سعيد نصر
تحوي مجموعة “تلال الرماد” القصصية للكاتب عمار على حسن، 144 قصة قصيرة جدا، بعضها لا يزيد عن 26 كلمة ، ومعظمها تتراوح عدد كلماتها بين 40 كلمة و50 كلمة، وقليل منها تتراوح عدد كلماتها بين 90 كلمة و 110 كلمات.
ويغوص الكاتب من خلال قصصه هذه فى أعماق النفس البشرية، من خلال شخصيات احترقت بنار الحياة، وعذبتها أشياء وأحاسيس وتجارب كثيرة، منها الحب والعشق والوصال والفراق والمرض والخوف والفزع والطمع والجشع والخيانة وضياع السلطة وشبح كبر السن والإهمال وعدم الاهتمام والفوضى واللامبالاة الاجتماعية والظلم والاستبداد و العشوائية السكنية والتوق إلى الحرية، وأمور كثيرة أخرى، بما يجعلها تتضمن كل نوازع النفس التى تحرقها تجارب حياتية صعبة ومؤلمة.
من هنا يبدو عنوان “تلال الرماد” مناسبا تماما لأقصوصات المجموعة، فكل الشخصيات فى المجموعة تنفض عن نفسها رماد الهموم، والرماد له رمزية أدبية هنا تتمثل فى أنه نتاج الشىء المحروق وأنه فى الوقت نفسه تربة خصبة للزرع والإنبات ، بما يعنى، بالمفهوم الجمعى للمصريين، القدرة على مواصلة الحياة من جديد رغم الهموم والآلام، وهذا يتماشى أيضا مع رمزية الرماد الدينية فى أحد الأديان السماوية، باعتباره بداية بداية التكفير للتّائبين عن طُرُقِهم المِعْوجَّة، وذلك فيما يعرف بأربعاء الرماد.
الكاتب، وإن كان لا يتجاهل المدينة فى هذا العمل الأدبى، إلا أنه ينطلق من أعماق القرية المصرية ويركز عليها، ويلعب فى العديد من الأقاصيص على وتر الحنين إلى الماضى، والتمسك بالقديم والحنين لفترة الشباب، ويظهر ذلك بوضوح شديد فى أقصوصة “الحسون” حيث يبدأها بقوله: “يجرفنى الحنين إلى اللعب مع طائر الحسون”.
كما يظهر هذا أيضا في أقصوصات كثيرة، منها “مقعد”، و”مكان”، و”ساعة”. ففى الأولى، يتحدث البطل عن مقعد قديم احتفظت به جدته بأسلوب يشعرك بأنه كأحد أبنائه وبأن غلاوته من غلاوة أبيه وجده، حيث يقول: “تخيل هو أجساد كل الذين تعاقبوا في الجلوس عليه، وقرر أن يصلحه، كي تجد حفيدته شيئًا تحكيه لأحفادها”. وفى الثانية يتباكى البطل على خص قديم هدمته الريح ، على الرغم من أنه مكانه ماهو أفضل منه، حيث يحكى:”كان الجديد منسابًا وأوسع وأكتر متانة، ومع هذا ظل بينه وبين نفس بانيه حجاب، وكلما جلس بين أعواده الهشة يبكي مكانًا ضائعًا تقاسم معه لحظات هانئة”، وفى الثالثة، يتحدث الكاتب عن ساعة خربة يعلقها رجل فى صالون فيلته الفخيمة ولايسمح للخدم بتنظيفها ويشعر أن فيها روح أبيه ، حيث يحكى الكاتب عن هذا الرجل:” يلفت نظر ضيوفه دائما إليها، ويقول: توقفت عقاربها عن الدوران لحظة خروج الروح من جسد أبى وحطت أول ذرة تراب عليها فى هذه اللحظة أيضا”.
ويظهر الحنين إلى الماضى أيضا بوضوح فى أقصوصة “ملحمة”، حيث يحن الكاتب لحكايات الأيام فى القرية التى يسمعها الأبناء من الآباء الذين يسمعونها بدورهم من الأجداد، وهى حكايات محفورة فى أذهانهم إلى الأبد، حيث يقول الكاتب عن هذه الحكايات: “تتغير المباني، وتتبدل الجسور، وتشق ترع جديدة، ويزرع الفلاحون محاصيلهم ويحصدونها عشرات المرات، لكن الحكايات تبقى، بل تتناسل وتتسع، وتصير ملاحم عظيمة، سيأتي أحفادنا على ذكرها وهم يقولون:”ترك أجداد الأجداد أرضًا وبيوتًا باعها أحفادهم، أما نحن أحفاد الأحفاد فلم تبق لنا سوى الحكايات”.
وتتنوع شخصيات المجموعة القصصية بتنوع مجالات الحياة، ففيها الحاكم والمحكوم والظالم والمظلوم والفقراء والمعدمين والمتسولين والسجناء وضحايا الاستبداد وكبار السن واللصوص والمحامين والكتاب والمراهقين والعاشقين والأئمة ومدمنى الخمور. وفى بعض الأقاصيص يجنى كل شخص ثمرة ما فعله، خيرا أو شرا، فعلى سبيل المثال لا الحصر، يحكى الكاتب فى أقصوصة “ثغرة” عن محامى شهير وآفاق يجعل الحق باطلا والباطل حقا، ويقول: “حين أقعده مرض عضال في سريره، كان لديه وقت كافي كي يستعيد كل الثغرات التي عبرها كي تسليه في وحدته، لكنه كان كلما جاء بإحداها أمامه ذرف دموعًا ساخنة، ابتل لها فراشه، وانحفرت فيه ثغرة هائلة ابتلعت جسده”، وفى أقصوصة “رفض”، يحكى الكاتب عن شخصية نافذة فيقول: “كلما جلس على الكرسي اهتز ورماه جانبًا. نظر إلى أرجل الكرسي في حيرة، ثم تقدم نحوه في هدوء، وأسنده إلى الجدار، ودفع جسده نحوه في هدوء، لكنه في هذه المرة شعر بلسعة قوية، فنهض فزعًا، ولم تكن على الكرسي جمرة كما اعتقد.
في المرة التالية وخزته شوكة صلبة، فوضع يده على فخذه، ورفعها أمام عينيه فلم يجد دمًا يلطخها كما تصور.
أمر الحرس والخدم أن يفحصوا الكرسي جيدًا، فهرعوا طائعين، واستعانوا بعشرة من أمهر النجارين والسروجيين في البلد، فلم يصلوا إلى السبب.
طلب منهم رفع الكرسي وإلقائه بعيدًا والإتيان بغيره، فلما مدوا أيديهم إليه وجدوه يتشبث بمكانه خلف المكتب الفخيم، حاولوا مرات ومرات، فما استطاعوا تحريكه، وكان على صاحبه أن يدير الأمر واقفًا، أو يذهب.
لدواعى مفهومة ولأسباب متفهمة استخدم الكاتب فى بعض الأقاصيص السردية الرمزية فى العناوين والمتون لعمل إسقاط موضوعى على أشياء وموضوعات بعينها، خاصة فى الأقاصيص التى تحمل مضمونا سياسيا غير مباشر ، وكان موفقا فى ذلك لأبعد مدى، ففى أقصوصة “خطر” قد يكون الحجر رمزا للحاكم المؤبد فى السلطة والمعيق للتقدم، وقد تكون الثعابين رمزا لأفراد الدولة العميقة التى تقتل ثورات الشعوب، حيث يقول الكاتب: ” شدوا فجأة فانخلع وجروه بعيدًا فصنع حفرة، أطلت منها رؤوس ثعابين ضخمة، راحت تطلق فحيحًا مرعبًا، بينما كانوا هم قد سقطوا تعبًا، ولم يعد بوسعهم إعادة الحجر إلى مكانه أو منازلة الثعابين أو حتى الهروب.”، وفى أقصوصة “ثقل” يرمز الجبل للإنسان القوى، حيث يحكى الكاتب:”لم يقدر ظهر الجبل على حمل كل هذه الأثقال فراح ينيخ تحتها حتى تمدد على الأرض، ثم غاص فيها، وغاب تمامًا، فصار على الذين يعيشون فوق هامته السامقة مستمتعين بالهواء النقيّ انتظار أن ينبت لهم جبل جديد.”، وفى أقصوصة “ذئاب” تظهر الرمزية بوضوح للمتلقى، حيث يقول الكاتب فى هذه الأقصوصة:” جمع كبير الذئاب كل أفراد القطيع ليحذرهم من الكباش. قال لهم بعد أن اطمأن إلى اكتمال عددهم:
ـ إنما يأكل الكبش من الذئاب القاصية، فلا تتفرقوا.
هزوا رؤوسهم طائعين، فواصل:
ـ لها قرون طاعنة، وأنيابها صارت قادرة على تمزيق جلودنا.
كانوا يدركون جيدًا متى صارت الغنم ضارية بعد صبرها طويلًا على ظلم الذئاب.”
وتظهر الرمزية أيضا بصورة رائعة فى أقصوصتى “ثورة”، و”صيد” ففى الأولى ترمز ترمز مقاعد المقهى إلى المواطنين الذين يسأمون من حديث الجالسين عليها فى رمزية إلى الإعلاميين والنخبة، والذين يدفعهم ذلك إلى الثورة، واستخدم الكاتب فى هذه الأقصوصة صورة تعبيرية سينمائية تضفى إثارة كبيرة على الحدث، وتجذب ذهنية المتلقى، خاصة أن الكاتب استخدم أسلوب الاستعارة المكنية فى وصف هذا المشهد وتحريك ذهنية المتلقى معه، حيث يحكى الكاتب:”فى آخر الليل رص العمال المقاعد، بعضها فوق بعض، وركنوها إلى جانب الجدران لكنها غافلتهم واندفعت من كل المقاهي هاربة، ثم هزت نفسها فانفكت، مقعد وراء مقعد وإلى جانبه، حتى فاضت الشوارع بها فى اتجاه الميادين.”، وفى الثانية وهى “صيد”، يرمز النسر إلى الظالمين والجشعين والناس الأقوياء، ويرمز الأرنب للضعفاء من الناس وضحايا الظلم، حيث يقول الكاتب:” قنص النسر أرنبًا بريًا سمينًا. رأته بقية الأرانب فهرعت هاربة، إلا من قلة شل الرعب مفاصلها فوقفت مكانها ترتعد”.
وتتفاعل “تلال الرماد” مع مظاهر اجتماعية سيئة طرأت على المجتمع المصرى، قد تتحول إلى ظواهر، فى حال عدم معالجة أسبابها ، منها اللامبالاة المجتمعية والبلطجة والتسول والمتاجرة بالدين وصحافة الأكاذيب ، ومظاهر سيئة أخرى، ففى أقصوصة “تبلد”، ظهرت اللامبالاة المجتمعية بشكل فج، حيث يحكى الكاتب فيها عن فتاة تعرضت للاغتصاب الشنيع فى أحد الميادين على مرأى ومسمع من الجميع، وتسأل نفسها بعد مرور فترة من الزمن: “كيف رآك كل هؤلاء، وسمعوك وأنت تستغيثين، ولم يحرك أحدهم ساكنًا، ومضوا في طريقهم مسرعين؟”، وفى أقصوصة “بلطجى” يفشل شخص مشهود له بأنه” أبو الحكمة” فى التعامل مع أحد البلطجية، وعندما سألوه عن السبب ابتسم وقال: “إلا البلطجى، فهو لا يعنيه ما يردع حتى الظالمين، لأن الحق والباطل لديه سيان”، وفى أقصوصة”رقص”، يتحدث الكاتب بشكل غير مباشر عن السلفيين والإخوان ومتاجرتهم بالدين خلال ثورة يناير، حيث يحكى :”نظر إلى شاشة التلفاز مندهشًا، وأشار لى بأصبعه:
ـ أنظر .. إنه واعظ المسجد، يرقص مع الغاضبين فرحًا فى تلك المظاهرة العارمة.
ابتسمت وسألته:
ـ لا أرى عيبًا فى هذا، فاضت مشاعر الرجل، ودفعته فطرته.
أطرق برهة، وهز رأسه، وقال:
رأينا واعظين أيام غضبنا النبيل وقبله وبعده، يتصنعون الوقار والتبتل بينما كانت قلوبهم وعقولهم وضمائرهم تتراقص في خلاعة على جثث من أفتوا سرًا وعلانية بقتلهم.”
ما يجري في الصحافة كان أحد المظاهر السيئة التى تطرقت إليها المجموعة وكأن الكاتب يحاكى الواقع المعيش، وذلك عبر أقصوصتين، إحداهما بعنوان “صحف “، والأخرى بعنوان “بهتان”، حيث يقول الكاتب فى الأولى:” كلما كتبوا شيئًا ردوه إليهم، حتى كلت أقلامهم فصدأت، وضاعت الحروف من رؤوسهم، فجلسوا صامتين، بينما المطابع تلح في طلب ما لديهم”، ويقول فى الثانية: “وسط غرباء توزعوا على المقاعد الوثيرة جلس ثلاثتهم. تلفتوا حولهم، وطالعوا الآذان المشنفة، ثم انهمرت الحروف من أفواههم، فرأوها تتمدد وتتلوى، وتصير ثعابين مختلفة أحجامها. حين علا فحيحها لاذ الحاضرون بالفرار، بينما يقتحم آذانهم ما يقوله رجل نحيل يقف في الركن البعيد:
ـ هذا ما تنتهي إليه كل الأكاذيب.”
وقد تطرقت المجموعة، بشكل غير مباشر، إلى الاستبداد السياسى وتداعياته الخطيرة على نفسية الناس، وذلك فى عدد من الأقاصيص، وتضمنت أقاصيص أخرى لشخصيات لديها لديها توقان شديد إلى الحرية،ففى أقصوصة “غابة” يظهر الاستبداد فى أسوأ صوره ، حيث لم ينجو أحد من الفم المتوحش المفترس الواقف بالميدان الفسيح، باستثناء رجل وحيد حاول النجاة فكانت نهايته الموت بالسجن، حيث يقول الكاتب:”رجل واحد دخل الممر المعتم فأطبقت عليه الجدران حتى زهقت روحه”.
فى أقصوصة بعنوان “نظام” يظهر الكاتب مدى حساسية الشرطة من هذه الكلمة حتى ولو كان المقصود بها تنظيم الركاب أمام أبواب عربات مترو الأنفاق، وفى أقصوصة “خيانة” يوجه الكاتب انتقادا شديدا لأسلوب تكميم الأفواه عن طريق اتهام المعارضين الوطنيين بالخيانة، باعتبارها تهمة جاهزة لإسكات كل صوت وطنى وحر، ويكشف أن ضررها أكثر من نفعها ، لكونها تعطى انطباعا كاذبا بأن المجتمع كله صار قطيعا من الخونة، حيث يحكى الكاتب:”استراحوا لهذا التهمة، التى أطلقوها على كل من يختلف معهم. يتراجعون إلى الخلف، ويسندون ظهورهم على مقدمة مقاعدهم الوثيرة، وينفخون أوداجهم، ويقولون بصوت عال:
ـ خائن.
تملأ الكلمة الأبواق نفسها المستعدة لإطلاق كل شيء، فتردد خلفهم:
ـ خائن.
مع الأيام صار كل أهل القرية من الخونة في نظر العمدة، وكان عليه أن يجلس مع نفسه ليسألها:
ـ إذا كان كل هؤلاء خونة، فمن هم الذين يمتثلون لإدارتي وأطمئن إلى وطنيتهم العظيمة؟
كان سؤالًا حقيقًيا، لكن الذين اعتادوا ترديد ما يريد، عجزوا عن تقديم إجابة تسعفه لمواجهة الغضب العارم الذي اندلع ضده.”
“وتلقي تلال الرماد” الضوء أيضا على مظاهر سيئة أخرى، منها التفاوت الطبقى فى أقصوصة “أنتحار”، والغش الغذائى فى أقصوصة “مبخرة”، ومرض الزهايمر وتداعياته الخطيرة على نفسية الإنسان فى أقصوصة “زيارة، وتعمد دور الطباعة نشر أعمال سطحية وتافهة لمؤلفين صغار على حساب الأعمال العميقة والهادفة لكتاب كبار، بدعوى أنه لم يعد أحد يطلب أعمالهم فى أقصوصة”كاتب”، والروتين القاتل لنفسية المواطنين، حيث يحكى الكاتب فى أقصوصة “تفرغ”: “وجد من بين شروط التحاقه بالدراسات العليا ضرورة موافقة جهة العمل، ولأنه لا يعمل، لم يلق بالًا لهذا الشرط، وقدم أوراقه مطمئنًا إلى القبول، لكنه فوجئ بالموظفة تقول له:
ـ ليس لدينا ما يثبت أنك عاطل.
رفع وجهه مندهشًا، فلاحقته:
ـ لتجد عملا أولًا، ثم تأتينا بموافقته على تفرغك للدراسة.
ابتسم وقال:
ـ أعمل فى خدمة العلم.
رمته بنظرة ساخرة، وقالت:
ـ احضر إقرارًا من العلم يبين تفرغك.”
وتصب ذكريات الطفولة بالقرية فى خانة التوق إلى الحرية، فأهالى القرى الذين يسكنون المدن يتذكرون بشكل دائم استماعهم للسيرة الهلالية ويتقمصون أبطالها ، وهو ما تتحدث عنه أقصوصة “فرسان”، كما يتذكرون أيام طفولتهم وهم يقذفون الأحجار فى الترعة والاستمتاع بالدوائر التى تصتعها هذه الأحجار فى المياه، وهو ما تتحدث عنه أقصوصة “دوائر”، وتتبدى قيمة الحرية فى أقصوصات عديدة، منها، “أصالة” ، حيث يحكى الكاتب:” بعد سنوات بهتت اللافتة الفاقعة، وبانت تحتها الكلمتان القديمتان: “مقهى الحرية”، فأمكن للمارة قراءتهما بوضوح واطمئنان.”، ويحكى فى أقصوصة “النشيد”:”وتناهت إليهم أصوات هادرة يعرف أصحابها كيف يعبرون بطريقة أعمق عن حب الناس والأرض والحرية”، ويقول فى أقصوصة “إفراج”: “مد ذراعيه ورفرف محاولًا الطيران في اتجاه المدى الأزرق، ناسيًا كل من على الأرض، وأولهم القساة الذين سجنوه”، وفى أقصوصة “مظاهرة” تعلو قيمة الحرية على قيمة الخبز ، حيث يقول الكاتب: “واحد فقط تنبه إلى زيها الفاخر، وجواهر تزين جيدها وأذنيها ومعصميها، ومفتاح سيارة فارهة يتدلي من علَّاقة في يدها، وأدرك أن غضبها لسبب آخر أثمن من الطعام”، وفى أقصوصة “مسار” يحكى الكاتب: “لم يكن هناك سبيل سوى التجمع عند منتصف المسافات، حيث تداخلت الأصابع، وعرفت الأبصار طريقها.”
ولم تخل “تلال الرماد” من الحكم والأقوال المأثورة، ففى أقصوصة “محو” ينهى الكاتب أقصوصته بعبارة “لا فائدة لعلم لم يجعل من حازه إنسانا حقيقيا”، وينهى الكاتب أقصوصة”محبة” بعبارة “تصفو المحبة مع الصمت الحزين”، وفى أقصوصة “عقم”، يحكى الكاتب عن أهل مدينة كفوا عن الحلم، غصبا عن إرادتهم، ويبحثون عن السبب، فإذا بشاب نابه يقول لهم: “تهرب الأحلام حين يحضر الخوف”.
ثلاث أقصوصات تجعل للحب الحقيقى وذكرياته مذاقا خاصا فى نفسية المحبين والعاشقين، وهذا الحب يمثل من وجهة نظرى أيقونة مجموعة تلال الرماد، ففى أقصوصة “لقاء”، ضابط شديد المراس فى التحقيق مع المجرمين، ينهزم أمام حبيبته المجرمة وهو يحقق معها، بعد أن التقاها بعد طول سنين،حيث يحكى الكاتب: “وحدها تلك الجريمة التى انهزم فيها، فجاءت أسئلته هينة، وفتح فيها بابًا واسعًا للمجرمة أن تنجو بما ارتكبته”، وفى أقصوصة “حصى”، يعرض الطبيب على المريض كمية الحصى الكبيرة التى وجدها فى كليته فيرد عليه المريض بعد ان تاه قليلا :”فى أيام العشق والفراق كنت فى حاجة إلى أكثر من هذا الحصى فى قلبى”، وفى أقصوصة “حريق” يقول الكاتب على لسان البطل: “حين فتحتهما لم أجد حريقًا، وسمعت من يقول: إنما النار في قلبك الذي أضناه الفراق”، وفى أقصوصة “تسامح” يشعر المحب أنه كان متعصبا للفريق الذى لا تشجعه حبيبه، وفى أقصوصة “تجاعيد”، يحكى الكاتب: “حين التقاها، خاطبها:
ـ يا فتاتى.
نظرت إليه مندهشةً فابتسم وقال لها:
ـ هكذا ستظلين دومًا فى ناظريًّ حتى تبحث الروح عنك فى الملكوت الأعلى.”
ويدق الكاتب فى مجموعته هذه جرس إنذار بشأن قضية المياه على خلفية سد النهضة، ويؤكد أن المياه بالنسبة للفلاح المصرى مسألة حياة أو موت، ففى أقصوصة”عطش” يحكى: “جف ريق الزرع فى الصيف القائظ، متطلعًا إلى ترع فارغة، ثم سماء صافية، إن لاحت فيها سحابة تكون بيضاء خفيفة، تتلاعب بها الريح.
وقف المزارعون عاجزين على الجسور يراقبون نبات كاد يقتله الظمأ، ويتبادلون نظرات تسكنها الحسرات، ليجدوه ينهض فجأة من انحنائه، ويقتلع جذوره من الأرض القاحلة، ويهجم غاضبًا في اتجاه المنابع البعيدة.”