تشغيل الموروث الثقافي الشعبي وتشكيل المفارقة في نوفيلا “زمن سيدي المراكبي”

ممدوح عبد الستار جواز سفر
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. محمد المسعودي

يتشكل كتاب “جواز سفر” من ثلاثة نصوص: رواية تحمل عنوان “جواز سفر”، ونصين قصيرين أطلق عليهما الكاتب المبدع ممدوح عبد الستار (نوفيلا)، وهما على التوالي يحملان العنوانين التاليين: “أغنية قديمة”، و”زمن سيدي المراكبي”. وكل نص من هذه النصوص يشكل عوالمه الحكائية من أفق مخصوص، غير أن الموروث الثقافي الشعبي يُسهم بدور فعال في تشكيل المفارقة وتوليد السخرية في هذه النصوص السردية، كما أنه يؤدي دورا هاما في بناء المتخيل. ومن هذا الأفق الفني ستنطلق قراءتنا في الكتاب. فما طبيعة الموروث الثقافي الشعبي الذي يوظفه الكاتب لتشكيل المفارقة؟ وكيف تتولد السخرية من خلال الاستناد إلى هذا الموروث الثقافي الشعبي؟ وما الأبعاد الدلالية والرمزية الكامنة في توظيف هذا الموروث؟ وكيف يسهم في بناء متخيل النصوص السردية؟

يتنوع الموروث الثقافي الشعبي الذي يوظفه ممدوح عبد الستار في أعماله الثلاثة التي ضمها كتاب “جواز سفر” ما بين الحكاية الشعبية اليومية، والحكاية الخرافية، والمثل العامي (الشعبي)، والمثل التراثي العربي القديم، والنكتة (الطرفة)، والحكمة، وحكايات البحر، وحكايات مزارات الأولياء والصالحين. وتتواشج هذه العناصر جميعا في تشكيل متخيل النصوص، وتوليد المفارقة والسخرية. بل إن بعض هذه المعطيات التي يستثمرها الكاتب تمنح الحيوية للنص، وتُسهم بدور لا يستهان به في تطوير الحدث، ومن ثم تسعف المتلقي على فهم طبيعة الشخصية وحالاتها الوجدانية والنفسية.

 في النص الثالث: “زمن سيدي المراكبي” تحضر حكايات الجن والعفاريت ومحكيات البركة بمفهومها الصوفي الشعبي لتؤثث العالم السردي، وتصنع أفق المتخيل الفانتاستيكي في هذه النوفيلا. ولعل الموروث الشعبي الموظف في هذه الرواية القصيرة قام بدور فعال في تطور الأحداث وتشكل الدلالات والأبعاد الرمزية للنص، كما سنحاول أن نبين فيما يلي من هذه القراءة.

يقول السارد في مشهد دال تحضر فيه صورة من صور الكرامات الصوفية، وتتمثل حكايات البركة، وهو مشهد موت “مبروكة”:

” ثقلتْ الرأس على الجسد العجوز، ومالتْ تحضن أرض المقام، غارقة في صمتها لأول مرة.

         كان المطر لم ينقطع بعد، والرذاذ الخفيف جداً، والمتواصل قد خرم الحياة، واستباحها. استباح الأسقف المعرشة، وغير المعرشة، وامتلأتْ الأواني الفخارية والطسوت بالماء. كانت الثقوب تبلل الأجساد بأول الموت.

         فتحوا قلوبهم المغلقة، ورحلوا لسيدي المراكبي. ربما يصيب الدعاء المطر، ويتوقف، وتركوا الإنسان الصغير يصنع مراكبه الورقية. والطير والحيوان فريسة للبقاء ولو لمدة محدودة.

         ماتتْ الخالة مبروكة، وكانت كما هي، متشحة بطرحة بيضاء تخفي الرقبة الممتلئة، وجزءاً من الشعر الأبيض المصبوغ بالحناء والمقصوص، يظهر جلياً على وجهها المدور. كانت تتحلى بابتسامة هادئة، وبقرط كبير جداً منقوش برسمة غريبة: طيور جريحة، وغربان، ومخالب نسر، ورأس حيوان مجهول، وثعابين، وأجساد صغيرة تحمي رأسها بالأيدي المنهوشة، وتدفس رأسها بالأرض، وكرمشة سنينها اختفتْ مع موتها.

         قالوا:

         – ماتت عن مائة، أو مائتين.

         وقالوا:

         – تدفن في قبر حياتها بعد صلاة العصر.

         وقالوا:

         – بعد انهمار المطر المتواصل، انقطع الأذان. والمصلون والمؤذنون يحافظون الآن على الجسد، لا على شيء آخر.

         وقالوا، بعد أن وقفوا مع صمت الموت:

         – نغسلها.

         رد البعض:

         – المطر قد تكفل بهذا.” (جواز سفر، 138-139)

         هكذا تنبني هذه الصورة السردية الممتدة على أساس كرامة تشبه الكرامات الصوفية الشعبية، وهكذا نرى مدى تناغم الطبيعة وانسجامها مع الحدث، فكأن المطر يهطل لموت “مبروكة”، ويأبى إلا أن ترحل وقد غسلها، وطهرها، رافضا أن يمس جسدها أي من أهل القرية، وكأن الأقدار تكافؤها على أنها الوحيدة التي تكفلت بالطفل الذي وجدوه في ضريح سيدي المراكبي وهلعوا منه وفروا من أمامه، بينما تبنته هي وأطعمته من ثديها الأعجف. وبهذه الكيفية تشكل الكرامة عنصرا فعالا في بناء المتخيل، وفي بناء البعد الفانتاستيكي في النص. وعن طريق هذا التشكيل العجائبي يدخلنا السارد في طقس سحري، وفي عوالم متخيلة تمت بنسب وطيد إلى الكرامات الصوفية كما دونتها بعض كتبها القديمة، وكانت تقع بين تخوم الحكايات الشعبية والخرافات، ومن ثم تم رفضها في المدونة السردية المكرسة في الثقافة العربية القديمة، وها هو ممدوح عبد الستار يأبى إلا أن يستثمر معطيات هذه الثقافة الشعبية ليبني متخيل نصه البديع “زمن سيدي المراكبي”.

         وتكثر في هذا النص الروائي القصير (نوفيلا) صور كثيرة لاستدعاء الكرامة، غير أننا أردنا الوقوف عند المشهد السابق لأنه يشغل إمكانا آخر من إمكانات الموروث الشعبي، وهو ما ألمحنا إليه قبل قليل من جعل الطبيعة تتماهى مع الإنسان ومع رغباته وأفعاله، وبذلك تتحقق وحدة الوجود ويتداخل فعل الطبيعة بفعل الإنسان في طقس حلولي بين. فكأن العالم تضبطه مثل هذه اللحظات اللامعقولة الغريبة وتسير نواميسه. ونص “زمن سيدي المراكبي” قام على أساس الغرائبية في تشكيل متخيله. وقد استحضر منذ بدايته إلى جانب الكرامات الصوفية حكايات الجن والعفاريت. وهكذا كان الطفل الغريب الذي عثر عليه أهل القرية في ضريح وليهم، بشكله الغريب، وقوته الخارقة، كائنا مغايرا له نسب إلى الجن. ومن ثم نفروا منه وتخلوا عنه، ولم تعتن به سوى العجوز “مبروكة” التي ألقمته ثديها الأعجف فدر لبنا خالصا، ارتوى منه الطفل، وعاش بسببه.

         بهذه الكيفية تصنع هذه الرواية المكثفة عوالمها الحكائية ومتخيلها السردي الفاتن من أفق فانتاستيكي لا يخلو من توليد المفارقة وبناء السخرية، فالمفارقة تتمثل في جبن وخوف كل رجال ونساء البلدة من الكائن الغريب الذي نبت في ليلة من الليالي في حوش ضريح سيدي المراكبي، وشجاعة العجوز “مبروكة” التي لم تخش هذا الطفل واحتضنته وتبنته وكتب له البقاء بفضلها. وقد ضحت المرأة من أجل هذا الطفل الذي اتهمت بسببه بممارسة الزنا، وبأشياء أخرى، لكن الكرامات التي كانت تترى على يدها، وتحف الطفل، كانت تكشف هشاشة نظرة المجتمع إليها وتهافتها. وقد كانت هذه الكرامات تحمل سخرية بينة من جهل أهل القرية وعدم معرفتهم لما يجري من حولهم. كما جسدت مفارقة بينة بين مجتمع القرية من جهة، وبين كرامات “مبروكة” وابنها الغريب نزيل ضريح سيدي المراكبي، من جهة ثانية.

         ومما لا شك فيه أن الكاتب استطاع أن يضفر خيوط هذه الرواية القصيرة بما يجعل منها نصا إبداعيا فتنا لافتا للنظر في السردية العربية إلى جانب النصين السابقين عليه في الكتاب. 

……………

*  ممدوح عبد الستار، جواز سفر، ديير للنشر والتوزيع،  القاهرة، 2019. 

 

مقالات من نفس القسم