالكهم. حتى فيما يتعلق بالحاضر فهى تتعرض لحدث تاريخى جلل وهو ثورتى يناير ويونيو بأبطالهم الحقيقيين، (من مبارك وعمر سليمان إلى المجلس العسكرى والإخوان ومرسى والشاطر .. الخ). وحتى الأحداث، فهناك مذبحة ماسبيرو، وأحداث مجلس الوزراء، وأحداث قصر الاتحادية، والاستفتاء على الإعلان الدستورى .. الخ.
بيد أن الغاية هنا ليست معالجة قضايا تنتمى إلى الماضى، بالطبع، بل معالجة الحاضر، من خلال الاستعانة بأحداث الماضى المعروف باعتبارها عناصر معهودة وتمتلك دلالة جاهزة. فيصبح وجودها، على هذا النحو الموازى، بمثابة (كناية) تقوم بدور تأويلي وتفسيرى لطبيعة ما يحدث فى الوقت الراهن. وأيضا لمحاولة ايجاد وتحديد جذوره واسبابه، على وجه اليقين. وربما، لذلك ركزت الرواية على قيادات تنظيم الإخوان (حسن البنا والهضيبى) فى علاقاتهم بالملك والانجليز. بما يوضح العداء الكامن لدى الاخوان لكل الحركات الوطنية والتقدمية وعداءهم للوطن ذاته، فقد كانوا دائما فى خدمة أعداء الشعب والوطن (الانجليز وعبود باشا الذين حاولوا تحطيم بنك مصر ص131)، مقابل خدمة أهدافهم فى السلطة والخلافة .. الخ.
استخدام الضمائر
جاء “العهد القديم” كله بضمير المتكلم على لسان حلمى السنهوتى، بينما جاء العهد الجديد بضمير الغائب على لسان الراوى. فهل لهذا دلالة على مستوى الرؤية؟؟ ربما كان المقصود هو التدليل على أن الزمان الماضى الذى كان السنهوتى يحتل بؤرته ويتحدث باسمه إنما يفضى إلى ما نحن عليه الآن بكل تنوعات واقعنا الحالى وترامى أطرافه. كما يمكن القول بأن السنهوتى، من حيث الثقافة والتوجه السياسى والانتماء الطبقى، كان يحتل مركز هذا العالم القديم، بينما لم تعد حفيدته تحتل الموقع ذاته. فأصبح يشاركها فيه، وربما فاقها فى الأهمية، كثيرون.
استخدام تقنية المذكرات والرسائل
ومنها إيراد مذكرات السنهوتى التى تحاول ثريا (والدة مها) نشرها. ومذكرات السنهورى عن علاقته بزينب الغزالى التى وردت فى ص180، وكذلك تقنية الاستعانة بالرسائل، مثل رسالة أحمد عطية إلى مها. وهو ما يجعل الرواية تقترب، بانتسابها إلى الرواية التاريخية، إلى منحى “الرواية الوقائعية” (التوثيقية)، وكذلك ما يعرف الآن باسم “الرواية المعرفية”. وهى تلك المناحى السردية، التى توظف البنى المعرفية والوثائقية فى السرد، بما يجعله أقرب إلى مشابهة الواقع ومضاهاته. ومن قبيل ذلك، أيضا، الإغراق فى تفاصيل أنواع السلع والمواد الاستهلاكية مثل النص على نوع السجائر “المارلبورو” ص ص8 و”الكيموكونو” ب”الشيكولاتة” أو “الفانيليا” ص9. وهو ما يؤكد المنحى التأريخى الوقائعى (الوثائقى) للرواية.
وفى النهاية نستطيع أن نقول بأننا أمام محاولة جديدة، جادة ومخلصة، للحقيقة وللفن معا، لتقديم نوع من التفسير الفنى والجمالى لما آل اليه أمرنا، بعد كل هذه الثورات. لتصطف رواية “إنجيل مها” مع لداتها من الأعمال الروائية التى اقتربت على نحو آخر من حدث ثورة 25 يناير بكل مآزقه ومآلاته.