ثقوب

تشكيل
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد السيد زكريا

استيقظت على وخز في حلقي، مُنهَكًا، مشدوهًا.

جسم أسود صغير انبثق خارجًا من فمي. انتفضت أسعل لا إراديًّا، شهقات عنيفة، أشعر خلالها بألم يجتاحني. ما هذا الذي تقيَّأته؟ اعتدلت على السرير، حملته في يدي، وإذا به يرقة صغيرة سوداء. تصلَّبت مكاني حائرًا؛ من أين جاءت هذه اليرقة؟ أعتاد النوم وفمي مفتوح عن آخره، لم أستطِع تغيير هذه العادة، من الممكن أن تكون تسللت إليه دون أن أنتبه، وحينما صَعُب العبور إلى بطني من الداخل، خرجت بهذه الطريقة. لِمَ لا؟ لا احتمال آخر. نهضتُ في غير راحة، أستعد للخروج إلى عملي، مهمة تتكرر كل صباح، تجعلني لا أطيق هذا الاستيقاظ، لكن ليس أمامي خيار غيره. اتجهت إلى حنفية المياه المُعلَّقة بجانب النافذة، وضعت وعاء كبير أسفلها، نزلت برأسي إليها، تقيَّأت يرقة أخرى، جعلتني أعود إلى الوراء في دهشة، مصابًا بأقصى درجات الفزع. ما هذه اليرقات؟! وضع مريب، بدأت أحس خلاله بشكَّة أعرفها جيدًا، تعتصر قلبي، ترافقني لسنوات عديدة، لا تحل عني، أجبَرَت رأسي على التيه بينهما. حزن دفين يحضر في آنٍ لا يناسبه، وذهول من هذه اليرقات، النابعة من حيث لا أعلم. يبدو أنها تسكنني، لم تتسلَّل من الخارج. اتخذت مقعدًا للجلوس، أرتعش، أُفكرُ مليًّا؛ ماذا يحدث؟ كيف سأتصرَّف؟ لا أستطيع الثبات، يزداد قلبي وجعًا، وكلما يشتد، تحاول يرقة أخرى الخروج.

آهٍ، التخمين أمر مؤلم.

حاولتُ جاهدًا الهدوء، ومنع هذه اليرقات من الهرب. فُتِحت كوَّة صغيرة في رأسي، سمحت لبعض ما فيه بالخروج البطيء. مزيد من الغم، وضعت يدي على صدري، أعض شفتي بأسناني، مُنقِّلًا عينيَّ في الفراغ. لا أتحكَّمُ بي، انغرست أسناني في الشفة السفلية، مُحدِثة جرحًا عميقًا، لم أُبالِ به، خوفًا من النهوض وتنظيفه بالماء، لن أقدر على تحمُّل خروج يرقة ثالثة. مع التفكير في شعوري، وتكرار حركتها العنيفة معه، بطريقةٍ مربكة، بدأت مع الوقت، وقليل من الاستيعاب، أفهم ما يجري.

كنت على يقين بأن هذا اليوم آتٍ لا محالة. دومًا أتزوَّد بالصمت، لا أصطنع الحكمة، لكن يبدو أن خيباتي المتراكمة، المدفونة بأعماقي منذ أمد بعيد، دون أن أفصح عنها، سئمت مني، وتحاول الخروج، هاربة من هذا الجسد. لا مجال لذكرها، الأمر يرهقني. فقط هي انتكاسات، لم تنتهِ، يتردَّد صداها باستمرار.

كيف سأتخلص منها داخلي؟ لا أعرف.

أحاول أن أبدو شجاعًا أمام نفسي، أرى أثر ما يخيفني، ولا أراه. يجب أن أقطع عليها طريق الخروج؛ كي لا يتحوَّل الأمر إلى كابوسٍ، يُعلِم الناس مدى مأساتي، التي حاولت كثيرًا إخفاءها. هل كنت بخير حقًّا؟ لا، لقد أخطأت كثيرًا؛ أسرفت في الكتمان، كنتُ أظن أنني أنسى، والحق أنني أتناسى، لا أتجاوز. تسارعت أنفاسي، يتفاقم العبث بي، إنها في عنادٍ معي، تحاول الخروج، يرقةً تلو الأخرى، أشعر بها تصعد إلى أعلى، فأضغط على نفسي بغتة، مُغلقًا فمي، أُعيدها إلى أسفل. يجب عليَّ ألا أذهب إلى العمل، حتى أُحاول السيطرة على الوضع؛ من الصعب رؤيتي بهذا المنظر، سأتحوَّل إلى منبوذٍ مرعب، أكثر مما كنت.

بدَّلت مجلسي من المقعد لأريكتي المغطَّاة برداء قديم؛ هي فقط ما تُشعِرني بالراحة، في هذه الغرفة التي أكلتها الرطوبة. رمقت على المنضدة فتات خبزٍ بائت، لا يوجد غيره، التوتُّر يتملَّكني، ينخر عظامي، فلم أتردَّد في دس تلك اللقيمات داخل فمي؛ كي أواري مصائبي مكانها. عزمت على تكرار هذه المهمة، رغم خطورتها، وسوء مذاقها، مع يقينٍ بأنها سوف تُمهِّد الطريق لهواجس، استوطنتني منذ الصغر.

انتظمت نبضاتي قليلًا، قبل أن يفشل الأمر، وتنجح يرقة خبيثة في الهروب رغمًا عني، سقطت على ملابسي، فألقيتها بعيدًا. هنا تأكدت: الوضع صار في غاية السوء. يد الله دومًا رحيمة، لكنني لم أكن كذلك معي. ماذا سأفعل؟ إن لجأت إلى فكرة جديدة، ستُجهِضها قبل ميلادها، ما الحل؟ أغمضت عينيَّ، مُمرِّرًا أصابعي على عروقٍ نافرة، برزت في رقبتي، أفكر؛ أوقات كهذه، ينبثق كثير من الحلول، لكن أيّها أفضل؟ سأرى. نهضتُ مرتابًا، أُحضر قماشة بالية، لا أستعملها، لففتها حول فمي، وربطتها بإحكامٍ، على أن أتنفَّس من أنفي، ثم عدت إلى أريكتي، أجلس بخشية، أنتظر كيف ستنتصر عليَّ هذه اليرقات مجددًا.

رأسي تؤلمني للغاية. أمتنع عن الطعام، والماء، دون إرادة مني. إلى متى سأظل ألعن أيامي السود؟ فقَد كل شيء حولي معناه، الأمر أصبح أكبر من قدرتي على التحمُّل. منذ صغري، تدَّعي عائلتي أني مليء بالثقوب، يدي تسقط منها الأشياء، وقلبي يسقط منه الناس، وبطني تتخلَّص مما آكله، فلا يشتدّ عودي، فقط ما استطعت المحافظة عليه، هو آلامي، لكنها أيضًا تريد السقوط الآن، كالبقية.

أحاول ألا أستسلم لها، الخطة ناجحة حتى هذه اللحظة.

من حينٍ لآخر، أطوف في الغرفة، بساقين ينبضان، ثم أعود. يوم كامل أبتعد فيه عن العالم، مُتغيِّبًا عن العمل. أوجدوا غيري يُنظِّف الطرقات من براز الحيوانات المُتصلِّب؟ لا أظن. مع ذلك، لم يتذكرني أحدهم سوى متأخر، سمعتُ نداءه في سكون الليل، بالتأكيد أتى يتقصَّى أمري. طرق الباب قليلًا، ولم أرد. هل أُلقي إليه النبأ الجديد؟ لا لا، سيشيع الخبر بين الجميع، ولن يرحموني. انتظرت، حتى بدا أنه يبتعد، يُكرِّر نداءه، بصوت يتضاءل تدريجيًّا، بينما ما زلت كما أنا؛ بأذنٍ من طين، وهذا أفضل. لن أتقبَّل شيئًا آخر، نفدت طاقتي، سأسلك أقصر الطرق، أغفو، لأول مرَّة، مُغلقًا فمي. دسستُ رأسي في أريكتي، مستسلمًا لفتنة النوم، هنا حيث أرقُد، رغم سلبه أهم ميزاته، لكن لا يهم.

استعدت وعيي صباحًا، وليتني لم أفعل. ألم في وجهي لا يماثله آخر. ملمس مقلق على جلدي استشعرته. انتفضت مكاني مُتحسِّسًا ملامحي، وجدت اليرقات تهزمني، تخرج أفواجًا من أذنيَّ وأنفي. فقدتُ السيطرة تمامًا عليَّ، لا أدري ما الذي أفعله! صرخت بجنون، نهضت أُلوِّح بيدي في الهواء، وعلى جسدي، كالمجاذيب، بلا فائدة، حتى فقدتُ طاقتي، مرميًّا على الأريكة. خرجت الأمور عن طوعي، غزتني اليرقات، غطَّتني كحيوانٍ نافق، إلى أن سلبتني الكلام، والرؤية، والقدرة على التعبير.

لطالما خشيت بيني وبين نفسي أن أعترف، لكن -حقًّا- قُضِيَ الأمر. دومًا كانت الحاجة إلى الابتعاد عن مسار هذه الحياة تحتلني، أكثر من اهتمامي بكسب لقمة عيشي، وها قد حدث؛ فلن أبرح بقعتي تلك، مرة أخرى، مُجبَرًا. لحظات ثقيلة، أعيشها مُقيَّدًا بأحزاني، غير قادر على أي رد فعل. أعلم جيدًا أن تغيُّبًا آخر عن العمل، لن يمر مرور الكرام. لذا لم أتعجَّب، حينما تناهى إليَّ أصوات تحفظها أذني. سمعتهم ينادون من الخارج. لم أرد عليهم، ولن يحدث. رحلوا سريعًا، التقطت أنفاسي، لا أعلم ما هو قادم. كيف سأكمل؟ لا أجد الإجابة. من الجيد أنني لا أملك مرآة؛ لا أريد أن أرى انعكاسي. ليتني أتبخَّر الآن، وينتهي هذا. انتشلني من صراع رأسي، عودة ثانية لهم، لم أتوقَّعها. طرقات عنيفة على باب الغرفة، تبدو أيادٍ غليظة، انجلى وراءها صوت مندوب البلدة، جاء بنفسه ليعاقبني على اختفائي، غير المبرر بالنسبة لهم.

أتمنى أن أصرخ مجددًا، أنادي عليهم؛ كي يُحرِّروني، ينقذوني من هذه الورطة، لكن لا أستطيع. لم يملُّوا من محاولاتهم. إصراره على معاقبة المخالفين، يبدو أنه سيكون في صالحي الآن، سمعت صوته يأمرهم باقتحام الغرفة. أنا في انتظاركم، لن أعترض على ما ستفعلونه معي، فقط فكُّوا هذا الحصار عنّي. عندما كُسِر الباب، اختلط الهواء البارد بهواء غرفتي الراكد. أصابتني قشعريرة، بينما هجم عليهم الفزع، ورأيتهم كأشباح، يعودون إلى الوراء بضع خطوات، حذرين، بعدما رأوني في هذه الحالة. حاولتُ رفع يدي، مُلوِّحًا لهم، لكن مندوب بلدتنا، في لحظة خاطفة، سبقني إلى ذلك، ليضبُط رجاله زناد بنادقهم، مُوجِّهين إيّاها نحوي، قبل أن يصيح بهم، مع إشارةٍ لي: “ابن الهرمة لبسَتهُ جنّيَّة!”.

مقالات من نفس القسم