محمد أبوالدهب
ركلَ الأستاذُ فرج الدكتورَ عبد الحليم في عضلة فخذه الخلفية، ركلةً حُرَّةً مباشرة. العضلة التي حين يقف لاعب الكرة فجأةً، في أثناء احتدام المباراة، ويتحسَّسها، يمصمص المُعلِّق في التليفزيون شفتيه إشفاقًا، ويعلن بأسى، وبما يدلِّل على خبرته بمآل الحالة: “أوووه! مِسِك الخلفية، كده فيه تغيير اضطراري”. كان ذلك ردًّا على اللكمة القوية، التي خلخلت عظْمة خدِّه الأيسر، والتي باغتَه بها الدكتور عبد الحليم. والأستاذ فرج فكّر أن الدكتور عبد الحليم لم يباغته وحده، وإنما باغتَ الدنيا كلها. وأحسَّ كأن بالونةً من التورُّم، تنتفخ على جانب وجهه، وتكاد تمحو نورَ حدقةِ عينه اليسرى.
طبعًا، اختلَّ توازن الدكتور عبد الحليم، وسقط على البلاط الجديد لقسم (4) رجال، والذي لم يمر على افتتاحه، بعد تجديد بلاطه وشبابيكه وترميم حيطانه ودورة مياهه، أكثر من أسبوعين. المدة نفسها التي أمضاها الأستاذ فرج في القسم، مخلِّفًا سنوات من العمل بالعيادات الخارجية، في الدور الأرضي. ضربَه في الرِّجْل السليمة، فلم تحتمل الرِّجل الأخرى، المعوجَّة، جسمه الثقيل. وهو، حال انقلابه على ظهره، نادَى مرّتين: “يابن الكلب، يابن الكلب”. شاهدَ الأستاذ فرج نفسَه، حين استدار ليبتعد قليلا، في زجاج الدولاب الطويل، الذي يضع الممرِّضون طلبيَّات العلاج داخله، ولم يلحظ أيَّ ورم على صفحة وجهه. استنفرَه ذلك ليقفز فوق الدكتور عبد الحليم، ويتابع انتقامه، ويجيب نداءه: “إنت ابن ستين كلب يا دكتور”.
وتمنَّى الأستاذ فرج على الله ألا تدخل الحاجَّة عايدة الآن.
ودخولها مستبعَدٌ تمامًا؛ لأنها تظلّ جالسة إلى مكتبها بحجرة “وحدة الخدمة الاجتماعية” طوال ساعات العمل، تأكل وتشرب الشاي وتسبِّح اللهَ ألف مرَّة، وفي أثناء التسبيح تكلِّم الزملاء وأهالي المرضى. لن يتوفّر أبدًا سبب واحد مُقنع لوجودها في قسم (4)، لا اليوم ولا غيره، لكن هذا ما جالَ بفِكره. لم يكن واثقًا مما يليق فِعله، وقد أصبح يعتليه، ويسيطر على حركته. هل يلكمه لكمات كثيرة متتابعة في وجهه، أم يدقُّ قفصه الصدري برُكبته أو بكوعه، كالذي يفعله خبراء الشقاوة في مشاجراتهم؟ وفكَّرَ أيضا أن يغرس أظافر أصابعه في لحم وجهه، فيجرح خدّيه، أو يخمش لُغدَه المدلدل، ويرى دمه يسيل، كما كان يفعل قديمًا مع العيال في الخناقات.
لم يفعل شيئا. ربما لاعتقاده، الذي خايله بمجرد أن قدَّم ركلتَه، أن المعركة ليست نزيهة للغاية، لأن الدكتور عبد الحليم مولود بشلل الأطفال في إحدى ساقيه، فيما وُلدَ هو بساقين سليمتين. ولأن الدكتور يكبره بسبع سنوات، وأمامه شهر واحد قبل الخروج على المعاش، ولو كانت الحال معكوسة لما تخيَّل الأستاذ أن يُنهي مّدة خدمته حاملا ذكرى مُهينة كهذه.
والدكتور عبد الحليم أيضا لم يفعل. لم يحاول دفعَ الأستاذ فرج، وإبعاد ثقله عنه، رغم أن ذلك كان سهلا عليه، من الوضع راقدًا على ظهره، لأن الأستاذ فرج أخفّ وزنًا منه، بكثير. فقط بقيا يحدّقان إلى بعضهما، بنظراتٍ صنميّة، لا تعطي انطباعًا برغبةٍ في مزيدٍ من القتال، ولا بجنوحٍ إلى التصالح، ولا حتى باتِّفاقٍ على هدنة مؤقتة، مع أنهما يمارسانها بالفعل هذه اللحظة. إلى أن صرخ الدكتور عبد الحليم صرخةً عفيّة جدّا، قياسًا إلى سِنِّه وموقفه الأضعف: “إيه إللي بيحصل ده يا بهايم؟”. ولم يفهم الأستاذ فرج مقصوده المحدَّد من “بهايم” بصيغة الجمع.
جاء ثلاثة من تمريض القسم، يهرولون على الصرخة. ضحك أحدهم، وتراجعَ خلف زميليه. والثاني سألَ بنبرة مصدومة: “هو فيه إيه يا جدعان؟”. والثالث قال: “إنتو كبار على كده يا باشوات”، وانحنى يرفع الأستاذ فرج من تحت إبطيه، فاستسلمَ له. والدكتور عبد الحليم حملقَ في الوجوه من مَرقده بين الدولاب والشانون، واعتمد بيديه على المكتب الكبير، الذي يتداولون استعماله بينهم -أطباء وممرِّضون وأخصائيون اجتماعيون ونفسيِّون- والذي كان سبب الأزمة. قام من على البلاط، دون مساعدة من أحد. وهم تجمَّدوا يُشاهدونه، كما لو أن أرواحهم أُرغِمتْ على مراقبة مشهد: “الطفل المعجزة يعافر لينجزَ خطوته الأولى في الحياة قبل الأوان!”. وقف الدكتور على رِجل ونصف، ينفض بنطلونه ويبرطم. وكان عددٌ من المرضى، في المساحة بين باب حجرة “طبيب القسم” والبوابة الحديدية، ينظرون ويضحكون ويصيحون. كلٌّ حسب نوع فصامه أو اضطرابه الذهاني.
وتهيّأ للأستاذ فرج أن الحاجَّة عايدة تشبُّ على قدميها، من ورائهم، لتراه، بعينيها الكحيلتين وحجابها المضبوط. فالتهبَ خدُّه الأيسر من الخجل.
**
أتى الحاج أحمد على طبق الأرز، وقد أفرغ عليه أكثر من نصف طبق الملوخية. تعرِف عايدة عشقَه لهذه الخلطة، منذ تزوّجا قبل خمسٍ وعشرين سنة. تأفّفت أولًا من تهوّره على اقتراف عمل عجيب كهذا، لم تشهده في بيت أبيها قط. ثم صارت تستملح رؤية ملعقته، وهو يرسلها إلى فمه المفتوح على آخِره، محمَّلةً بحفنة الأرز الأبيض المخضرّ، مع ظهور علامات التَّلذُّذ على سحنته. وبين زمان وآخر، كانت، من قبيل التجربة، تضع ملعقة ملوخية في الركن من طبق الأرز، وتأخذ الخليط على طرف لسانها، وتتأكد بنفسها أن الطعم مستساغ، ولا عيب فيه، فتمضغ وتبلع وتعيد الكَرَّة.
علامةً على اكتفائه من الأكل، تكرَّع الحاج أحمد، وأراحَ رُسغيه على طرف المائدة، حريصا على ألا يمسّ المفرشَ بباطن كفّيه، الرطبتين بدهن اللحم، الذي يحبه أيضا، ويغمسه بالخبز. لم تتأفَّف عايدة هذه المرة؛ لأن أباها كان يفعل الشيء ذاته. ورأت أن الوقت صار مناسبًا لتُذكِّره بطلبها الذي سبق أن رفضه: “قلت إيه بقى يا حاج؟”. والحاج وقف على قدميه، من أجل أن يغسل يديه، ثم ينتظر الشاي في البلكونة. قبل أن يغسل وينتظر، كشَّر، وأمسك بالملعقة، ورماها ناحية عايدة، ومسح يديه في المفرش النظيف، ثم خبط بهما على المائدة خبطتين، فاهتزت الأطباق والملاعق وشخشخت: “جاتِك القرف في منظرِك!”. وذهب. وعايدة راحت تلمُّ السُّفرة، وتعمل الشاي.
في المطبخ، نطَّ فرج في خاطرها فجأة. تحدّثتْ في بالها: “يعني لو كنت وافقت على فرج لما طلب إيدي قبل أحمد كان عمره رفض لي طلب! منِّك لله يا دكتورة انشراح مطرح ما انتِ”، وجهرتْ عايدة بالاستغفار من شَرِّ الخواطر. والدكتورة انشراح كانت تسلَّمت العمل بالمستشفى، قبل سِت وعشرين سنة، لمدة شهر واحد، ثم انتقلت إلى مستشفى قريب من محلّ إقامتها البعيد. خلال ذلك الشهر، تقرّبتْ منها عايدة، وصارتا صديقتين. وخلاله طلب فرج الزواج من عايدة، وكانا قد عُيِّنا، معا، قبل أشهر قليلة، بمكتب الخدمة الاجتماعية. ولما أخبرت صديقتها، حذَّرتها تحذيرًا علميّا شديد اللهجة من الزواج بشخص يماثلها في السِّن، وبشَّرتْها بالخراب البيولوجي إنْ حصل الزواج، ثم رحلتْ. ولم تلتقيا ثانيةً. وعايدة خافت من كلام انشراح، فرفضت العريس، رغم ما أبداه من تعلُّق شديد بها.
والحاجة عايدة كانت غادرت المستشفى دون أن تسمع بالخناقة في قسم (4) رجال. وفي أثناء سيرها إلى منزلها القريب، انقبض قلبها، ووقفت في منتصف الشارع، وقد غشيها الوهم أنها نسيت شيئا ضروريا في المكتب. محَّصت الذاكرة وأفرغتها. توصَّلت أخيرا إلى أنها لم تتلقَّ نظرة الانصراف من الأستاذ فرج. قالت: “يا ترى الراجل إيه إللي دَهْوِلُه النهارده؟”. واستعاذت بالله من الشيطان.
وفرج اعتاد النظر في عينيْ عايدة، منذ اليوم الذي أعقبَ يوم رفضها له، نظرتين مخصوصتين، خلاف نظرات الكلام العادي ومواقف العمل: نظرة الحضور، ونظرة الانصراف. استقبال ووداع يوميّان. يصوِّب عينيه في عينيها، ولا يرمش، مقدار توصيل الرسالة: “بحبك قوي يا عايدة وهفضل أحبك على طول”. في الأوّل، كانت عايدة تستغرب وتهرب بعينيها وتستهجن أفعال هذا الشخص عديم التربية. بعد ذلك، صارت تتركه ينظر على راحته، ويبعث بالرسالة التي تفهمها وتستقبلها، لكنها بالطبع لا تردُّ عليها. وفي أثناء العملية، كانت عيناها ترمشان بوتيرة أسرع بكثير من المعتاد. وكان ذلك يرضيه جدا. وهي أدمنت الحكاية، واعتبرتها تعويضًا بسيطًا له -لا يُغضب الله، غالبًا- عن خيبة الأمل التي ألحقتْها به، خاصة أنه تابعَ حياته دون زواج.
**
الحاج أحمد شرب الشاي، وسبَّ كل حريم الدنيا، وخرج، صافقًا الباب بزهق. وعايدة اضطجعت على السرير تقول لنفسها إنه صار يتعصَّب لأتفه سبب بعد زواج البنتين وخُلوّ البيت عليهما: “شويّة على القهوة، ويرجع رايق”. فتحت صفحتها على الفيسبوك، واستغرقتْها المتابعة. انتبهت عند صورة معيَّنة، تحت عنوان (فضيحة: خناقة بالأيدي والأقدام بين استشاري النفسية وكبير الأخصائيين الاجتماعيين، في مستشفى حكومي للصحة النفسية). ماتت عايدة على نفسها من الضحك، وقرَّرتْ أن: “الرجّالة كلهم بيخيبوا على كَبَر”. كانت شاهدت، في الصورة، الدكتور عبد الحليم يعتمد بيديه على المكتب ليقوم على رِجل ونصف، والأستاذ فرج يتطلّع إلى الكاميرا، في اللحظة التي التهبَ فيها جانب وجهه الأيسر من الخجل، لما توهّم أن الحاجة عايدة تراه، من وراء المرضى.