تفاصيل صغيرة تبهجنا وتؤرقنا في قصص الفخراني

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 6
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد الأصفر

معظم الكتاب الشباب في مصر ينطلق في كتاباته السردية والشعرية من واقع الحياة اليومية التي يعيشها حيث يحاول بلورتها من جديد وفق مزاجه ورؤاه الشخصية الخاضعة بالطبع لمخزونه من التعليم والتجارب الشخصية والمشاهدات اليومية والتفاعلات التي يمارسها يوميا عبر شبكة النت وعبر أجهزة الاتصال الحديثة التي تمكنه من العيش في كل أنحاء العالم بواسطة صوته أو حروفه المنقورة على لوحة المفاتيح.

كتابة هؤلاء الشباب تولد نقية من الأفكار الإيدلوجية اليسارية واليمينية التي ميزت كتابات معظم أدباء الستينيات والخمسينيات والسبعينيات أيضا، حيث تحس وأنت تقرأ القصيدة أو الرواية أو القصة أنك أمام بيان سياسي إيديولوجي يروج لفكرة ما ولرؤية ما بالنسبة لهذا الوقت يكون قد عفى عليها الزمن. ومن هنا هذه الكتابات الشابة لا تنال إعجاب أدباء الستينيات وغيرهم من الحقب السابقة، وذلك لفرادتها ولابتعادها عن نهجهم الكلاسيكي النائي بنفسه عن التجريب والمشبع بالأفكار والسائر وفق قواعد الكتابة المعتمدة في الجامعات والمعاهد حيث اللغة الرصينة والكلمات المؤدبة الوعظية الخالية من لغة الشارع ولغة الواقع المعيش وحيث الرؤية السياسية التي يمكنك اكتشافها من أول سطر .. قومية .. يسارية .. يمينية .. إلخ.

من هؤلاء الكتاب الشباب يمكننا أن نطالع كتابات الروائي والقاص محمد الفخراني صاحب رواية “فاصل للدهشة”. هذه الرواية التي أثارت الدهشة فعلا ونجحت في تأجيجها بتناولها الواقعي لعالم المهمشين من سكان العشوائيات والعشش في ضواحى القاهرة وما تعيشه هذه الأمكنة من تجارب حياتية ومتناقضات أفرزت الكثير من البلطجية البؤساء الذين لا يمكن أن نقارنهم ببلطجية الخمس نجوم كالساسة ورجال الأعمال الذين هم معظمهم الآن بعد ثورة 25 يناير في السجن وفي أقفاص المحاكم.

كانت “فاصل للدهشة” هي بدايته الحقيقية، وليس غريبا أن يتم اختيار هذه الرواية لهذا الكاتب الشاب من ضمن الروايات التي تنافس على جائزة بوكر العربية في دورتها الأولى، وقد أشاد بهذه الرواية أكثر من مرة العديد من النقاد المرموقين والكتاب المخضرمين كالكاتب جمال الغيطاني.

هذه المرة يترك الفخراني عوالمه الروائية المدهشة، ويقدم لنا مجموعة قصصية جديدة عنوانها “قبل أن يعرف البحر اسمه”. وعنوان المجموعة يعتبر وكأنه صدر بيت من الشعر. يغري القارئ خاصة من تستهويه الأعمال الرومانسية لتصفح الكتاب واقتنائه. وبالفعل ستجد أن معظم نصوص الكتاب هي عبارة عن قصائد كتبت بلغة السرد. نصوص سردية مفتوحة على كل احتمالات التفسير. نصوص تمتزج فيها الأحجيات والألعاب اللغوية والقصائد بالرؤى الفلسفية التي درسها شباب هذا الزمن في الجامعات قبل أن تدرسها الحياة لهم في أرض الواقع. سنجد عوالم الفيلسوف هيجل في بعض النصوص. وسنجد ظلالا لفلاسفة وأدباء عالميين آخرين يطلون من بين الكلمات معلنين حضورهم الخفيف والشفاف كالنسيم.

نصوص مليئة بالشك، لا تؤمن حتى بنفسها، تتمرد على كاتبها وعلى قارئها أيضا، حيث لا تتركه يتوقع بدقة إلى أين ستنتهي. نصوص لا تنتهي أسطرها إلا لكي تبدأ في أذهاننا من زاوية أخرى من جديد. يقودك عبر حبل السرد ببساطة. يأخذك من يدك ثم عندما يحل ظلام الأفكار والتفكر والتدبر يتركك تائها في منتصف الطريق. أمامك طرق أربعة.. تحتك أرض وفوقك سماء، بينهما هواء ليس كله حرا. عليك أن تستنشقه بحذر، وأن تهيأ مناخيرك للعطس إن تسرب إلى رئتيك بعض السم.

من عناوين النصوص نقرأ : “شعرها يشتت تفكير العالم. تبتسم لأول ثلاثة وترقص مع الرابع. موسيقى متجولة وشاعر مغامر. بحر في حصان .. حصان في بحر. قلب يرتدي البنفسج. دافئة تستعملها المرأة والعصافير وأسماك النهر. ينفق النجوم في المقاهي. وغيرها من النصوص.

 

يستهل القاص الفخراني كتابه بعبارة: “لا شيء أجمل من أن تخترع العالم”.

وهذا العالم هو فن السرد الذي يعيد صياغة الحياة كما نتمناها في عالمنا الآخر. يعيد بناء مدن يخترعها ويشيدها بمداد ينزف من القلب، يكتب الفخراني قائلا عن هذه المخترعات التي تحتاج إلى شهادات براءة من القارئ الكريم: “لدي إحساس بأن هناك أرضًا جديدة لم يعرفها البشر بعد، صالحة لأن يعيشوا فيها، ربما يكتشف هذه الأرض أي إنسان، أو كرة يركلها طفل ولا تعود إليه ثانية لأنها تنتظره في أرضه الجديدة، أحب أن أضع في هذه الأرض شجرة وحقلاً من أطفال لا يكفون عن الركض والتطلع إلي حيث لن يعرف أحد”.

قصص جميلة مليئة بالغرائبية والصور المرحة المحببة للنفس، منها قصة جميلة تحكي عن امرأة خلعت حمالة صدرها وعلقتها في مسمار أعلى الحائط كي تتخذها العصافير عشا لها. لقد ترك القاص السؤال معلقا ليكمل القارئ الحدث ويتخيل كيف هي حالة العصافير وهي في حمالة الصدر دافئة نائمة سعيدة وسط ما تبقى من عطر وأنوثة وربما لبن يجعل العصافير تتحول إلى فصيلة الثدييات كي ترضع.

وحتى وإن كان القاص قد أكمل سرده بمنح الأم الحمالة بعد أن قسمتها نصفين إلى طفليها كي يلعبا بها في البحر ويملأها بالماء ويفرغاها بحثا عن العصافير كما يبحث أطفال أميركا اللاتينية بواسطة أوانيهم عن ذرات الذهب إلا أن القارئ سيتوقف لدى تعليق الحمالة على المسمار ليحاول أن يمسك أي حمامة دافئة تحط في العش. نص يحول يدك إلى فخ، ويمنعك من مواصلة القراءة بكل حواسك، عيناك تواصل القراءة لكن يدك ستظل متأهبة للانقضاض على عش الحياة الدافئ الخصب.

نصوص المجموعة وتفاصيلها أقرب للقصائد يمكننا أن نحس بها وأن نعيشها لكن نعجز عن فهمها أو شرحها. نصوص تحاول أن تخترع شيئا جديدا. على القارئ أيضا أن يخترع طريقة جديدة للقراءة كي يواكبها، ويقترب منها أكثر. قبل أن يعرف البحر اسمه، ماذا كان يفعل البحر؟ يواصل رمي أمواجه على الشواطئ. يواصل زوبعاته وثوراته وابتلاعه للسفن. يواصل لبس رداء الزرقة الزائف. البحر هو الحياة. الحياة التي مازالت لم تعرف اسمها بعد. واسمها المسمى من قبلنا هل قبلته منا؟ إن قبلته فلماذا تدمرنا وتقتلنا وتحرمنا من ملذاتها الكثيرة.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم