عاش سيميك بين مشاهد القصف والدمار، طفل يركض تحت دوي القنابل، وبين ركام البيوت المهدمة والجثث الملقاة في كل مكان، يجمع البارود ويشتري به لعباً وكتب، وذلك أثناء الحرب العالمية الثانية في بلغراد، والتي أودت بحياة آلاف الضحايا من المدنيين. وإن كان سيميك كما قال عن التفاوت في درجات الشر والمأساة، تمكن مع عائلته من النجاة، لكن الحرب طبعت ذكرياته المبكرة، ليبدو كل شيء وقتها في عينيه رمادياً، العالم دائماً في أواخر الخريف، الجنود رماديون، وكذلك الناس.
يكتب سيميك بأسلوب جميل وعفوي وغير متعال، ويأخذ شكل البوح الحميمي، وكأنه يفضفض أو يسترجع شريط حياته أمام صديق، كما أنه بسيط وعميق في آن معاً، ويثير لدى القارئ مشاعر التعاطف والإعجاب على حد سواء، واللافت أن سيميك عرى ذاته أمام القارئ، فكتب دون حواجز عن المعاناة والفشل والإخفاق، عاش حياته يجرب ويكافح ويواصل طريقه دون أن يلتفت إلى ماضٍ مظلم وموحش، كان سيميك يكتب الشعر، يمزق الورق، ثم يعيد الكتابة.
فالأحداث الحزينة والمأساوية التي شكلت الجزء الأكبر من حياة سيميك، والصعوبات التي رافقته في المعيشة والتعلم والاندماج بعد سفره إلى باريس وأمريكا، لم تمنع تشارلز من الاستمتاع بجماليات الحياة والمحافظة على نضارة روحه ومعنوياته العالية، إلى جانب ولعه وحاجته الدائمة للقراءة، إذ أنه وقع بغرام الكتب في العاشرة من عمره، كما كان للسينما نصيبٌ من مغامراته، ليصبح عاشقاً للأفلام، وخصوصاً الأمريكية.
ويبتعد سيميك عن رثاء الذات أو التورط في إثارة مشاعر الشفقة لدى القارئ، بل على العكس فإن رؤيته لواقع حياته المعقدة والخيالية كما يقول، والتي شعر مرات كثيرة فيها بأنه غريب ومنبوذ ولاجئ، تميزت بمسحة من الجمال والإيجابية والشاعرية، ولم يكن لدى سيميك أي ادعاءات أو أوهام بالتفوق، بل كان يدرك أنه لن يتفوق في الحياة بالطرق المعهودة، ولهذا كتب ورسم، وعن هذه الحقيقة يقول: “إن كونك لا أحد أكثر إثارة من كونك شخصاً ما“.
بدأ اهتمام سيميك بالشعر والرسم في سنٍّ مبكرة، بعد استقراره في أمريكا، حيث كان في السابعة عشر من عمره، ورغم أنه لم يكن راضياً عن كتاباته في تلك المرحلة أو حتى بعدها بعدة سنوات، والتي كانت غنية بالقراءة والاطلاع على تيارات شعرية مختلفة، ناهيك عن الآراء السلبية لبعض الأصدقاء والمهتمين بالأدب بقصائده، غير أن سيميك كان مؤمناً بنفسه، وبأن لديه مخيلة ورغبة في التعبير عن أشياء محددة لا يريد نسيانها.
في واحدة من قصائده من نص بعنوان “العودة إلى مكان مضاء بكوب حليب” يقول سيميك: “سيأتي زمني مرة أخرى/ ستقرع أشجاري أجراسها الثقيلة/ نمالي البيضاء، جذوري وجداولي/ ستدرز قشعريرتها في قلب الإنسان/ وترسم أقدم آثاري/ كل من ينظر الآن إلى راحة يده/ سيلاحظ بصمات أزهار غريبة/ حفظتها في صخوري/، كما يقول في “قصيدة بلا عنوان”: أسأل الرصاص/ لم سمحت لنفسك/ بأن تُصبَّ طلقةً؟/ أنسيت الخيميائيين؟ أتخليت عن أملك/ بأن تتحول ذهباً/ لا أحد يجيب/ الرصاص. الطلقةّ/ بمثل هذين الاسمين/ يصير النوم عميقاً وطويلاً.
يقول سيميك عن الشعر: “كل الفنون تأتي من مأزقنا المستحيل، هذا هو المصدر الأزلي لجاذبيتها، كل قصيدة هي فعل يأس، أو إذا أحببت رمية نرد، الجمهور المثالي هو الله، الأمنية السّرية للشعر هي إيقاف الوقت، القصائد هي لقطات الآخرين التي منها نعرف أنفسنا“.
وأخيراً هل أراد سيميك أن يقول للقارئ من خلال العنوان أن المعاناة التي ذاقها وأشد أنواع المآسي في الحياة.. يمكن أن تكون مجرد ذبابة في الحساء؟.. لعله كذلك.
يذكر أن تشارلز سيميك شاعر أمريكي من أصل صربي، من مواليد بلغراد 1938. أصدر أكثر من سبعين كتاباً بين شعر ونثر وترجمة. اختارته مكتبة الكونغرس أميراً للشعراء في أمريكا 2007، كما حصل على العديد من الجوائز، منها بوليتزر 1990، جريفين 2004، وجائزة والاس ستيفنز في 2007، يعمل سيميك أستاذاً للأدب بجامعة نيوهامشر.