وتتميز هذه التجربة بنيّتها المضمرة للاختلاف مع نظام معرفى كامل، وبنيّتها للتمرد على الوضع الثقافى العام، والاختلاف والتمرد يتمّان بهدوء، وعلى مهل، وبثقة شديدة سرُّها أن الشاعر يحب الحياة بحق، يحبها حباً جما، كما تتميز التجربة بقدرتها على توصيل رسالتها ببساطة وقوة إلى متلقيها، بكل ما تحويه هذه الرسالة من إحساس بتجربة الفقد ، تجربة: كيف صارت نظرة الشاعر للحياة، وللموت، وللكتابة، بعد فقد أقرب الناس له، وبكل ما تحويه هذه الرسالة من إحساس بالقلق، ومن أسئلة، ومن تركيز على الحياة السرية، لكى يكشف الشاعر أكثر الخفايا عمقاً وظلاماً، ويطرح ملاحظـات تحتفى بالذات بالمعنى الشخصانىّ الغنىّ، وتحتفى بعلاقة الابن بأمه، وبالبيت كقيمة مكانية شهدت ولادة واستمرار هذه العلاقة التى سيفتقدها الشاعر فيما بعد، فيمتلئ بالإحساس بالوحدة والدوران داخل مجال من الأسئلة الوجودية عن الموت، وعن معنى العلاقات الآدمية والعائلية، ولعل نجاح الشاعر فى تطوير أدواته الشعرية ولغته، ولعل الدراما الشعرية العالية التى تتميز بها هذه التجربة والقدرة على الحكى، والالتقاط البصرى، كانت محاولة ناجحة من الشاعر للاستفادة بشكل كبير من قضية تداخل الأنواع، وكانت النتيجة نجاح هذه الشحنة الشعرية المكثفة، ولكننا نلاحظ بقوة أن السرد هنا بكل طاقته الحكائية لم يخرج بالنص عن الحس الشعرى النقى، بل يمكننا أن نقول إن الشاعر أدخل معنى السرد الحكائى فى نطاق السرد الشعرى الذى يتميز بخصوصيته النوعية، ويظل علاء فى حالة انتقال بندولية داخل منطق السرد بين تجربتى المكان والزمان، بكل ما فيهما من إمكانيات الانضغاط والتمدد والتغير والاستمرار، بما يمكن أن ينفتح على كثير من التساؤلات القلقة حول الأزمات العنيفة التى مرت بها الحياة البشرية، ومنها أزمة الموت، أو لو مددنا الخيط على استقامته ستكون أزمات الفقد كلها، وقد نجحت كتابة “علاء”، ونجحت الكتابات الجديدة نجاحـاً يؤكد وجوب التأصيل النظرى، وطرح وجهات النظر النقدية الجديدة التى ترتبط بهذه الكتابات، لكى تواصل التأسيس والتطور والفاعلية.
وفى تداخل الأنواع أيضاً، نتابع تفاعل التجربة مع الحس الفلسفى العام، فالديوان لا يعبر فقط عن مجرد رثاء، ولكن المسألة تعبر فى الوقت نفسه عن حالة اليتم والافتقاد، وعن إحساس ضمنى بشقاء العالم، وإحساس ضمنى بعدم الرضى عن شروره، وإحباطاته، وعن دهشة فلسفية بإزاء الوجود، من خلال لغة شعرية جديدة لها نكهتها الخاصة، ونزوعها للتحرر من الخطاب الأيديولوجى، والخطاب الجمالى الاستعارى اللذين كانا مهيمنين على الكتابة فى العقود السابقة، فيطرح الشاعر على سبيل المثال إحساسه بهذا اليتم من خلال حسيّـة شعرية كثيفة، ومباشرة، وطازجة وقادرة على التأثير القوىّ، من خلال لغة حرة، تخلصت تماماً من القوالب الجاهزة المسبقة، وتخلصت من الفكرة التى سادت حول أن اللغة وتجلياتها قادرة على التغيير، أو أنها يمكن أن تكون بديلا عن الحياة:
مقدار غيابك،
الذى خلَّف فى حلقى مذاقات
لم أكن أعرفها من قبل،
مذاقات اليتم (ص40)
تعبر الكتابة الجديدة عن الثقافة التى تشكلت فى عالمنا الجديد، بطبيعتها الشخصانيّة، والحسيّة، ومن أبرز ملامح الكتابة الجديدة هذا التحرر من المؤسسة الثقافية، وعدم الارتباط بآليات النشر لديها، أو الخضوع لمعاييرها السلطوية, وما تورّثه من قيم الاغتراب والفقد، وما يتطلبه هذا الخضوع من تنازلات تمس فى أغلب الأحيان القناعات الشعرية الحقيقية الصادقة, أصبح الشاعر اليوم يمتلك صوته الخاص الذي اكتسبه من داخل تجربته الفعلية، وخبرته الحياتية اليومية مما لا يمكن أن تصل إليه يد الرقابة، والرقابة المقصودة هنا هى هذا الميل التقليدى لتسييد السائد، من خلال الممارسة القمعية.
ولعل الإحساس بالفقد بمعناه الفلسفى هو الذى يشكل مفتاحاً حقيقياً لإبداع هذا النص، فالفقد قادر على تفجير منابع البوح عن المعاناة الإنسانية، وهو محرك أساسى لهذه الصور التى تأسرنا ، ولعل فكرة الأمل نفسها تفجر إحساساً بخوف من فقدٍ ما، و الفقد حالة شعورية إنسـانية عامة، لا تخلق الإبداع فقط، بل تحدد أشكال التلقى، ويكون الإنسان دائماً فى حالة استشعار دائمة لخوف من الفقد لما يريده وما يحبه وما يرغب فيه، حتى وإن لم يقع هذا الفقد بعد، وهناك دائماً إحساس بغربة فطرية وبفقد لشيء عزيز قد لا يُدرَك كنهه، فتستمر حالة الحزن والاكتئاب والإحساس الكثيف بالفقد واحتمال النهاية وعدم اللقاء.
تطرح التجربة كل هذه القيم الأخلاقية والجمالية والفلسفية، داخل هذه الحيوية الشعرية القادرة على التأثير، ونحس إلى أى حد يمكن أن يمتلك الشاعر كل هذا الجمال والحنان، وكل هذا الحب والرقة والوداعة فى زمن الرعب والتنافس الحيوانى الوحشى والقهر والاستغلال، زمن الاغتراب والفقد والضياع.
هو نص ضد القهر، ولكن القهر هنا ليس بمعناه الاجتماعى أو السياسى فقط، بقدر ما هو قهر للمصائر الإنسانية، وكذلك قهر الوجود عندما يسير الإنسان فى الطريق التى أجبر أن يسير فيها، منتقلاً من الصبا إلى الكهولة أوالشيخوخة، ولكن هناك دائماً أيضاً مسحة من بقايا قهر اجتماعى ، كامنة فى أعماقنا باستمرار، يخاطب الشاعر أمه:
كل متعةٍ كنتِ تخلقين لها رقيباً (ص48)
وعندما يرثى الشاعر أمه التى ماتت، وعندما يفتقد هذا الرمز المحمل بالأنوثة والحنـان، فهو يرثى الإنسانية كلها فى الوقت نفسه، الإنسانية التى تفتقد إنسانيتها فى كل يوم، أو تعيش مزيداً من الموت فى كل يوم، ونحس أحياناً أن الأم فى هذه القصيدة هى التى على قيد الحياة، وأن الشاعر هو الميت، والآدميون فى شعره دائماً أشباه أموات، والشاعر فى حالة عذاب دائم بسبب إحساس داخلى بالغياب، وهو يرثى نفسه لأنه هو أيضاً فى طريقه إلى الموت، ويكاد يرثى الحقيقة الوجودية كلها، لأنها فى طريقها إلى الموت .
كل ما نراه منذ أول لحظة نستيقظ فيها من نومنا، حتى آخر لحظة نسقط بعدها فى النوم، هو زائل وفى طريقه البطىء إلى الموت والانتهاء، ونقول البطىء متغاضين عن المعنى النسبى الذى يمكن أن يجعل حياة المرء كلها لا تساوى شيئاً إلى جوار الأزمنة الضوئية الهائلة التى يسير بها الكون الشيخ نفسه نحو مصيره النهائى، كل شىء يموت، ويستبدل به شىء يولد، استبدالات داخل متواليات معقدة لا نهاية لها.
كل شىء ينتهى ويذوب، ومعنى الهوية الإنسانية نفسه يذوب ويتغير، ومن هنا تكثر ـ فى الفترة الأخيرة ـ الأسئلة حول معانى الهوية القومية ، ويكثر الخوف على الهوية المحلية، وتظهر شكوى تأثيرات العولمة عليها من خلال الفعل التفكيكى الذي تمارسه على كل الخصائص المميزة، مما يدفع الثقافات المحلية أحياناً إلى البحث عن الصِّيغ الكفيلة بحفظ البقاء، وقد تصل المسألة إلى حد ظهور رؤى الانغلاق على الذات بدعوى التميُّز والصفاء والقدسية، وتشكل العودة إلى الماضى بحثا عن ملجأ افتراضى، كإحدى الوسائل المثالية للتشبث بالجذور، وحب الشاعر لأمه بهذه الصورة، هو نوع من التشبث بالجذور بصورة أو بأخرى، ولكنه ليس تشبثا مثالياً بقدر ما هو نوع من رفض الفقد والاغتراب، وحلم بمستقبل واقعى يعانق الحياة، وعلى الرغم من واقعية الحدث، وإنسانية القضية التى يطرحهـا الشاعر الرقيق، فأن المسألة تظل دالة على رغبة الشاعر فى أن يظل يولد من جديد، وأن يستعيد ولادته من الرحم نفسه، ومن المنبع ذاته، يقول بعد موت أمه:
كلما عبرت من أمام غرفتك،
أنتظر مفاجأة
أن يخرج اسمى من جوف ظلامها،
كما ولدت تماماً (ص31)
الشاعر يحب أمه، ويرتبط بها ارتباطاً وثيقاً ، وكتابة الشاعر عن أمه توحى أيضاً بحبه لطفولته، والشاعر يميل فى معظم تجاربه لطرح تجارب طفولته من داخل منطق السرد الشعرى الخاص، وديوانه الأول “الجسد عالق بمشيئة حبر” الصادر فى عام 1990، كان عبارة عن قصيدة طويلة كشف فيها الشاعر عن الكثير من تجارب طفولته، وكلنا نتمسك بدرجة أو بأخرى بالطفل الكامن فى داخلنا، لا نريد أن نفقده، لأن فقده هو فقد لبوصلة الأمان فى العالم، وكلنا نبذل جهداً لتذكر اللحظات التى وعينا فيها بالعالم الصغير المحيط بنا، ونحن مازلنا أطفالاً، وكلنا نحنُّ إلى تلك اللحظات، ونتذكر كيف بدأ كل واحد فينا فى تفقد العالم المحيط به، أو العوالم القريبة أو اللصيقة به مثل عالم الأم ، وكنا كما لو كنا لا نريد أن نكبر، ولكننا نكتشف بالتدريج أن هناك عالماً كبيراً لا يمكن تجاهله، وكلما زاد الإحساس بكبر هذا العالم كانت تزداد رغبتنا فى حماية عوالمنا الصغيرة، ورغبتنا فى تكديسها بالأشياء، كما قال الشاعر نفسه فى أحد الحوارات معه.
ونحس فى هذه التجربة الشعرية أن تفاصيل علاقة الشاعر بأمه لا تنتهى، وهى حية أبداً، ويظل الشاعر يتذكر التفاصيل، وتفاصيل التفاصيل، ويظل يسرد هذه المعطيات الصغيرة التى يتشبث بها ولا يريد أن يفقدها: شكل الجسد، ورائحته، شكل اليد المسنّة، والخاتم الرقيق ، شكل الابتسامة، والأقسى شكل الابتسامة المستسلمة فى النهاية، والوجه قبل خلع طقم الأسنان، وبعده، والقدم الثالثة المعدنية، ونظـارة القراءة ، والسرير، والوسادة ، وراديو الصباح، وكرسى الصلاة، وسجادة الصلاة، والدعوات والصلوات والبركات، ومواعيد أخذ الدواء، وملابس الصيف، وملابس الشتاء، وآثار الشيكولاته على الفم، وحركة اليد المودّعة، والأشياء التى لا تنتهى، واللغة المحملة بكم هائل من الأمومة النقية الخالصة, الأمومة القادرة أن تعطى فى بضع كلمات كل هذا الزاد من الحنان الذى يدفعنا للحياة، ويجعلنا نحب الحياة، ونستند إلى ركيزة قوية، ولدى الشاعر قدرة هائلة على التقاط هذه التفاصيل الدقيقة، ولكن التقاط التفاصيل بهذه الدقة يُخفى من ورائه رغبة فلسفية للسفر من المحدود إلى اللامحدود واللانهائى، والشاعر عندما يهتم بالتفاصيل بهذه الصورة يدرك ـ كما يقول ـ القيمة التى تحتفظ بها تلك الأشياء، ويدرك الحميمية التى تجعل هذة الأشياء تعطى قيمة للحياة، فهذه الأشياء الصغيرة تمكننا من تأمل أجزاء الحياة، فنعرفها بدقة أكثر، ونتخلص من النظرة الكلية التعميمية إلى العالم المحيط بنا. وبالطبع لا يمكن أن نحب كل التفاصيل بالدرجة نفسها، بل إن لاوعينا يقوم بالاختيار، إنه يختار بمنطق معين، هو منطق الأولوية للمعنى الذى يمكن أن يستمر، وأن يفيد الحياة بشكل أساسى.
ولا شك أنه سيكون مأساوياً أن يتذكر الشاعر لحظات العجز التى تصيبنا على الرغم منّا، فالإنسان يحاول أن يتمسك بحيويته الأبدية، أو التى يتصورها أبدية، ويتصور أنها لا يمكن أن يصيبها العجز، يتمسك بها ولا يريد أن يفقدها، وهو دائماً يسعى للتحقق، وللاستمرار حتى فى أقصى لحظات الضعف والمحنة، لأن من أهم صفات الإنسان إحساسه الداخلى بديمومته التى يتصور أن الزمن نفسه لن يقدر عليها:
مع كل أزمة صحية
كنت تطمئنيننى بأنها ليست النهاية
هكذا أسرَّ لك حلم قديم
وأن هناك مسافة محصنة مع الموت( ص9)
والشاعر العربى القديم عندما كان يتفقد الطلل، كان يعبر عن إحساسه القوى بالفقد، وتصبح الأطلال خلفية ثقافية فى بناء النص الشعرى مستمرة حتى اليوم، حتى وإن لم تحضر بصيغة لغوية مباشرة، وإذا كان الطلل دال على فقدان، وموت، فإنه سيظل متواصلاً فى نصوصنا، ويصبح الحزن والفقد والانكسار والبحث عن الشىء المفقود، قوام كل كتابة فى كل عصر، والتاريخ كله محتقن بالفقد، التاريخ كله يواجه فداحة الفقدان ، والذكريات تفتح ذراعيها داخل حدود التجربة المسرودة، وتستأنف رثاءها الأليم لذاتها معبرة عن فداحة الغياب والخسران، إذ تحتشد الدوال السرديّة بعلامات مركزة تضاعف صورة الغربة والفقد، لتشحن الفضاء الشعرى بمعانى الغياب، والشتات، والضياع، والذوبان، والظلام، والعجز، والضعف، والانكسار، والهشاشة والوحدة، والابتعاد، وتحول النص كله إلى طقس يشبه الطقس الجنائزىّ.
هاجس الخلود هو أقوى هاجس إنسانى عرفه البشر منذ بداية الوجود الآدمى، وهو الهاجس الذى يصطدم دائماً بالضعف والعجز كواقع فعلى، وعندما تنظر المرأة إلى تجاعيد يدها تنظر إليها كما لو كانت مظهراً عارضاً لا معنى له، لأن الأصل هو البؤرة الحية داخل الإنسان، البؤرة الخالدة التى لا يستطيع الموت نفسه أن يوقف إصرارها:
بروح شابة
تنظرين إلى يدك المسنة بدهشة
كأنها ليست لك
وأن هذه التجاعيد
تخص امرأة أخرى ـ (ص7)
وسيكون مأساوياً أن يرصد الشاعر اللحظة التى يسلم فيها الإنسان بالأمر الواقع، فيفقد أعز ما يملك، حتى لو كان ذلك الرصد ساخراً، كما ورد فى أماكن كثيرة فى كتابة الشاعر، ولكن كل شيء يحدث بهدوء وبدون مفاجآت، مآس أو أحداث كبرى تحدث بهدوء، الواقع يسلم بانتهاء مرحلة أساسية فى حياتنا الاجتماعية، والشاعر يسلم بوفاة أمه، والأم نفسها تسلم بانتهاء عمرها، مما سنعرفه من هذا التشبيه شديد الإيحاء، فالأم تنزع خاتمها قبل دخولها لغرفة العمليات مثل الموظف الذى يسلم عهدته، والخاتم هنا سيتحول بالضرورة إلى خاتم رمزى، عندما يذكرنا بالموظف فى لحظة تسليمه العهدة، وسوف يكون مؤثراً فينا جداً أن نتابع امرأةً أماً طيبة بريئة رقيقة، تسلم عهدتها لتنهى مهام عمرها، أما ابتسامتها فهى حدث وجدانى شديد التأثير، لأن هذه الابتسامة تتضمن معان متعددة، منها أنها تريد أن تطمئن ابنها، إشفاقاً عليه، وأنها تسخر بصورة أو بأخرى، أو أنها تمتلك شجاعة ما، لعلها شجاعة الفقدان، أو لعلها ابتسامة الوصول لحكمة بعيدة المعنى، لا يصل إليها إلا من اقترب من الموت، وهكذا تظل ابتسامتها مثل ابتسامة الموناليزا متعددة الدلالات والمعانى التى قد يتضارب بعضها مع البعض الآخر:
قبل العملية بقليل
نزعتِ خاتمك وابتسمتِ
كموظف يستريح
بعد أن يسلم آخر عهدة له ( ص7)
ويتضمن النص هذه المعالجة للجانب الطبى الذى أصبح جزءاً أساسيـاً فى حياتنا اليوم ، بعد أن صار الجسد الإنسانى جزءاً من دولاب الحياة الدوّار الملىء بالمشكلات والأعطاب والأعطال، فى خلال حركته العنيفة الدوارة ، والإنسان المعاصر أصبح يكره الطب بشكل عام، لأنه تحول من طب إنسانى رحيم فقدته البشرية، إلى طب تجارى استهلاكى، يتعامل مع أعضاء الإنسان بالقطعة (!!)، والمعالجة الطبية سيكون لها وقع شديد الخصوصية فى هذا الديوان، لأن كل المعطيات الطبية كانت تعنى الموت، والموت المحتوم هو أحد المعانى المريرة التى يسعى هذا الكتاب لطرحه ومناقشته، وفى كثير من السطور نحس كما لو كان الشاعر يتأمل الموت، أو يحاول التعرف على معناه، على الرغم من أننا قد نتأمل الموت فى بعض مواضع فى الكتاب فنحس به كما لو كان صديقاً!!
وبعد الموت مباشرة يتحرك الركب من المستشفى إلى المدافن مباشرة، وتظل كل المعطيات الطبية أو الإجراءات الطبية تؤدى إلى الموت بصورة مؤلمة، حتى لو أحاطت الملائكة بالمشهد:
كنا نقترب من الموت
بسرعة فائقة
لم يعد يسبقنا فى الصف
إلا الملائكة (ص10)
وتظل المعطيات الطبية تتوالى: المستشفى، العملية، غرفة العناية المركزة، الأحذية القماشية الطبية، غرف المستشفى، الشاشة البيضاء، الملاءة البيضاء، الأنابيب، .. إلخ، وكلها أشبه بالنواقيس المتتالية التى تعلن الاقتراب من الموت درجة درجة.
وتطرح الكتابة هذا البعد النوستالجى الحميم الذى يميز الكتابة الجديدة كلها، يعدّ النوستالجيا من أهم ملامح الحس الذاتى الشخصانى، ويهتم “علاء خالد” فى كثير من المقاطع بالتحول من الحدث إلى التذكر، وهناك مقاطع تتفاعل بفداحة سردية محزنة مع ذكريات الماضى فى حضن هذه الأم العادية والبسيطة جداً لدرجة مدهشة، أم تفيض بالحنان والرقة والعطـاء، وقد أعطت ابنها بالفعل زاداً مكنه من الاستمرار فى الحياة، ومكنه من خلق هذا النص المؤثر العارم الذى يفيض بالأحاسيس البكر شديدة الثراء، وهى الأحاسيس التى تمثل فى مجموعها كنـزاً لكل متلق يتعامل مع هذا الديوان.
وفى أحد المقاطع نتعرف على حالة النوستالجيا التى تعيشها الأم نفسها، من خلال تذكر أصدقاء طفولتها ، وحنينها العارم لهم:
فى سنواتك الأخيرة،
كل أصدقاء الطفولة كانوا يقتسمون معك الليل
تخبئينهم بإتقان فى أرجاء الغرفة
وتحت الوسادة (ص48)
ويتم تفصيل المعنى عندما تمعن الأم فى التوجه إلى ذكرياتها، بل تتخيل أشخاصاً من متاضيها فتجسدهم، ولا تكتفى بالهمس لهم، بل هى تحدثهم بصوت عال:
شطر كبير من حياتك
استهلكتِهِ فى الحديث إلى صديق غائب
ترفعين إليه دموعاً موثقة
وأذرعاً مخذولة.
فى السنوات الأخيرة
كنت تتحدثين بصوت عال
أسمعه من غرفتى
فأتخيل أن هناك من يقتسم معك الغرفة (ص61)
ويعود الشاعر إلى لحظات بعيدة فى علاقته بأمه، ولكنه لا يكتفى بتذكر الماضى بل يجعل الماضى يشتغلُ من جديد، مثل شريط السينما القابل للتشغيل فى أى وقت، وكأن الشاعر يدخل لنصه نوعاً أدبياً جديداً هو أدب السيناريو، فيجعل الأفعال فى هذا المقطع فى الزمن المضارع، برغم أنه ينقل الحدث من الماضى، حتى يجعل الأحداث الماضية تعمل من جديد، وتبدو أمامنا على الشاشة، كما لو كانت تحدث الآن، وكأن أمه تقف له فى هذه اللحظة فى النافذة تلوح بكفها لليمين ولليسار:
عند سفرى
تقفين وراء نافذة الحديد المشغول لبيتنا
وأنا أسير فى الحديقة
وظهرى يودّعك
وأصابع يدك فى أقصى انفراج لها،
من اليمين إلى اليسار
فى حركة بندولية (ص57)
ولكن هذه النوستالجيا لا تعنى الغرق الكامل فى الماضى، الغرق المنداح اللامسئول ، ولكن هناك وعى خاص بالماضى، وعى مستفيد من خبرة الحاضر، ومن الثقافة الناضجة التى تجعل الإنسان قادراً على غربلة الماضى وتقييمه، بل وقيادته على الرغم من الأحداث الثابتة التى لا تتغير.
ينظر الشاعر لكل ما حوله من أشياء، ومن أشخاص كما لو كانت جميعاً مشاريع فقْدٍ متحركة، يحس بأن الابتسامة التى يراها فى وجه أمه لن يراها ثانية، كل كائن وكل شيء قابل للرحيل والفقد، بحيث يختلط الوجود بالفراغ فى نزعة متشائمة متكررة فى النص، ويقدم الشاعر هذا المعنى الفلسفى العميق للفقد وصدع الهوية، والذى يتحول إلى مجاز للخسارة والعزل فى طريق اللاعودة، ويصاحب المسألة إحساس باللّوعة، مما يشحذ رؤيتنا ويجعلها حادة مسنونة، وتتحوّل الذات الساردة إلى ذات منتحبة توثق للفراق، وتطرح أسئلة الوحدة، حيث الأنفـاس تضيق، والبال مشغول، ومزدحم بالفقدان.
وبعد أحداث الموت والدفن أى فقد جثة الأم بشكل نهائى، ستطرح القصيدة الأحداث المرتبطة بالحجرة التى حدثت فيها الوفاة، ثم الطريق إلى المدافن، ثم تغرق التجربة بعد ذلك فى تذكر العلاقات القديمة مع الأم، وعلاقات البيت والحياة الأولى وأحداثها، وعندما يورد الشاعر هذه المعطيات بعد الموت فهذا كاف لبعث كل هذه العاطفة الأليمة العارمة، وهى عاطفة موجهة للذهن، ودافعة للتفكير فى قضية الوجود، وقضية الحياة والموت، والعلاقة بين المادى والمعنوى، والقضايا الميتافيزيقية والحسية، وقضية تطور تاريخ البشرية، وتطور العلاقات الإنسانية، ومعنى التكوين العائلى، ومظاهره، وامتداداته الرمزية، ودوره فى بناء الإنسان وفى كافة الأبنية الأخرى متجسدة، وتصورية.
ويعود الشاعر للعبة طفولية كان يلعبها مع أمه، وتركيب عقل المرأة الطبيعى دائماً يحوى فيما يحوى جزءاً طفولياً، يمكّنها من أن تتفاعل مع أطفالها تفاعلاً تاماً، والمرأة فقط هى التى يمكن أن نلاحظها فى الحياة العامة وهى تتحدث مع طفلها بشكل جاد جداً كما لو كانا زميلين فى مرحلة عمرية واحدة، والمرأة بالتالى ـ دون الرجل ـ هى الأقدر على ملاعبة طفلها والغرق معه فى ألعاب لا نهاية لها، وهى ألعاب تعليمية فى النهاية تعرفه أشياء كثيرة مادية ومعنوية لم يكن يعرفها، وهى ألعاب تستمر معه بقية العمر كذكرى حية تتجدد، وكإلهام يدفعه للاستمرار، ولحب الوجود والبشر، وللعمل على الإضافة للحياة وإعادة إبداعها من جديد فى كل حين، وتظل لعبة الأم مع ابنها، معنى فانتازياً شديد الروعة يمكن أن يهذب مشاعرنا، ويمنحنا أحاسيس مبهجة، وعطاء عميقاً متعدداً:
وأنا صغير،
كنت أقف ممسكاً بأحد أطراف الملاءة
وأنتِ على الجانب الآخر
أشدها فترخين
ثم تشدين فأرخى
كشعرة تفاهم
كحبل المشيمة بعد أن يتحول لعادات منزلية
وفى لحظة نفردها
كشراع
ونحوطها من زواياها الأربع.
هواء الذكرى الأخف وزناً من هواء ماضينا
كأننا على وشك الطيران (ص21)
وعمليات الشد والرخى التى أوردها هذا المقطع، هى علاوة على واقعيتها وحسيتهـا، تعطينا المعنى الرمزى للحوار الآدمى، والحوار العائلى، وحوار الابن وأمه، ثم تصبح الملاءة التى يتبادلان بها الشد والرخى، تصبح استمراراً لمعنى التواصل الذى جسدته المشيمة من قبل، وهنا يؤكد الشاعر قيمة التواصل بجذوره، وأهميتها الشديدة، والتوجه الفكرى الجديد بعامة، لا يسعى ناحية الغرق فى الماضى، وفى الجذور، كما أنه لا يريد أن يجتث الماضى والجذور أو يشعر بفقدهما، بل هو يجمع بين كل العناصر المتباينة لكى يصنع نكهة الحياة الجديدة التى تطمع فى كل شئ، وتحلم أن تحقق كل شئ، وأن تمتلك كل شىء، وأن تستفيد من كل شئ، حتى المعطيات المتباينة أوالمتناقضة فى الوقت نفسه لأن الحياة الفعلية هى جماع كل التفاصيل معاً، وعندما يتذكر الشاعر بيته، يتذكر مكاناً يحتضن الماضى والمستقبل معاً:
شطر كبير من ليل بيتنا
كان مخصصاً لبكائك،
صلاة واستغفار ودعاء،
أى غرفة أخرى فى البيت،
كانت جدرانها تهتز
وصوت قرآنك ينقر عليها ببطء
وأنا فى جوف الظلام
أبنى جدراناً جديدة للمستقبل (ص31)
والمقطع التالى سيطرح لنا صورة من العناد الإنسانى الأصيل، فالإنسان يظل يتشبث بأفكاره، وبأشيائه، وبعلاقاته، وبالناس القريبين منه، لا يريد أن يفقد شيئاً منها، مهما قهره الزمن، ومهما تغيرت الأحوال، وعنوان الديوان نفسه، يجعل الأم كما لو كانت لا تزال تعيش، وأنها دخلت لمجرد النوم حتى الصباح، كما أن الأم تكاد تكون حية بعد مرور عام على موتها، فأنفاسها تتردد فى البيت، ولا يزال البيت معبأ بهذا الرصيد الغنى من الحركات، والإيماءات، والحوارات الحية:
مرَّ عام،
وما زلت أقف على بابِ غرفتكِ ليلاً كعاشق قديم
أسترق السمْعَ
لأنفاس متعثرة.
أغنيتى صامتة،
حتى لا تستيقظى
وتضبطينى متلبساً بالحب.
مازال فى البيت رصيد لم ينفد
من الإيماءات والصور،
كافياً لكى يصل بين ضفتين (ص39)
يحس الشاعر بعد فقد الأم باليتم الحقيقى، فقد ضاع منه آخر سند ومعين، وافتقد مظلة الراحة والأمان التى عاش فى كنفها طوال حياته، وأصبحت قضيته كيف يتقبل الواقع الماثل، ويقبل بما حدث، والألم الناتج عن الفقد يعود ليدخل بنا فيما يشبه السخرية، والاعتراض النسبى، أو التفلسف ، وحيث الفراغ يدهم منازل الروح والقلب، ونظل نتابع الكيفيات الملازمه للفقد والانفصال عن الجذور، بعد أن أصبح الشاعر يقف بمفرده قبالة الشاطئ فاردا ذراعيه للرياح والأمواج والقراصنة.
لقد سعى الشاعر بكل طاقته الذهنية والعاطفية إلى أن يؤرخ لحدث الافتقاد شعرياً، لأن حجم افتقاد الأم يساوى حجم افتقاده لمركز كبير وأساسى من مراكز الحياة، ففتح المجال السردى بكل ما يمكن أن يعطيه طارحاً كل هذه الحيوية والاستمرار وكل هذه الطاقة فى الالتقاط والحكى.
وفى مقطعين صغيرين فى آخر الديوان يطرح الشاعر هذه الفداحة الحسية التى هى إحدى وسائل الإنسان اليوم، لمعرفة الوجود من حوله، ولامتلاك هذا الوجود، ولتجاوز معنى فقده، وحيث يتذكر الشاعر كيف كان طعم “الأيس كريم” يهزم الحزن، ويهزم الصمت فى البيت من خلال انتشار أصوات الملاعق والأطباق، ويهزم الملل والضجر من خلال إشاعة جو السعادة، ويهزم الظلام أو الخفوت الضوئى، فيصبح “الأيس كريم” بذلك بطلاً لإحدى الأمسيات السعيدة فى البيت:
مهما كان حزنك عالياً
كان يجثو أمام طبق الأيس كريم
أطعمة قليلة لم يكن يؤثر فيها الحزن
ليالٍ كثيرة
كان “الأيس كريم” يصنع حولنا
مجالاً هادئاً من السعادة
من أصوات الملاعق والأطباق
والقيام والقعود
وترقرق اللعاب
ثم تسللت فى الليل
حيث تقع الثلاجة فى أبعد نقطة فى البيت
وأمام الإضاءة الخافتة
كجزء من مسرح تزاح ستائره
كنت تؤدين دورك بتعجل
كمن يخاف الصالة الخالية خلف ظهره
كمن يجرى وراء متعة زائلة ـ (ص43)
وفى المقطعين التاليين، تستمر حسية الطعام، ونتعرف على أطعمة أخرى، كان لها بطولة معايشة الأم طوال حياتها منذ طفولتها، وكأن هذه الطعوم هى رفيقة الحياة على امتدادها: البلح الأسود، التين، الجوافة، البطاطا، الفول السودانى، الشيكولاته، وكلها طعوم الأمهات المصريات بشكل عام، فهذه الأطعمة هى التى تتمكّن أسر الطبقة المتوسطة الصغيرة، وأسر الطبقات الفقيرة من الحصول عليها، بصفتها من المتع الحياتية التى لازمت وجودها:
البلح الأسود، التين ، الجوافة،
حبات البطاطا المشوية،
فواكه الطفولة
التى كبرت معك. الطائفة المستثناة من قائمة
الممنوعات لأى طبيب.
وهناك أيضاً، كيس الفول السودانى الساخن،
الذى كان يتركه والدك
بجوار السرير وأنت نائمة.
أحياناً كنت أضبطك ليلاً،
وآثار الشيكولاتة على فمك.
تضحكين من الخجل،
وتمسحين بقوة آثار الجريمة،
كأنك تطمسين الذاكرة
لهذا الفم المذنب (ص47)
وينهى الشاعر كتابه بهذه المعادلة التى يتحول بها الإنسان إلى أيقونة صوتية، أو إلى حكاية، بل تتحول بها الأزمنة والحضارات والتفاعلات الكبرى فى التاريخ البشرى إلى حكايات، وهذا هو المصير الآدمى منذ البداية، أما: إلى متى يمكن أن تستمر كل حكاية، فهذا يتوقف على مقدار الفاعلية، ومقدار الاحتكاكات التى حدثت ومساحة العلاقـات التى تمت، والتأثيرات التى أنجزت، ولكن يظل الحكى مادة الحياة الثرية، بعده إحدى العلامات على الوجود:
لم يبق من حياتك إلا الحكاية
أجول بها،
بدون رغبة إلا فى الحكى،
فى قول الحقيقة.
أصعد عتبات بيوت لغرباء
أجتازها بدون سؤال،
بشفرة سرية
معتزاً بكونى أمتلك حكاية حزينة
عن أم فقدتها وأنا فى الخامسة والأربعين (ص75)
والمقاطع الأخيرة فى الكتاب، علاوة على مواضع أخرى، تذكرنا بالمعنى ما بعد الحداثى للموت فى المجتمعات الحديثة، عندما يبدأ الموت فى فقد ألقه وسطوته، إذ لن يعود ـ بالتدريج ـ ذلك التحدى المجهول، أو ذلك السقوط المطلق الذى يحدد نهاية الموجود البشرى الأخيرة، أو ذلك المحرض الأعظم الذى تستمد منه المعتقدات والتقاليد قوتها، فالموت فى مجتمع ما بعد الحداثة سيصبح شيئاً فشيئاً أشبه بحضور موجود وغائب فى الوقت نفسه، إذ إن هذا المجتمع ينكره، عن طريق تأكيده على القدرة المطردة على دفعه أو مواراته وإبعاده، وإبعاد تظاهرات الموت الاجتماعية وإنهاء المآتم وتقليص آثار الموت، يقول علاء خالد فى الأبيات الأخيرة فى ديوانه:
أترك البيت الذى شهد على موقعة حياتك
أبحث عن بيت جديد بلا ذاكرة (ص71)