عبد الرحيم التدلاوي
استهلال:
الفن قديم جدا، ولد منذ سحيق الوجود البشريّ، عندما أضحت الحاجة ضرورية إلى وسيلة تترجم عن المخلوق الجديد، هذا البشر المثخن بالمخاوف و بالدهشة و بالعجز. قلد الإنسان الأول ما كان يراه من فعل الكائنات الأخرى في حالاتها المتعددة. في البداية كان الرسم على جنبات الكهوف و بما تيسر من مواد ترابية و حجرية، و تنبه بعدها إلى النحت و الرقص.. ثم اكتشف النغم من الرياح المتنوعة و من تغريد الطير و أصوات الحيوان. ثم كان الاكتشاف الأكبر حينما عرف قوة الكلمات و تأثيرها على الروح، و هي تتساوق في إيقاع شجيّ مرة و فرح مرة أخرى..فكان فتحا كبيرا في تاريخ النشاط الكلاميّ. كما قال الشاعر عبدالإله مغير.
مدخل:
على غرار قصيدة المدح سارت مجموعة “كتاب الأسرار”، التي نهجت بفنية وجمال الإشادة بالكتاب وبالفن، رافعة من شأنهما في ظل انتشار القبح وتهافت الناس على الساقط من الفن، معتبرة أن الكتاب يحتوي أسرار الأمة، ويحمي روحها، وإذا ما استطاعت أمه فك رموز ثقافة أمة أخرى، فالأكيد أنها ستسيطر عليها، لذا، من الواجب تحصينها برموز سرية لا يفقهها سوى أهلها، دون أن يعني ذلك الدعوة إلى الانغلاق. فالحاجة ماسة للانفتاح، لكن، دون أن تفقد الأمة جوهرها وخصوصياتها.
تشترك نصوص المجموعة في خصائص إبداعية عديدة تجمع بينها و تجعلها متقاربة من بعضها البعض من حيث الخصائص الفنية و اللغوية ومرجعية المتح؛ ومنها: تكسير الحدود بين الواقعي والخيالي، ولعبة الإيهام ذات الارتباط، ولعبة التقابل بين قصتين تنتهيان إلى التداخل بينهما، كما في قصة “اللحن” ص63، وغيرها من التقنيات…
تنفتح المجموعة على مأساة الكتابة و احترافها,حيث تكون الكتابة تهمة و حرفة، الكتابة التي تضع مقترفها في لائحة السواد عند أعدائها حراس النوايا…
القراءة:
تحركت غيرة القاص عبد اللطيف، ومعها تحركت ريشته، لما غابت الكتب عن ساحة جامع لفنا، لتصير الساحة مطعما كبيرا مفتوحا على الهواء الطلق يغذي البطن، بعد أن كان يغذي العقل، فرسمت قصصا تعلي من شأن الكتاب بعامة، والإبداع بخاصة، فكانت النصوص بأكملها تشيد بالفن وتظهر معانيه السامية. وبناء عليه، صارت المجموعة تنتمي إلى الكتابات ذات الموضوع الواحد والموحد.
لا يخفى على القارئ في مجموعة “كتاب الأسرار” وحدة موضوعها وتجانسه بدءاً من العنوان.. حيث تتعرض القصص بمجملها إلى قضية “الكتاب والإبداع” ضمن سياقات مختلفة.
في مدح الكتاب:
نلمح اهتمام الكاتب بالكتاب والقراءة كفعل يدير رحى إنتاج المعرفة، لهذا جاءت أغلب النصوص تتضمن الإشارة إلى هذا الشأن، كنص “المستوحشون” ص29، فعنوان النص كما خاتمته تشير بطرف خفي إلى فعل العنف الناجم عن غياب الفكر، فالتوحش رديف الأكل، ومناقض التمدن الذي يصاحب الكتاب؛ إذ لهذا الأخير دور في نقل الإنسان من الطبيعي إلى المتمدن، بتنمية فعل التفكير، وتهذيب السلوك، وتقوية الأخلاق السامية. من دون كتاب، وبالتالي، مكتبة، ستكون المدن مجرد غابات إسمنتية تعلي من فعل العنف، وتمجد سلوك الافتراس؛ ومن هنا انبثق عنوان القصة “المستوحشون” التي ترصد لها غضبة الكتب قائلة: كان سعار الكتب قد تأجج، فانطلقت الحروف من قواعدها الورقية تصب ويلاتها على من هب ودب….ص 32.
وفي النص نفسه نجد نقدا لمجتمع بدأ يفقد ركيزة أساسية من ركائز التمدن، ألا وهي المكتبات حيث يقول في ص 29: أغلقت المكتبات أبوابها منذ زمن بعيد، وتحول أغلبها إلى محلبة أو مطعم أو مخبزة أو محل لبيع الملابس أو الأثاث…
ولأن المكتبات لا تغلق تلقائيا ولكن بفعل فاعل، فإننا سنجد نص “إنفلوانزا” ص109، يشير إلى الجهات التي تقف وراء الإغلاق؛ فالسارد في رحلة بحثه عن كتاب مخصوص كان ملاحقا بمخبر يتعقبه، وفي رحلة البحث سيرصد التغييرات السلبية التي تشهدها المدينة من حيث إغلاق محلات بيع الكتب، ومن بعدها المكتبات مخافة تفشي داء الإنفلونزا، هذا المرض الذي كان مبرر إبعاد الكتب عن أعين القراء، يقول السارد: وحين طفقت وزارة الصحة تتحدث عن سقوط ضحايا بسبب الفيروس، تضاربت الإشاعات حول مصدر الفيروس: الدجاج؟ الإشعاعات النووية؟ الخنازير؟… وطلع علينا، ذات نشرة أخبار مسائية بالقناة الوطنية، وزير الصحة مرتديا بذلة أنيقة ناصعة السواد، ليقدم بلاغا يرجح مصدر الفيروس. عندئذ أومض في رأسي بصيص من الفهم: تهجير الخزانة الكبرى، وربما أيضا محو مكتبة الجاحظ، لم يحدث إلا على أساس الشك في الكتب. ألم يشر الوزير بأصبع الاتهام إلى الأرضة التي تسكن الكتب؟ ص115
في مدح الفنون:
يعد الكولاج والموسيقى والرسم والنحت من الفنون التي لا تعتمد على الكلمة في التعبير والتبليغ وتوصيل ما تحس به الذات من مشاعر؛ وإنما على ما تقدمه من أشكال و صور و منحوتات، يبرهن بها الفنان على قدراته في تقديم حالات إنسانية بكامل الجمال و الرقي.
1_ الكولاج الفني:
ونقصد بالكولاج الفني تشكيل عوالم فنية من أشياء مادية موجودة في الواقع، بإعادة تدويرها، مما يدل على موهبة الفنان في بنائها بطريقة خاصة، معيدا إليها الحياة نافثا فيها بعضا من روحه، ونفسه، وعقله، لتصير جزءا من كيانه، ومعبرة عن شخصيته، كما في نص “علبة الثقاب” ص15، فترى الشخصية المحورية مسكونة بعلب الثقاب، صارفة جل حياتها بحثا عنها لإعادة تدويرها فنيا، مانحة إياها شكلا جماليا مختلفا. لقد صارع الرجل من أجل المحافظة على فنه من الاندثار، مواجها كل العقبات التي تقف في وجهه، وبخاصة عقبة أهله الذين أودعوه مستشفى الأمراض النفسية، بفعل منوم دسوه له في مشروبه؛ ويصح وصفهم ب”المتوحشين” لكونهم لم يدركوا الجمال الكامن في إبداعاته، بل شعروا بالخزي والعار مما تقترفه يداه: لم يصفقوا، رموك بتلك النظرات التي تبث في الدم الشعور بالرعب والذل والضعف، لقد أحسست تحت المفعول السيء لتلك النظرات أنك قد أتيت شيئا فريا، كما لو أنك لطخت شرف العائلة بالعار… ص22.
2_ الموسيقى:
وأبرز نص دال على محبة الموسيقى، هو نص “اللحن” ص63، هذا النص الذي يتشكل من قصتين اثنتين، يجمع بينهما رابط البحث عن اللحن المثالي، بالهجرة إلى قرية هادئة، عامرة بالجمال، ألا وهي قرية “أوريكا” القريبة من مدينة الأساطير والحكمة، مراكش. القصة الأولى هي للسارد الذي عاش لحظات احتباس إبداعي: كان الكمان قد استعصى على أناملي طيلة شهور، حتى استبد بي اليقين بأن قريحتي الموسيقية قد أضحت جدباء… ص 63، فقرر قضاء أيام بذلك المنتجع الرائع، والقصة الثانية هي للموسيقي العالمي: هوسمان الذي افتتن بالقرية وقرر البقاء فيها حيث داهمه الإبداع، فأخرج شهي الألحان، وكان صداها قد سكن السارد الذي خرج من حبسته إلى رحابة التلقي والإبداع.
تكسير الحد الفاصل بين الواقعي والخيالي:
من اللافت للانتباه أن قضية كسر الحد الفاصل بين الواقعي والخيالي تعد السمة الأساس التي تجمع تحت ظلها النصوص كاملة؛ فهي سمة عبرية، تسافر بين النصوص كما يسافر القارئ بين العالمين المختلفين أثناء قراءته المتن القصصي؛ فالأكيد أنه سيمر بسلاسة وسهولة بين الواقعي والخيالي دون أن ينتبه، أو تحدث له هزة موقظة، إلا في نهاية فعل التلقي، حين يستعيد حضوره بعيدا عن سطوة سحر الكتابة، يقف متأملا، ليدرك أنه كان تحت تأثير ذلك السحر العجيب؛ هذا السحر الذي مكن السارد بمختلف تمظهراته من جعل قارئه يتنقل بين العوالم العجيبة بحركات سرية عذبة لا تقبض سوى في النهاية؛ وكأننا في حلم جميل ينقلنا إلى البعيد والقريب، يسافر بنا ذهابا وإيابا دون اهتمام بالحدود الشفافة التي ستبدو، لو ظهرت، مجرد نتوءات غير سليمة.
ويرتفع منسوب التداخل في نص “في بيتي أشباح” ص51 حيث تم طرد المكتري المتكاسل بفعل اقتناعه أن ما يدور أمامه حقيقي؛ ومن هنا، يتبين أن الإيهام عنصر مهم في عملية تكسير الجدار الفاصل بين الواقعي والخيالي؛ فبفعل تنويس حاسة الوعي على التمييز، نجح الممثلون من إقناع الرجل أن ما يدور أمامه حقيقي، وانخرط في اللعبة الناجحة.
ويتعالى فعل التكسير في نص “اللحن” ص63، إذ يتم المزج بينهما بشكل سام، يجعل الروح ترتفع إلى مدارج الالتحام. فنرى الفنان الموسيقي يلتحم بالموت الذي يحيط به الماء من كل الجهات، غير عابئ بالنهاية مادامت قد حققت له التماهي المطلوب، نراه يرتفع مع ارتفاع منسوب الماء واللحن، ليصل مرحلة الفناء الصوفي حيث لا خوف مطلقا، إنه بلوغ أقصى لذة مقتطفة.
أما في قصة “كتاب الأسرار” ص85، والذي يعتبر أم نصوص المجموعة، فنجد لعبة الغازي في محاولاته إيهام معتقليه بضرورة إفشاء سر الكتاب، باعتماد آلية التمسرح للإقناع؛ فقد استعان بتلك الآلية لجعل كل معتقل ساهم في تحبير كتاب الأسرار، يعتقد أن صديقه في العمل قد قام بكشف المستور، بيد أن الجهات العليا تفطنت إلى الخطر الداهم، فاستبقت الحدث بتفعيل الآلية نفسها، وهي التلاعب بالرموز، اعتقادا منها أن روح المجتمع ينبغي أن تظل محروسة بقوة حتى على أفرادها المساهمين في الكتابة والترميز.
في نص “سحرها !ص121:
نجد أن القصة تتخذ نفسها موضوعا لها، حيث تتشكل أمام أنظار القراء، في عشق لنفسها كبير، تمارس لعبتها أمام المرآة، تبني حضورها اللولبي باستمرار، تكرر وجودها بشخصيات مختلفة، يتصاعد الحكي إلى أعلى بأنفاس شخصيات متجددة في كل صعود، لتبلغ القمة، وترتمي بين أحضان القارئ، ليعيد ممارسة اللعبة من الأعلى إلى الأسفل، بعد أن يكون قد أدرك سر البناء.
والنص رحلة ممتعة تسافر بنا بين عوالم الخيال والواقع دون جواز سوى جواز الخيال الخلاق، والقراءة الولادة. كما أن السارد يورط القارئ في فعل الكتابة، يشركه حتى لا يظل سلبيا، يمنحه سلطة الحكي التي انتزعت منه بفعل تسلط كتابات تقول كل شيء ولا شيء في الآن ذاته.
وعلى غرار هذا النص سار النص الأول، حيث إن الرحلة بين الواقعي والخيالي ظلت مستمرة من بدايته إلى نهايته، ومن الصعب التمييز بينهما؛ وقد كانت القصة ذات أجواء كابوسية تذكرنا بأجواء قصص كافكا، ويتقوى هذا الإحساس بحضور شخصية “ك”، وكأنه من شخصيات عوالم ذلك الروائي العالمي.
إن التداخل بين العالمين لعبة فنية مارسها القاص باحترافية عالية، وليس غريبا أن تكون إحدى محاور المجموعة المهمة، لكونها كانت المفتتح والمنتهى.
ختاما:
تعد مجموعة كتاب الأسرار” لعبد اللطيف النيلة، من المجموعات القيمة فنيا وجماليا وغنية بموضوعاتها، وبعمق طرحها، وندرك، تمام الإدراك، أن العمل يمتلك مداخل كثيرة لقراءته، من مثل: مدخل العتبات، واللغة الشاعرية، وقضية الزمان والمكان، والوصف، والسارد ورؤيته السردية، وغيرها من القضايا الأخرى، لكننا اخترنا مدخلا واحدا وجدناه عابرا للنصوص، ألا وهو مدخل: تكسير الحدود الفاصلة بين الواقعي والخيالي. عمل يستحق القراءة والمتابعة لغناه متعدد الأبعاد.
فالمجموعة يصدق عليها ما قاله محمد متولي:
لا تنتمي روايات السرد الحداثي إلى هذا النمط من الحكي، وإنما تنتمي إلى ما أطلق عليه رولان بارت «روايات الكتابة»، ويقصد بها تلك الروايات التي ينفق الروائي جهدا عظيما في وضع هندسة بنائها، وصناعة قوانين السرد، فتتطلب قراءتها جهدا كبيرا من القارئ، إذ تجبره على المشاركة في لملمة شعث أحداثها، والإسهام في إنتاج دلالتها، فتصبح قراءتها على هذا النحو نوعا من الكتابة الموازية، يقوم بها القارئ نفسه، فهو لا يتابع في هذا النمط من السرد الأحداث اليسيرة السهلة، مسترخيا ناعم البال، وإنما عليه أن يعمل عقله لفك شفرات النص وتفسير علاقاته المعقدة المتشابكة لخلق المعنى والوصول إلى الدلالة المقصودة.1
………………….
*كتاب الأسرار، قصص قصيرة، عبد اللطيف النيلة، سلسة كنانيش مراكش، العدد 4، الطبعة الأولى سنة 2017.
1ـ محمد متولي: السرد الحداثي: متاهة أم فوضى خلاقة؟