حسني حسن
لماذا يتفننون، هكذا، في إبداع كل هذا الصخب؟!
أية متعة، غريبة، يجدونها في تكديس كل ذاك الضجيج المبهر، طبقةً فوق طبقة، على خرائب الروح، المتخمة بوحدتها اللانهائية، والمفعمة بأريج يأسها المدوخ العذب؟!
على قمة الدرج، المفروش بسجادة حمراء سميكة، وقف يستقبل مدعويه، الذين توافدوا، بحللهم الداكنة الأنيقة أو بفساتين السهرة باهظة الثمن والموشاة بالترتر والقصب وأشرطة الدانتيلا الرقيقة الملونة. وبمواجهة المدخل، اصطفت، على الجانبين، مجموعتان من الشباب، الذين يرتدون العباءات الساتان المتماثلة الصفراء، ويلفون العمائم البيضاء على رؤوسهم الحليقة، أو المسدلة الشعور، رافعين بأياديهم المشاعل البرونزية المتوامضة، يغنون، في هدير متشنج مبهور، للعروسين وهما يلجان القاعة الواسعة المضاءة بالثريات التي يسبح في نور شموسها الليلية الصغيرة عشرات الضيوف المتحلقين حول الموائد الزجاجية المستديرة. راح يرقب صعود ابنته إلى الكوشة، المفرطة في الفخامة، بقلب واجف وبأنفاس مبهورة. كان يفكر أنها مجرد ساعة واحدة، أو أكثر قليلاً، ثم تغادره بصحبة ذلك الوافد على حياته لتدشن حياتها الجديدة! يعرف أنها سنة الحياة، وأنه لا يحق له أن يتذمر أو يشكو، فكما دخل هو نفسه، يوماً، حياة حميه، واختطف ابنته منه، كان، لا مفر، من أن يأتي ذلك اليوم الذي تُختطف فيه وحيدته بعيداً عنه، والاختطاف قصاص! جالت عيناه، هنا و هناك، تبحثان عن زوجته، وكأنه يستنجد بها في مثل تلك اللحظات العصيبة. لمحها تتحرك ،بخفة و رشاقة، فيما بين مدعويها و كوشة العروسين، تضحك لهذه، وتبتسم لتلك، فحسدها، بقلبه، على استغراقها، التام، في أمواه الليلة، التي أخذ مدها يصاعد مزبداً، رويداً رويداً.
-ألف مبروك.
انتبه إلى صاحب الصوت، الأجش الممتلئ ثقة و حبوراً، و كأنما يأتيه من بعيد، من فراغ سديمي بعيد، ومن مجرة تقع فيما وراء المجرة.
-تسعة أشهر من الليلة، إن شاء الله، و يكون لي الحفيد الذي أنتظره على أحر من الجمر، العضو الجديد في عائلات القليوبي!
كان صهره، المقاول الثري، رجلاً جسيماً قوياً، يضج كل شيء فيه بالرغبة في الحياة. كان يقدم على فعل كل شيء بشراهة تثير عجبه، و حسده معا؛ يأكل بشهية، يضحك بشهية، يساوم بشهية، و من المؤكد أنه يضاجع، كذلك، بشهية، وها هو الليلة يطالب الوجود، وابنته، أن يهباه، بأقصى سرعة ممكنة، الحفيد الذي يشتهي!
-تأخذ سيجارة؟ سيجارة مخصوص!
غمز له بعينه، مبتسماً و مداعباً. هو يعلم أنه ممنوع من التدخين، بأمر الطبيب، لكن لا مانع من سيجارة “مخصوص” يعرضها عليه في ليلة ليست ككل الليالي. تناول السيجارة التي برمها له صهره بين أصابعه. أشعلها وسحب نفساً عميقاً، حابساً الدخان، طويلاً، في رئتيه، ثم مطلقاً إياه، بهدوء، وكأنما يخرجه من نقطة مجهولة، ظلت مخفية بداخله دهراً. استغرق في مراقبة دوائر الدخان الأزرق المدومة بنظرة ذاهلة، مستشعراً روحه تصاعد و تتلاشى، تدريجياً، في العبق النفاذ. أتاه صوت صهره منشرحاً:
-عفارم! والآن هيا لنلحق ساندي، قبل أن تنهي نمرتها.
انخرطت الراقصة، الشابة، في رقصة مثيرة على نغمات الفرقة الموسيقية المصاحبة لمطرب شعبي غير معروف راح يردد: تلاميذنا … بيقولوا علينا عجزنا … إيه إيه. كانت ساندي قد أفلحت في إضرام النار بأجساد عشرات الشبان والفتيات، الذين تحلقوا من حولها مندمجين في الرقص والصياح. بدوا لعينيه كقطيع أغنام نازٍ، فر خلسة من مراقبة الراعي، وأطلق لنزائه العنان، مكتفياً ومبهوراً. اتكأ على بقايا صحوه، وانسل هارباً إلى الشرفة الخارجية، طامعاً في استنشاق بعض النسائم الليلية المنعشة. رأى الشرفة تسبح في محيط لجب من العتمة والصمت، وللمرة الأولى، في هذه الليلة المضنية، يشعر بأنه قادر على التنفس براحة. أسلم نفسه لليلٍ يراكم ليلاً، وراح يحدق في سماء لانهائية، تناثرت عبرها مصابيح نجمية، لا تأفل ولا تهوي. آمن أنه ليس وحيداً! أنه ما كان ليعود بعد وحيداً! وما عرف من أين يأتيه مثل هذا اليقين! أمن السماء المتوسعة أمام ناظريه وفي روحه؟ أم من النجوم المتلامعة، التي تومض، على بعدها السحيق، في قلبه الآن؟ أو لعلها الذكريات التي تدهم يقظته الحالمة، بنصلها الحاد المشحوذ وذؤاباتها الرفيعة المدببة، لتسيل الدماء الفاسدة المخزونة، وتهرقها على ترابٍ نجس، آن له أن يُخضَب ويُعجَن بالسواد و العكارة؟
-حتى في هذه الليلة تبقى وحدك؟!
اختضه الصوت العميق، ممتلئ النبرة، والمُفعَم، قبل كل شيء، بالملامة. كان يميز صوته، بكل وضوح، حتى ولو مرت على غيابه عقود. التفت يواجهه بصمت.
-ما الذي تنتظر أن تخبرك به كل تلك النجوم البعيدة؟!
-ما انتظرت أن تخبرني أنت به، منذ الطفولة.
-ولكني قلت لك، ألم أقل لك؟!
-لم تقل لي.
أصر، معانداً ومعاتباً. شعر بأنفاسه تتهدج، وألمت رعشة، عابرة، بجسده، لا يعرف أمن غضب أم من رهبة، لا يني يلقاها بنفسه، كلما التقيا .
-بل قلت لك، وعليك ألا تتوقع مني، أو من غيري، إجابة أخرى.
-كيف لي أن أصدق؟! كل تلك الآفاق، الشاسعة اللامتناهية، مائة بليون مجرة وراء المجرة، بلايين البلايين من النجوم والكواكب والشموس والأقمار والشهب والسدم والنيازك، كل ذلك ثم لا شيء؟!
-لا شيء.
أجابه، بثبات وتؤدة، قبل أن يردف، مستدركاً:
-ربما إلا العتمة، والفراغ البارد الوسيع.
-لن أصدق. أنت لم تزل، كما كنت دوماً، خذلتني منذ الصغر، وها أنت تصر على خذلاني حتى اليوم. هل تذكر؟
-ماذا؟ ما الذي تريدني أن أتذكره؟
-كل تلك الليالي، الطويلة المثقلة بالكوابيس، وأنين الخوف المكتوم بالقلب الأخضر الصغير، ذلك الفزع، الرفيق، الذي صار خدنا لصبي طُلب منه أن يعتاد الغفو في سرير، لا تحرسه ولا تهدهده، يدا الأب القوية الحانية، والابتهالات السرية، لك، بأن تجئ عنده، ولو لليلة واحدة، ليلة أخيرة، قبل أن تذهب، فهل تذكر الآن؟
رن صوته، بأسى، في ظلمة الشرفة المتقدة بنار روح طوح بسلامها الخذلان المستعاد، مرة، ومرة أخرى، وحتى الأبد!
-لماذا ترفض أن تصدق؟ لماذا تصر على تحميلي مسؤولية غباء تصورك وفكرتك عن الأمر برمته؟ كنت تريدني إلهاً، لكني لست إلهاً، لن أكون إلهاً، ولن تكون أيضاً؟ حاولت مراراً أن أفهمك؛ لسنا إلا تيوساً و ماعزاً، تماماً كأولئك النازين من حول ساندي، هذا إذا لم نكن مجرد حشرات تافهة ضئيلة، هوام هش عالق في خيط نور رفيع يسافر عبر الفضاء الكوني في ثماني دقائق ضوئية، هوام يحلم بأنه إله، وبأنه خالد كإله. تلك هي المسألة في حقيقتها، شئت أم أبيت.
ما زلت أرتعد يا أبي، كلما عاودتني صورتك و أنت ممدد على فراشك في بيتنا القديم، وقد أمعنتَ، هذه المرة، في الغياب الأخير. بروج الروح، كلها، تهدمت قواعدها بفعل زلزال مكتوم، لم يلامس قشرة الجسد الذي استعصى عليه البكاء أو النشيج. كيف لي، وأنا الابن الفاني، أن أبكي الأب المؤله الذي يرفض تأليهه؟
-إنه غرورك الذي يتكلم، فلا تورطني بحماقات غرورك.
رد غاضبا، وقد لاح في صوته عزمه على عدم مواصلة الحديث، الذي بدأ يدور حول نفسه. ران الصمت دقيقة طويلة، قبل أن يقطعه الشيخ بخفة غير منتظرة. غمز بطرف عينه غمزة، بدت له بذيئة وداعرة، وهو يقول:
-أولاد هذه الأيام محظوظون، فلديهم ساندي، أما نحن فكنا في شبابنا نلهث، من فرح لفرح، وراء شفيقة. كانت ترقص وتغني مساء الخميس، وبقية الأسبوع تدور على البيوت لتغسل وتصبن، وفي آخر النهار، تفوت على “خمارة شمحوط” لتشتري “ربع بولاناكي” لفتحي زوجها، الذي طالما حسدناه عليها، وطالما ورم لها وجهها بلكماته!
أطلق ضحكة، صاخبة، شقت هدوء الشرفة، ثم سبح، متلاشياً، في النور الغامر، داخلاً إلى هناك، ويهمس:
-تيوس وماعز! تيوس وماعز!