ثلاث قصص

suad
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

سعاد الراعي

 إن شاء الله، يا أستاذة

كانت أوقاتها في المعهد تنتظم بانتظام الدقائق على عقارب الزمن؛ تحضر إلى محاضراتها حين تدق ساعتها وتغادر فور انتهائها، إلا ما استثنته الاجتماعات الإدارية الدورية والأنشطة التعليمية التي تفرض حضورًا كاملاً. وفي أول أيام العام الدراسي، بعد عطلة صيفية امتدت كفسحة تأمل بين ضفتي الروح، قررت أن تسبق محاضرتها بساعة كاملة؛ علّها تلملم أنفاسها قبل أن تواجه وجوه الطلبة الجدد.

توجهت نحو غرفة الإدارة لتوثيق حضورها حسب مقتضى النظام، لكن العميد استوقفها بلطف وأشار إليها أن تتبعه إلى مكتبه، مبديًا رغبته في مناقشة أمر يتعلق بأحد الطلبة. رغم استغرابها من هذا الاستدعاء المبكر، فإنها لم تبدِ اعتراضًا؛ فما يزال اليوم وليدًا، والطلاب وجوه جديدة لم تألفهم بعد. اكتفت بالقول:
– إن شاء الله خير.
ابتسم العميد، وكأن في ابتسامته عزاءً خفياً، وقال:
– نعم، كل الخير بإذن الله، وكما عهدناك دومًا: الصعب أمامك يسير، والمعقد بين يديك يلين.

ثم جلس مستندًا إلى ظهر كرسيه، وأخبرها ببساطته المعهودة
– أحد الطلاب يرفض حضور محاضرتك… لأنه يرى أنكِ غير محجبة.

رفعت حاجبيها بدهشة، وقالت بصوت حائر:
– ولكن… المعهد يضم العديد من الزميلات والعاملات غير المحجبات، وأضافت مبتسمة: بل إن نائبة العميد نفسها، وأشارت اليه، ليست محجبة

أجابها بهدوء:
– أعلم ذلك، وقد أوضحت له أننا لا نفرض زيًّا موحدًا، ولا نُخضع القوانين لأهواء الأفراد. ومع هذا، أصرّ على موقفه، وذكر اسمك تحديدًا. ربما لأنه لم يسبق له حضور محاضرة لك.

تنهّدت عميقًا، كأنها تحاول أن تلفظ معها كل ذلك العبث الذي يتسرّب إلى جدران المعرفة. تمتمت بمرارة:
– الحجاب… الحجاب… كل يوم أسمع صراخ شيوخ ومفتين، خطباء المسجد القريب من بيتي. لا يكفون عن الشتائم والوعيد ضد كل امرأة لم تخضع لمقاييس دينهم الخاص، يحرّضون الأزواج والشباب البسطاء ضد النساء، بأقسى العبارات وأقذرها سوقية، حتى يُخيّل للسامع أن العالم لا يتسع إلا لكلمتين: يا أبيض، يا أسود… يا حلال، يا حرام! وان المرأة هي اس المشاكل في عالمهم. سكتت لحظة، قبل أن تعود إلى رباطة جأشها قائلة:
– أشكرك على إحاطتي بالأمر. أرغب أن أجتمع بالطالب بعد انتهاء محاضرتي، في المكتب… لعلني أفهم مشكلته عن قرب.

خرجت من مكتب العميد، وحولها ظلال الأسئلة تتهامس؛ هل كان عليها أن تخوض معركة أخرى في سبيل حرية الفكر، أم يكفيها أنها واقفة هناك، بكرامتها، تقرع أبواب الوعي في زمن غلّفت فيه الأرواح بالخوف والجهل؟

بعد انتهاء المحاضرة، قصد الطالب مكتب الأستاذة، فتلقته بابتسامة دافئة رغم أنه لم يكلّف نفسه عناء إلقاء التحية. دعته إلى الجلوس… وسألته، بهدوئها الذي اعتادته روحها:

ــ بلغني أنك تمتنع عن حضور محاضراتي بدعوى أنني غير محجبة، أهذا صحيح؟

أجاب الطالب، مختصرًا كلماته:
ــ نعم.

تأملته لحظة، ثم تابعت بنبرة هادئة ولكنها تحمل عمق التساؤل:
ــ ولكنك تجلس في قاعة واحدة مع زميلات لسن جميعهن محجبات، أليس كذلك؟

أجابها بنفس الجمود:
ــ نعم، غير أنني سمعت أنك تتحدثين عن الحرية الفكرية والعقل، وأنك علمانية ملحدة.

ابتسمت ابتسامة خفيفة، لا سخرية فيها ولا مرارة، بل حكمة امرأة أدركت تناقضات الحياة، وقالت:
ــ إذن ليست المسألة مسألة حجاب فحسب، بل تتعلق بالحرية والعقل، او ربما هي موقف شخصي؟ … يبدو أننا أمام عدة محاور للمشكلة، يتوجب علينا التوقف عند كل منها بتؤدة. ما رأيك؟

تردد الطالب، وارتبك؛ كان في عينيه شيء من الحيرة، وفي أطرافه ارتباك لم يحسن إخفاءه. وقبل أن يجيبها، التفتت الأستاذة وقد لمحَت الفراش يمر قرب باب القاعة، فنادته بنبرة دافئة:

ــ يا عم صالح، لو تكرمت… اثنين شاي باللبن، بارك الله فيك.

ثم التفتت إليه وقالت مبتسمة:
ــ يبدو أن حوارنا سيطول، فلنتهيأ له.

استأنفت بلطف:
ــ بالمناسبة، لم أتشرف بمعرفة اسمك.

ردّ الشاب، محاولًا ترتيب أنفاسه:
ــ عبد القادر اليافعي.

ابتسمت بتودد صادق وقالت:
ــ تشرفنا يا عبد القادر… فلنبدأ إذن بالحجاب، ما رأيك؟

هزّ رأسه موافقًا، فاسترسلت تسأله:

ــ هل أنت ضد كل النساء غير المحجبات؟

أجاب بتأنٍ:
ــ لا، ليس جميعهن، ففيهن المؤمنات.

رفعت حاجبيها قليلًا، مستفهمة:
ــ حسنًا، وكيف تميز إيمانهن؟

أجاب، مترددًا، وكأنما يستدعي صورة ذهنية رسمها في أعماقه:
ــ المؤمنة خجولة، هادئة، لا ترفع بصرها… وغالبًا ما تكون محجبة.

ابتسمت الأستاذة بحكمة العارف، وقالت بنبرة عميقة تحمل قدراً من العتاب الهادئ:
ــ لكن، يا عبد القادر، ما ذكرته كله لا يعدو كونه سلوكًا اجتماعيًا خالصًا، حتى الحجاب ذاته، سلوك اجتماعي مقصده الحشمة والحياء… سلوكٌ يتشكل في قلب التربية والموروث الاجتماعي للفرد، وليس عبادة مستقلة بذاتها، مَنْ ارادت ارتدائه فلها، ومَنْ لا، فلا يحق لنا ان نرميها في النار ونصفها بأقسى العبارات.

ساد بينهما صمت قصير، كأنما المكان يحتبس أنفاسه، فيما كانت الأفكار تتقاطر في ذهن عبد القادر، تطرق بحدة أسوار معتقداته.

قال بصوت يتهدّج بين اليقين والتحدي:

 ــ أليس الحجاب فرضًا قطعيًا؟ أولم يرد في القرآن: (وليضربن بخمرهن على جيوبهن)؟

رمقته بنظرة يختلط فيها الصبر بالحزم، وقالت:
ــ نعم، وردت الآية. لكن ألا تعلم أن الجيوب هي فتحة الصدر؟ وأن” ليضربن” تعني تعديل هيئة اللباس بما يصون، لا أن تُفرض طبقات من القماش دون وعي أو بصيرة؟ الدين ليس قيدًا يُصاغ على هوى من يشاء، ولا قالبًا جامدًا تتوارثه الألسن دون أن يمر بالقلب والعقل.

ابتسم ساخرًا:
ــ أهو الدين كما ترغبين؟ وفق الأهواء؟

ردّت بصوت متزن يحمل دفء الإيمان وصرامة الفكرة:
ــ لا، بل هو دين يُؤخذ بعقلٍ نيّر، لا بعاطفة مضللة. أولم يقل سبحانه اقرأ؟ لم يقل: اتبع وقلّد، بل اقرأ، افهم، تدبّر… الإيمان دعوة للعقل قبل أن يكون تقليدًا أعمى.

تململ في مقعده وقال بتوجس:
ــ ولكن بهذه الطريقة يضيع الدين…

نظرت إليه بعينٍ تتقد بثقة المعرفة:
ــ لا يضيع الدين بمن يسعى لفهمه، بل يضيع حين يُسلَّم للجهلاء، حين تُستقى أحكامه من أفواه كل من هبّ ودبّ. أما من يجتهد بمنهج وبصيرة، فإنه يقترب لا يبتعد. ألم تقرأ: فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه؟ اقرأ القرآن الحي بقلبك كما تقرؤه بعينك، دع قلبك دليلك لا قلوب المتجمدين الذين يرون في الدين مظاهر، ويغفلون عن جوهر الرحمة والهداية.

سألته فجأة، بابتسامة مشاكسة تخبّئ شفقة:
ــ هل تحفظ من القرآن شيئًا؟ وأعني شيئًا يتجاوز السور القصيرة…

تلعثم، ثم استجمع ذاكرته المتواضعة وقال:
ــ نعم… آية الحجاب: يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن…”

شجّعته:
ــ أحسنت، أكمل الآية…

نظر في الفراغ قليلًا، ثم قال باعتذار:
ــ لا أذكر…

فأكملت له، بصوت امتزج فيه الحنان باليقين:
ــ ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين…”، أتدري؟ الغاية من إدناء الجلباب لم تكن عبادة شكلية، بل حماية من أذى اجتماعي، ولذا لم يرد ذكره في أركان الإسلام الكبرى. فالعبادات لا تُقاس بظاهرها بل بمقاصدها.

قال بحدة خافتة:
ــ لكن الشرائع فرضته…

هزت رأسها وقالت بهدوء الواثق:
ــ الشرائع اجتهادات بشرية، قابلة للأخذ والرد، ولذا هم يختلفون، بل يكفّر بعضهم بعضًا. سمعت ذات مرة جدالاً محتدمًا بين رجلين حول هيئة لباس الرجل: أحدهم يرى أن يرتفع الثوب عن الكعب شبرًا، والآخر يصر على خمسة عشر سنتيمترًا! بالله عليك، هل اختُزل الدين في خمار وثوب؟ الإيمان عماده القلب، وأركانه الخلق، وثمرته العمل.

اعتدل في جلسته، كأنّ ما سمعه بعثر شيئًا بداخله وأعاد ترتيبه.

قال بنبرة متحدية:
ــ الدين جاء ليُطاع، لا لِيُفلسَف، والحجاب وجوبٌ لا مجال فيه لتلك التأويلات.

أجابته بثقة:
ــ ومن قال لكِ إن الحجاب مجرد قطعة قماش تغلّف الجسد؟ الحجاب ينمو في الروح قبل الجسد.

قال، بعد تردد:
ــ لكن… هذا ضياع وتحلل، والحرية قد تؤول إلى انفلات، والعقل يضل إن لم يُقيده الشرع.

ابتسمت، وفي عينيها ضوء يشبه الفجر:
ــ بل هو الجمود على ظاهر النصوص دون فهمها.
الحرية نورُ العقل حين يهتدي بالله وبكتابه.
قال تعالى: هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟
والحرية الحقة أن نؤمن لأننا اخترنا، لا لأننا أُكرِهنا.
أما التكفير الذي يعتليه خطباء المنابر صباح مساء، فهو ما يُضل ويؤدي الى الفتنة، لا الحرية.
اقرأ إن شئت: فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر…”

سألها وقد بدأ فكره يتأرجح بين ما اعتاده وما يسمعه:
ــ يعني، هل العقل فوق النص المقدّس؟

أجابته بثبات:
ــ العقل خادم النص ومصباح فهمه، لا خصمه.
والله تعالى يأمر عباده بالتدبر والتفكر قبل الاتباع، لا العكس: (قل هذه سبيلي ادعوا الى الله على بصيرة)، (افلا تعقلون)، (فتدبروا يا اولي الالباب).
فيا عبد القادر، الإيمان بحاجة إلى التدبر والتبصر والحوار.

نظر إليها مستفهمًا:
ــ هل تخصصتِ في أصول الدين؟

ابتسمت قائلة:
ــ لا، وأنت تعرف تخصصي.
لكن فهم الدين ودراسته ليست حكرًا على جنسٍ أو جماعةٍ دون غيرها.

ساد بينهما صمت…
لكنه لم يكن صمت الختام، بل بداية تفكر.

قالت وهي تنهض:
ــ أنا دائمًا متوفرة إن رغبت بمواصلة الحوار، وأتمنى أن أراك في القاعة مع بقية الطلاب غدًا.

أجابها بهدوء:
ــ إن شاء الله، يا أستاذة

**

الدرس الاخير

 

كانت شعلة من نورٍ دافئ، لا تحترق لتُنير، بل تتوهّج حبًا وإيمانًا برسالة التعليم. حضورها لم يكن يستدعي الهيبة بسطوة، بل يغرس الاحترام في القلوب كما يُغرس الحب في الأرض العطشى. لم تكن أستاذة تقف على منصة لتلقّن، بل كانت تنزل إلى أعماق أرواح طلابها، تحادث عقولهم كما تحادث القلوب المرهفة، وتبني معهم جسور ثقة راسخة من ايمانها بان العلم حين يُزرع بالحب، يُثمر وعيًا لا يذبل.

وفي ختام إحدى محاضراتها، وبينما كانت تهمّ بمغادرة القاعة، استوقفتها صورة لا تُنسى: حشد من الطالبات التفّ حول طاولة يتوسّطها صمت ثقيل، في قلبه جلست فاطمة… تلك الطالبة الغامضة، التي لا يُرى منها سوى عيون تغزل الغموض من سواد حجابها الكثيف. كانت تبكي، بصمتٍ يكسّر وقار اللحظة.

تريثت الأستاذة بالمغادرة سعيا منها لمعرفة ما يحدث وانتظرت حتى غادر جميع الطلاب الذكور، راحت تراقب الهمس الذي دار بين الطالبات كأنه لغة لا تُفهم… إشارات مشحونة بعواطف عميقة، لكنها عصية على الإدراك بالنسبة لها. اقتربت برويّة، سحبت كرسياً، وجلست قبالة فاطمة، تنظر إليها بعين أمٍّ رؤوم. مدت يدها بلطف نحو يد فاطمة، علّها تواسيها أو تخفف عما يعصف بروحها، إلا أن فاطمة انتفضت، وانسحبت بجسدها إلى الخلف، وأدارت وجهها نحو الحائط، في رفضٍ صارخٍ لم تَعتَدْه الاستاذة من أيّ من طالباتها. وكأنها تقول بصمتٍ موجع: “ابتعدي… لا تقتربي الآن”.

بُهتت الاستاذة من ردّ الفعل الغريب، فطالما أحاطتها طالباتها بالمودة والتقدير والاحترام. لم يكن ذلك مألوفًا لديها. اعتراها قلق خفيّ بأنّها ربّما أساءت دون أن تدري. رفعت رأسها، ونظرت إليهن نظرة استفسار وحيرة، وقالت بصوت امتزج فيه الهدوء بالرجاء:

ــ هل يمكن لاحدكن ان تخبرني ما الذي يحدث هنا؟
لم يجب أحد…
أعادت السؤال، بنبرة أقرب إلى الاستغراب:
ــ هل أنا سبب ما تعانيه؟ هل أخطأت بشيء؟

ساد صمت ثقيل، كأن الزمن توقف للحظة، ثم خرج صوت خافت، متردد، لكنه واضح، من إحدى الطالبات:

ــ نعم، يا ست.

اتسعت عينا الاستاذة دهشة، وتقدمت نحوها بثبات:
ــ إذن… أخبريني، كيف ولماذا؟

ردت الطالبة بهمسة تشبه شهقة قلب:

ــ لأنها ببساطة تحبك، يا ست.

تعجّبت الأستاذة من وقع الكلمات، وابتسمت ابتسامة امتزج فيها الذهول بشيء من الحنوّ، وقالت:
ـ وما الغرابة في ذلك؟ أنا أيضاً أحبها، وأحبكم جميعًا، وأحسب أنكم تبادلونني هذا الحب… أليس كذلك؟

لكن صوت النحيب ارتفع، كأنّ تلك العبارة لم تُسكِّن الروح، بل زادت وجعها اشتعالاً. شعرت أن البقاء في مثل هذا الحال سيزيد الموقف حرجًا. آثرت الانسحاب بهدوء. خطت نحو الباب بخطى متثاقلة، وما إن اجتازت عتبة القاعة، حتى تبعتها إحداهن على استحياء، وهمست لها بصوت خافت، كأنه تسلّل خجل من جدار الصمت
ـ فاطمة… فاطمة تعشقك، يا ست

ـ ماذا؟؟!

توقفت الاستاذة في مكانها، كأن الأرض تجمدت تحت قدميها، وأصابها ذهول مباغت اقشعر له كامل بدنها. راح عقلها يوزن هذا الاعتراف المفاجئ لإحدى طالباتها. كانت الكلمات قليلة، لم تكن في الحسبان، لكنها حملت وراءها عالماً كاملاً من الارتباك والتيه. لم يكن الأمر مجرد بوح عابر من طالبة، بل مسؤولية كبيرة امامها تتطلب المجابهة والحسم..

في تلك اللحظة، بدا كل شيء حولها ساكنًا، الزمن توقف، الأصوات انكمشت. ما سمعته هزّها من الأعماق، هزّ صورة العالم المنظّم داخلها، ذاك الذي لم يحسب يوماً أن يواجه مشهداً كهذا.. شعرت كأنها أُسقطت فجأة في دوامة من الحيرة، تفتّش عن معنى، عن حلّ، عن حدودٍ لهذا الذي لا حدود له.

تجولت في ردهات المعهد كمن يسير داخل كابوس غير مكتمل، حتى حطّت بها الخواطر أمام قاعة المحاضرات من جديد. أغمضت عينيها لبرهة، ثم دفعت الباب بخفة ودخلت. كان في القاعة بقايا من الدموع معلقة في الهواء، فأشارت بلطف إلى الطالبات بالانصراف، راغبة أن تبقى مع فاطمة وحدها.

جلست أمامها، وبلغة دافئة، قالت:
ـ فاطمة، هل نستطيع أن نتحدث كصديقتين؟

لا جواب! سوى شهقات متقطعة، وأنفاس تتصاعد من صدرٍ مثقل. كانت فاطمة تئنّ بصمتٍ لا ينقصه الوضوح، فتابعت الأستاذة،

بصوت هادئ، يختلط فيه الحنان بالحزم، وقد أومأت برأسها بخفة كأنها تنسج من الكلمات أمانًا خفيف الظل:
ــ نعم، يا فاطمة، أنا أيضاً اودك، وأعتز بكِ كثيرًا… أنتِ طالبة مجتهدة، تتركين أثركِ في النفوس. ولكنك، تدركين تمامًا ما الذي يعنيه ذلك. اليس كذلك؟؟

ثم صمتت قليلًا، قبل أن تتابع بنبرة يغلفها الحذر المشوب بالشفقة:
ــ أظنّك الآن تحت وطأة ضغط كبير، ربّما تجاوز قدرتك على الاحتمال، ولهذا أراكِ واقفة وسط دوامة من مشاعر مضطربة، غائمة، لا شكل لها ولا ملامح. تشوّشٌ عاطفيّ كبير، نعم، لكنه مؤقّت… وأنا على يقين أنّك قادرة على تجاوزه، إن أنتِ أمهلتِ نفسك قليلاً، وأعطيتِ لعقلك مساحةً ليبصر الأشياء كما هي، لا كما تُملِيها العاطفة.

ثم ابتسمت، ابتسامة دافئة فيها من الأمومة ما يسكب الطمأنينة في القلب، وقالت:
ــ ما رأيك أن تزورينا في نهاية هذا الأسبوع؟
تعرفين زوجي، الأستاذ طه، وتعرفين أولادي أيضاً… كلّنا سنكون بانتظارك. ستجدين عندنا فسحة من السكينة والهدوء بعيدًا عن صخبك الداخلي، وبعيدًا عن كل هذا الضجيج.

رفّت عينا فاطمة بتردد، كأنها لم تصدق أن الحديث لم يكن لومًا قاسيًا او عتابًا مؤلما، بل رحمة. نظرت إلى طالبتها، وقد بدأ شيء من الأمان يعود إلى ملامحها. ابتسمت الاستاذة في صمت، وقد شعرت بأن شيئاً ثقيلاً بدأ بالانزياح عن كاهلها..

انقطعت فاطمة عن الحضور، كأنها اختارت أن تختبئ عن كل العيون التي ألفتها.

مرّت الأيام الأولى على غيابها، مشوبة بالقلق والتساؤلات. سألت عنها الأستاذة، بعفويتها المعهودة واهتمامها الصادق، فجاءها الجواب خافتًا من بعض الطالبات: “إنها مريضة، يا ست.”

تمنّت لها الشفاء، ودعت طالباتها الى زيارتها والاطمئنان عليها، علّ في الزيارة دفئًا يُعيد لفاطمة شيئًا من العافية:

انقضى الأسبوع الثاني ثم الثالث… ولم يظهر لطيف فاطمة أثرٌ في ركن القاعة، ولا سُمِع وقع خطواتها بين الصفوف. ظلّ الباب موصدًا، وكرسيّها خاليًا، ينعى الغياب بصمته الثقيل. أما زميلاتها، فكانت قلوبهن تترقّب عودتها بصمتٍ مشوبٍ بالرجاء… لكنها لم تعد أبدًا. وكان هذا، دون أن يدرك أحد، درسها الأخير..

**

حين يعبر الضوءــ خطوات تتحدى العتمة

ساعات قليلة تفصل بين عملها في شركة المقاولات الإنشائية ودراستها الجامعية في دوام مسائي مرهق، ساعات في الانتظار المكتوم تقضيه على مقاعد المكتبة الوطنية أو في أروقة العمل الحزبي، تهدر فيه الوقت الذي يخذلها دوماً، والذي لا يكفي لعودتها إلى بيتها النائي، فتواصل رحلتها الشاقة، كعصفورة تقاوم رياح الحياة بجناحين من أمل، واجباتها الحياتية التي تثقل كاهلها، وأحلامها المعلقة على خيوط إرادة لا تلين.

ففي كل ليلة، بعد انتهاء دوامها الجامعي، تعود بخطواتها المتعبة، يرافقها جسد منهك، يتلبسه الإرهاق كعباءة من ألم، وجوع يتآمر مع الإعياء ليسلبها ما تبقى من قوة، وكثيرًا ما يسقط جسدها مغشيًا عليه، مستسلمًا لثقل ظلامٍ يفوق سواد الليل حلكة، ظلام ينبعث من أعماقها ويغمر روحها المتعبة.

كانت تخوض رحلتها المعتادة كل ليلة. عندما تنزل عند محطة الباص، الأقرب إلى بيتها، تضطر للسير، لما يقارب النصف ساعة على قدميها، على شارع طويل مخصص للطرق خارجية، وحيد كأنه منفى، ساكن كأن الصمت نفسه وقد قرر الاستقرار فيه. جو موحش، وظلام كأنه قد سُكب على الأرض بلا رحمة، يتسلل إلى عروقها وخوفًا بردًا ورجفة تتربص بأحلامها المرهقة.

وفي مواجهة هذه الوحشة، كانت تضم بإحدى يديها ملف محاضراتها إلى صدرها بقوة، وتمسد بالأخرى جنينها الذي ينبض في أعماقها كنبض امل لحياة أحلى. كانت تدندن له بأغانٍ، تنسج من حروفها حصنًا من الدفء والأمان، تغالب بها شعور الخوف والتعب الذي ينخر عظامها.

الطريق لم تكن آمنة دومًا. فبين الحين والحين، كان من يتربص بوحشتها في الظلام، يتلصص على ضعفها المرهق، ووهنها المضن. كثيرًا ما كانت تُفاجَأ بأصواتهم الخشنة، ومضايقاتهم الوقحة، وتصرفاتهم العبثية، التي تتجاوز احيانا حد المعقول وهم يمزقون دفاتر محاضراتها، او يسرقون حقيبتها وكأنهم ينهبون جزءًا من حلمها. كم توسلت إلى زوجها أن ينتظرها في منطقة الباص حين يعود قبلها، غير أنه كان يعود غالبًا متأخرًا، مشغولًا بأعماله ومتاهاته.

في ليلة عابسة، ملتحفة بالسواد، ثقيلة مثل همٍّ يستوطن الصدر، كانت تخطو بخطى واهنة، تتعثر بصمت الشارع الموحش، حتى اعترض اولئك المتربصون، المتعطشون للإساءة والتنمر سبيلها. توهجت عيونهم كجمرات مشتعلة، يُلوّحون بجمرات بسجائرهم.. ساخرين منها، كأنهم يلوّحون بنار لا غاية لها سوى إحراق عزيمتها التي تسكن قلبها المنهك.

تاهت نظراتها في العتمة، تتحسس في ظلالها بارقة نجاة تبدو أبعد من الأمل نفسه. كانت أنفاسها متقطعة، ترتجف كأوراق في مهب ريح عاصفة، وعيناها تهيم في الظلام كمن يبحث عن نجمة ضائعة في سماءٍ خالية. شعرت بالخوف يتغلغل في عروقها، وثقل يجثم فوق صدرها يكاد يسلبها قدرتها على الوقوف، حين لمع ضوء باهر يخترق عتمة الليل وسط كل ذلك اليأس، ضوء يتوهج من شاحنة نقل ثقيلة تجوب الطريق على عجل. تملّكها الأمل فجأة، كغريق يمسك بطرف حبل. لوحت بيد مرتعشة، رافعة ملف أوراقها كأنها ترفع راية استغاثة، أو ربما بقايا حلم مهدد بالانطفاء.

التقط السائق إشارتها، وأدرك تفاصيل الموقف بنظرة ثاقبة لا تعرف التردد. فرملت الشاحنة على مسافة قصيرة منها، كأنه يلبي نداءً غير منطوق، نداءً يستنجد بشهامته المكنونة. كان رجلًا جسورًا، تغمر ملامحه الصارمة غضبًا نبيلًا، وقلبًا يتقد شجاعة يندر مثيلها.

ترجل عن شاحنته ممسكًا بأداة معدنية كأنها امتداد لروحه الحامية. اندفع نحو المعتدين كإعصار لا يعرف الرحمة، وصوته يجلجل بوعيد صارم، شاتمًا إياهم بما يستحقون من كلمات. كانت خطواته تروي قصصًا من النخوة والشجاعة، وملامحه تنطق بتصميم لا يقبل التهاون. وبعدما انفضّوا عنهما هاربين. نظرت اليه بعد ان ترك حولها أثرًا من ضوء شق طريقه عبر ظلام كان يهدد بابتلاعها. وقفت مذهولة بين دهشة النجاة وارتعاشة الرعب. ” انه ملاكها الحارس.. هذا ما مر بخاطرها” مدركة حينها أن الخير لا يزال ممكنًا حتى في أحلك اللحظات.

 التفت نحوها بصوت هادئ حاول من خلاله أن يحتوي فزعها. عرض عليها أن يوصلها إلى بيتها. كان صوته كالحياة التي تعود إلى صدرها المنكوب، تنفست بعمق.. وشعور بالأمان والامتنان يغمرها وكأنها نجت من غرقٍ محتم. صعدت إلى السيارة وهي تجر أذيال ما بقي من التعب والخوف، لكن شيئًا من الطمأنينة كان ينمو في صدرها كزهرة تتفتح رغم كل هذا الظلام.

 

 

 

مقالات من نفس القسم

عبد الرحمن أقريش
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

ألم

محمد فيض خالد
تراب الحكايات
محمد فيض خالد

كشف هيئة