ثلاث قصص قصيرة

محمد فيض خالد
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد فيض خالد

أهَالينا

كَغيرهَا من قُرى وعِزب الرِّيف تسمّت باسمِ وجيهِ من الوجَهاءِ، عزبة حسني هي الأقربُ عن جميعِ الأسماءِ، بعفويةٍ سألت ذاتَ أصيلٍ عمي عميد العائلة، شيخٌ طاعنٌ في السّنِّ، ارتسمت فوقَ ملامحهِ الجَادة سيما الوقار والدِّيانة: تُرى لمّا تسمّت بلدنا بهذا الاسم؟!، نَظَرَ طوَيلا في الفَراغِ المُمَدّد فوقَ شواشي الذرة، تلوّنت جبهته ببَريقِ الذِّكرى، امسَكَ عكازه ودكّ جذع نخلة قديم، طالعني مأخوذًا وقد توهجت وجنتاه: عزبة حسني، كانت مِلكا لحسني بيه،. قالوا كان حكمدار المنيا أيام زمان ، رُفع عنه روعه وعَادَ ساكِنا تترقرق في عينيهِ ذكرى أمسه الغَابر، انعزل أهالينا في زمامٍ ضيّق، يطفح كُلّ شيء بالمعاناةِ والفقر، لكن أثرا من الرَّوعة يخالطهم، تجده ممزوجا في صُفرةِ وجوه الرِّجال، بأجسادٍ ممشوقة، نحتتها انحناءة ظهورهم تزحَف خَلفَ الفؤوسِ؛ تقضم شفاه الأرض من مَشرقِ الشّمس حتّى المغيبِ، وسُمرة الصّبايا في حِشمة القروي السّاذج تتمشى في وجوههن، طافحة بالإنوثةِ والفتنة.

يتغزّلُ حسن سلامة في أهلها شامخا بأنفهِ: بلدنا أحسن بلد تحت قبة السّما، ورجالتها جدعان، لكنه الظلام عدوهم وعدو أسلافهم، لعنوه ولعنوا فقرهم الذي أوحَلهم فيه، لا تزال تُغريهم حكايات أبوزيد العايق عن البَندرِ، ينفرج فمه عن ابتسامةٍ حلوة: هناك لا وحل ولا طين، ولا هباب لمبة الجاز، عيش القمح السخن زي الفطير ، وجدوا في كلامهِ ترضيةً وسكينة حتى وإن استثقلوا دمه، انقطعت أخباره سنين طوال، قالوا إنّه يعيشُ في حَارةٍ الغوازي خَلفَ مصنع السِّكر، طبالا في فرقةِ مكاسب، عَادَ ليرد اعتباره مُترفا يرفلُ في ثيابهِ البيض، تبرقُ ساعته الذهبية وسط الحُقولِ، تزهو لاسته الحرير فوقَ كتفه المكتنز، يغرِق بعلب السجائر البلمونت الكُلّ، تُخيم رائحة الكولونيا فوق عطن الرطوبة المنبعثة من خَلفِ الجدران، بالغَ في إنفاقه الحدّ، يُعطي عطية من لا يخشى الفقر، لا يجرؤ أحد أن يسأله عن صَنعتهِ،وإن تغَامروا تَفيضُ صدورهم حِقدا على الصُّعلوكِ، الذي عَادَ يتبختر في أبهةٍ تُلجم الألسن، يقدِّس فقراء بلدنا أبطالهم، يجدوا معهم الخَلاص، لايزال عبدالناصر تعويذة الفقير التي تطرد عنه مآسي الحياة، يتمطّى محروس الدقرم قائلا: كَسر أنف الأمريكان وبنىَ السَّد العالي، هينور الدنيا يخليها جنة ستأتينا الكهربا يوما ما، اعتدل مسعود أبو حطب قالَ بصوتٍ ملؤه الثّقة: شاهدت الجرارات تحمل الأعمدة وتسير جنوبا على جِسرِ المحيط ، طالت أيادي الغدر السادات ليلتئذٍ هَدرت الصُّدور بالحُزنِ، وانسكبت الدمع من مآقي أبناء الطين، انفجرت ينابيع الحُزن فوارة تهدرُ كماءِ التُّرع وقت الدَّميرة، تربّعَ الشيخ فواز القط فوقَ المصطَبةِ يَكرُّ حبات مسبحتهِ في تجلي، حَلَفَ يمينا مُغَلَّظة بأنّ السادات من أولياء الله الصالحين: ألم ينصره الله على اليَهودِ، ومن انتصر على اليهَودِ غيَر النَّبّي محمد وأصحابه؟! ، استَفزَ حديثه عبدالعزيز الترامسي بعدَ غفوة المساء، هَبّ من رقدتهِ، لا يزال طعم النَّوم يُداعبُ جفونه، مَسَحَ شاربه الأشيب المتهدلُ، رمى السّامر المنصوب بنظرةٍ رخوة، قائلا في ثقةٍ: هُمّ طخّوا السادات من هنا وراحوا كلبشوا عبدالناصر من هنا سَادَ صمت صارخ، تَوهجت أثناءه عرائس الظلام، تتراقص منبعثة من لمبات الجَاز المتناثرة في الدَّربِِ، ابتلَعَ السّكون الأخرس الأفق المُتطامن في وحشتهِ، قبل أن تتصايح ديوك الفجر الكاذب، إيذانا بانبلاجِ الصُّبح، لحظات وأرسل النّهار رسله تتلألأ ابتسامتهم الرّمادية التي تسبق الميلاد.

*

 أحلاَهُم

لاتَزال الطّبيعة تجترّ أنفاسَ الصّباح، تتكاثف خيوط الضّباب كأشباحٍ، تتعقّد وتتلوّى فوق الحقولِ، تحتضنُ كُلّ شيءٍ في استماتة، وهكذا يفعل الشتاء في إجتراءٍ، في ذروةِ الصَّمت الذي ران يخيمُ كالموتِ يحتوي البيوت، كانَ نهر الحياة يشقّ طريقهُ بخطواتٍ مُتّئدة، يؤدّيها في اعتيادٍ ورتابة، هناك تراصّت فوقَ الجِسرِ الكبير أمتعة الرُّكاب الرّخيصة، أكياس الخيش، سِلال الخُوص، حِلل النّحاس، ندت على وَجهِ مختار البقال ابتسامة باردة، أبرد من الصَّقيِع المُتَكلّس في المكانِ، قالَ مُتَحسِّسا طَرف جِلبابه البوبلين: أحلاهُم جت ، بادرته زكية بائعة الجبن في مزاحٍ لا يخلو من إسفاف: يكفينا ربنا شرّ تلزيق العجايز غَمزت بعينها في مجونٍ، ثم اطلقت ضحكة رقيعة أشبه بالعُواءِ، اهتزّ لها ثدياها المنتصبين، لاحت الحافلةُ من بينِ أشجار السّنط في خضرةٍ مُتربةٍ، تجعُر جعير الشيوخ، تتهادى في إكراهٍ، كَمن يُساقُ إلى الموتِ، على بعدِ أمتارٍ قلّلت سرعتها، لتقف في مكانها، تنفث من بطنها دخانا كثيفا ممزوجا برائحةِ العرق، عشراتٍ حُشروا حَشّرا في جوفها، ابتلعتهم كذريعةِ السّمك، هَبطَ محمد الزعلان بوجههِ القاني المكفهرّ، وذوائبه المُتهدلة؛ يَدكّ بحِذائهِ الميري الغليظ درجات السُّلم، يَضربُ واجهة الباب بالمنافيست ضربات مفتعلة، يتصايح مُحتَدِما، في جَعجَعَةٍ ألِفها الجميع في هاتهِ السّاعة المبكرة من النّهارِ، تبدو الفوضى في كُلّ مكانٍ، لا يفتأ يتذكّرمُتحسِّرا أياما قضاها في المنوفية، وكأنّها أيام نعيم، لكنّها لم تدوم، نُقلَ إثر مشاجرة حاميةِ الوطيس مع ناظرِ المحطّة، يلعن الصّعيد وحظّه العاثر الذي أوقعه في هذا البلد، يتَغنى مُتباهيا بناسِ بحري، حتّى حَفظ الرُّكاب حديثه الملول، تنطلق على إثرهِ الضّحكات الغليظة كالصهيلِ بينَ الزِّحامِ، يسوء خُلُقُه فيشرع يسبّ ويلعن في رعونةٍ من تسبّب في نفيهِ، تحمرّ وجنتاه في خفرٍ ينطلق لسانه: العربية فاضية يا خلق، يا بني جاموس ، يظلّ في هيجانهِ لا يتوقّف شقاؤه عند حدٍّ، يصطنع مشاكل لأتفه سبب، يضيقُ صدر النّاس بجهامته، الزعلان كمساري يهابه الرُّكاب لسوء خلقه، لا يجرؤ أحد على معارضته ؛ سوى طلاب المدارس وموظفي الحكومة، وأبناء الأعيان، أمّا البقية فيرون فيه حصانة، اسبغتها عليهِ البدلة الكاكي، يُطَالِعهُ محروس النّجار في تهيّبٍ قائلا: صباح الخير يا بيه تصكرة واحدة دائما ما يُردِّد في وجَلٍ: دا ابن الحكومة، موظف ميري ، تظل أحلاهم تَجُوبُ الجُسور، وتخترق القرى من مطلع الشمس حتى المغيبِ، تُشيّعها نظرات أصدقاء الطبيعة السُّذّج كَسفينةِ نوح التي لا نجاة بدونها، لم تغبّ صورة الزعلان عن بالي لحظة، ولا وجهه المُغصّن، عرفت أقدامي طريقها إلى البندر، اخطو أولى خطواتي نحوَ الجَامعةِ، لكن أحلاهم لم تعد كما كانت، فها هي وقد تنكبتها الأوجاع، وداهمتها أوصَاب الشّيخوخة، ينَفرج فمها مُستَغيثا بأنينٍ مُتَقطّع، تسير متكئة فوق قوائم واهنة مرتعشة، أتعبها طول المسير وكأنّها تستنطق آلامها، تستجدي في كُلّ قريةٍ رحمات زبائنها أن يرأفوا لحالها، لكنهم ويا للأسف ؛ قد ضَجَروا بعجزها، وبأنفاسها المتقطّعة المكروبة، تثيرهم أعطالها المتكررة، تلهجُ ألسنتهم بالويلِ والثبور: لماذا لا تلقوا بهذه الكُهنة البالية، وتأتوا بأخرى جديدة ، بصوتٍ منخفض تَشوبهُ ارتعاشةٍ، وبوجهٍ ملائكي يخاطبهم الحاج محمد مفتش المصلحة: عذرا يا حضرات، لقد تعطلنا، استدعينا الورشة في الطريق ، اهبط مُتأففا اودّع أحلاهم ، في ظهيرةِ يومٍ صَائف شديد القيظ، ارتعشت فيهِ شَياطين اللّهب فوقَ أسفلتِ الطَّريق، اتخذت وجهتي للمَحطّةِ، اخبرني عمي مسعود الفراش، وفِي عينيهِ تتدفق العَبرات: لقد صفوا الشّركةَ باعوا المحطة، اشتراها ثري، سيحولها أبراجا سكنية ، سِرتُ في معمعةِ الحياة وزوابعَ الشّباب، لكنّ شيئا من أحاَديثِ الأمس لم يقع، أُغلِقَ المبنى، تاهت معالمه وسط عشرات الأبراج الشّّاهقة، بَيد أن أثرا لم يزل يُزيّن الواجِهة، لوحة المواعيد، تَرِفُ ذكريات تُخبِركَ بأنّ رحلة لم تكتمل لأحلاهم..

.

 الرَّجل والبَغل

سَألتُ عمّي وهو يَرمقُ أذرعَ الشّمس الذّهبية تُلمَلم نفسها ؛ كي تختبئ خَلفَ سِتار المساء المُنسَدل: ألا يتعبَ عبدالشّافي، أو يَتمرّد بغله عن الخدمةِ ؟!، ألقى بحزمةِ البرسيم الطَّرية، مرّر يدهُ فوقَ ظهر خروفه الصّغير، وبصوتٍ أبوي جعلَ يُهدهده كصبيٍ يرضيه، طَفحَ الحَنان في نبرتهِ، قائلا: إنّها لقمة العيش يا صغيري، جميعنا يدورُ في هذه الرحى، عبدالشافي صديق عمّي وخلّه، لا تُعرف لهُ عائلة، لكنّه يعتبر جميع الفلاحين أهله وذويه، لا زالت كلمات صابر أبو حرارة تتَهادى في مسامعي، يوم قالها في مأتمِ مدكور فراش مسجد الست خديجة ، تراقصت على وجههِ ابتسامة ماكرة: عبدالشافي هربت به أمه من ثأرٍ، جاءت بهِ تحمله لحمة حمراء فوق كتفها ، أمثال عبدالشافي ملح الأرض وزاده، لا يعرف من أمرِ دُنياه غيرَ بغلهِ والكرته، وباب الجمعية الزراعية، لا يُرى عادةً إلّا في ذهولٍ عميق، تلتمعُ في عَينيهِ ذكريات مجهولة، ونظرة قلقة تمسح الأفقِ من أمامهِ، لا ينتزعه منها إلّا نداءات أصحاب الحَاجات، مُنذ زَمنٍ وهو يعمل في نقلِ الأسمدة، وتحميل المحاصيل إلى الشّونة حَباهُ ربّه فوقَ احتمالهِ وصبره، صَلابة في بدنهِ، تستفز عافيته المُفرِطة أبناء العائلات المترفين، وشبابها العاطلين، كثيرا ما تَدبّ المناوشات والسّبب معلوم، الغيرة من الغريب المتعافي، مُبكِرا آثرَ السّلامة، تتردّد توسلات أمه ؛ تثير ألمه وتُهيّجُ شجنه، فلا يجد من مَنزعٍ ؛ إلّا كظمَ غيظه والتّحلي بالصّبرِ: أمثالنا من الفقراء، خلقوا للكدِّ، والسّعي خَلفَ رغيفِ العيش .

كانت زهرة ابنة جارهم الحاج سيد القفاص مهوى نفسه، ومَحطّ أنسه، يفرغ في صمتِ المُنكَسِر كُلّ ما في نفسهِ حينَ يُطالِع خيالها المُتبدّي، لكنه لم يقو يوما أن يبوحَ لها بسريرةِ قلبه، كانَ هَيابا وجِلا، ينظر إلى غُربَتهِ نظرة من عَصَفَ بهِ اليأس، يُكابِدُ مشقّة الاحتمالِ، يرى الحياةَ في عينيهِ جافةً، لا لذّةَ فيها ولا متعة، أمّا زهرة فكانت على علمٍ من أمرِ حبه، لكنها كتمت كعادة بنات الرّيف ما يجولُ فيها ؛ مخافة غضبة والدها، الذي كانَ يكره صاحبها على طولِ الخط مُستهينا بأمرهِ، يرَاهُ غَيرَ كُفؤٍ لأن يُفكِّر فيّ ابنته، ورغم ضآلة صاحبه ؛ لكنه لا يستطيع أن يصرِفَ عن رأسهِ وساوسها، لا يأمنَ أن ينمو بينَ الفتاةِ وذاكَ البائس أواصرَ علاقة، أوكلما غَادرَ داره ؛ أثقلته أفكارًا سوداء لا يجد دونها مَصرِفا، تتراقصُ في خَيالهِ الشّاحب فتُسعِّر نار حقده، مرّت الأيام كئيبة مُثقلة بالأوجاعِ جرداء مُمحلة، رُغمَ ذلك جَاهَدَ عبدالشافي طويلا ليحظى بثقةِ جاره الموتور، يَتَجَرَع لذّة الوصل كؤوسا من الخمرِ، علّها تذهله عن متاعبهِ، أمّا الحقيقة فمرّة لذاعة، بعد إذ نمت في صَدرِ صاحبه شهوة الانتقام، تغيّرت طِباع الرّجل وفَسَد مزاجه وهو الرّزين، يَذرع الأرض زائغ البصر سيء الخُلق، يلتمس الحِيلةَ تُخَلِصه من كابوسهِ المُطبَق، لم يكن عبدالشافي يجيدُ صنوفَ التّملق، ولا ألاعيبَ الحُواة، حاولَ جهده أن يطرقَ قلبَ الشيخ ؛ أن يخفضَ له جَناح الذُّلِ من الرَّحمةِ، كان يجيبه بتحيةٍ جافة، هي الأقرب إلى أنّةِ العذاب، لم يستطع الحاج قمعَ رغبته، ولا أن يوقف حريقا اندلعَ في قلبهِ يحرق كيانه، وفِي ليلةٍ ليلاء، عَصَفت بهِ نيران الغضب، عَكَرَ السّهر عيونه، لم يجد غير بابِ سويلم يطرقه، قاتلٌ مأجور لا تعرِفُ الشّفقة إلى قلبهِ طريق، امتهنَ سفكَ الدِّماء.

ذاتَ صباحٍ، وبينما كانت السّماء تُرسل أمينا من رُسلِ النّور ؛ يُداعبُ أجفان الطبيعة الناعسة، جَاءَ عمي تغمرهُ غلالة من الحُزنِ، فعلت لهجته في نفسه ما فعلته أوجاعه، هَتفَ مُتوجِّعا: لقد قتلوا عبدالشافي ، قالها وانطلَقَ لحالِ سبيلهِ يُزمجر كثورٍ مذبوح، تَسمّرتُ في مكاني، اتَحسّس قلبي بعد إذ ارتدت كلماته شواظا من نارٍ تحرقه، تدحرجت دمعة واحدة سخينة، احسبها وقد ذابت فيها مهجتي لوعة على المغدورِ، انقضى أجل صاحبنا، لكنّ ذكراه حاضرة، تستصرخ ظلمَ الإنسان لأخيهِ الإنسان، وتلعن تقاليد البشر التي تحول بين قلوبِ المُحبين..

 

مقالات من نفس القسم