تسكع

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عبد الرحمن أقريش

آسفي، 1984، الجنوب الغربي للمدينة.

منذ أيام لم نعد نذهب إلى المدرسة.

بسبب قسوة المعلمين تحولت حصص الصباح إلى عقوبة يومية، تحولت أيام الدراسة إلى جحيم حقيقي، وأصبحت المدرسة فضاء للعنف والقسوة والاغتراب، وبالمقابل أصبحت شوارع المدينة فضاء رحبا للحرية والإباحية والانفلات.

نقضي يومنا في التسكع، ولا نعود إلا في المساء، نجوب المدينة طولا وعرضا، نعيد اكتشافها وكأننا نراها لأول مرة.

منذ مدة فقدت المدينة بهاءها، وأصيب وجهها بندوب وتشوهات مؤلمة، ربما بسبب توالي سنوات الجفاف، ربما بسبب السياسة، ربما بسبب ضباب الكبريت الأزرق الذي يزحف عليها كل مساء، وربما أيضا بسبب لعنة إلهية مجهولة.

لا أحد يدري.

في الطرف القصي من المدينة، يقع حي (النوايل)، حي هامشي وفقير تسكنه طينة خاصة من البشر، فقراء، متسولون، مهمشون، مشبوهون، مياومون وعمال بسطاء ضحايا سنوات الجوع والجفاف، نماذج بشرية غريبة، لا نصادفها عادة إلا في كتب الأدب والسينما السوداء.

يشبه الحي مملكة النمل، له منفذ واحد هو المدخل والمخرج في نفس الوقت، أمام المدخل مباشرة تقع السقاية الوحيدة، أمامها يصطف الأطفال والنساء لساعات ينتظرون دورهم، وأمامهم ينتظم صف طويل وممتد من البراميل والأواني البلاستيكية، مختلفة الأشكال والألوان والأحجام.

طفل وفتاة يتشاجران حول أحقية من يسبق الآخر، يدفع الفتى وسطه إلى الأمام، مهددا في حركة جنسية واضحة.

 – سيري دين امك هذا راه ب…!! (كلمة بذيئة)

تنظر إليه الفتاه بغضب، تتحداه، ترسم شكل حركة المقص بأصابعها الرفيعة، وتجيبه بلهجة حادة وصارمة.

 – وإلا كان ب… دابا نقطعو لدين مو!!

في الشارع الوحيد الذي يمتد بمحاذاة الحي، يتحرك (العوينة)، أحد المعالم البشرية للمدينة، شخص قصير القامة، ضئيل، أعور، يمشي على ساقين معقوفتين، لسنوات كان الرجل مثار استغراب من طرف سكان الحي بلباسه البوهيمي القذر، وكلابه التسعة عشر، وعربته المجرورة، وحماره الأعرج، لم يكن متزوجا، لا عائلة، لا أبناء، ولا أصدقاء، كان وحيدا مثل لغز.

بمعايير الفقراء، وعيوننا نحن الصغار، يبدو الرجل شخصا مهما وغريبا، يسير في موكب تحرسه الكلاب، يجوب المدينة، يتسول ويجمع الهبات، وكانت كلابه مصدر خوف وهلع من الجيران، فهي قوية، شرسة ولا تكف عن النباح.

ثم ذات مساء، وجد الرجل كلابه ميتة داخل (النوالة)، يقال إن موتها كان مؤامرة ومكيدة مبيتة من جيرانه، فهم لا يحبونه، ولا يحبونها، كان الأمر قاسيا عليه، بكى، تألم، اكتئب، بدا الأمر وكأنه فقد فجأة أبنائه، ولسبب ما، قرر أن يحتفظ بها، ربما لسبب نفسي مركب، ربما انتقاما من قسوة الجيران القتلة.

حبس نفسه داخل (النوالة)، يوم، يومان، ثلاثة…

تفسخت جثث الكلاب، وانتشرت راحة الموت والوباء.

حضرت السلطة، مقدم الحي، الشرطة، سيارة الإسعاف ورجال المطافئ، اقتحموا (النوالة)، أخرجوا (العوينة) تحت التهديد، وسحبوا الجثث المتعفنة، ما تبقى من الجثث، أشعلوا النار في الأسمال، ورشوا مسحوق الجير في زوايا المكان، وهناك عثروا على كنز من القطع النقدية مخبأة في صناديق للصباغة.

تقول الحكاية إنها ملايين، امتدت إليها الأيدي المعلومة واقتسمتها فيما بينها.

في لحظات الصفاء، كنا نحن الصغار نسأله عن قصة الكنز، فيجيب.

 –  وأنا مالي؟ فلوسهم وأخذوها… واش أنا كنت كنحرث فيها!!

نتوقف، نتسلق السور الواطي لليسي، سور ممتد طويل وزاخر، تزينه لوحات رسمت بالفحم والمسامير، رسوم لأجساد بشرية في وضعيات مثيرة، لوحات ونصوص بإيحاءات جنسية ورومانسية.

 – امك يا امك…كوفتير!!

 – الحب غرام، وليس حرام!!

 – إلا عطاتك الأيام، دير كتريام!!

نتابع حصة الرياضة، نشاهد الفتيات ببدلات من النيلون اللاصق، بدلات ترسم تفاصيل أجسادهن المكتنزة، تقفز نهودهن إلى الأمام في حركات قوية ومتناغمة، تتحرك معها سواكن طفولتنا المكبوتة.

وطبعا، كان المشهد مؤثثا بتفاصيل أخرى.

(كوكو أب القطط) عامل النظافة، الأب الروحي لقبيلة القطط في المدينة كلها.

الرجل المتسول، العجوز الأعمى الذي يحن لسنوات الاستعمار الفرنسي، يجلس القرفصاء عند مدخل القوس الكبير، على بعد خطوات من المسجد الأعظم، تمسك يسراه إناء معدنيا يجمع فيه القطع النقدية، وبيده اليمنى يمسك عصا معقوفة، قضيب معدني أجوف، يمنى متأهبة دوما للضرب، ندس له أحجارا صغيرة في الإناء، فتصدر رنينا شبيها بصوت القطع النقدية، يكتشف الخدعة بحدسه، فيغضب، وتبدأ سمفونية البذاءة.

 – يا أولاد ال…أنا أعرفكم جميعا، أعرف أمهاتكم، أعرفهن جميعا…لكنني لا أستطيع أن أحصي آبائكم!!

إمعانا في تأجيج غضبه، نصيح جميعا بصوت واحد.

 – لتسقط فرنسا!!

يلوح بعصاه، وتبدأ سمفونية أخرى تعدد مآثر وإنجازات الاستعمار.

 – فرنسا هي لي خلاتكم بنادم ألموسخين…بلاها، كنتو تموتو بالعفن والقمل!!

في الجهة الأخرى من الشارع، يجلس (أبو قبرين)، الرجل الذي انبعث من قبره ليعيش شوطا إضافيا ضدا على الموت، يفترش الأرض، يبيع النعناع وخليطا من النباتات البرية التي يحب المدينيون أريجها في كؤوسهم الصباحية.

تقول الحكاية إنه مات، وأعلن الطبيب موته، دفن وأقيم حفل العزاء، وفي مساء اليوم الموالي راحت ابنته تزوره فاكتشفت أنه ما يزال حيا، ومن يومها، أصر الرجل على ارتداء اللون الأبيض، لون الكفن في إشارة إلى أنه تعلم الدرس، وأنه – بعد الذي حدث – مستعد للموت ولا معنى للخوف.

ثم، نمر أمام الشيخ العجوز (الفقيه الغلامي)، يجلس الرجل على كرسي خشبي صغير، مسندا ظهره إلى حائط منزله المفتوح على الشارع، يرقب المارة بهدوء، وفي عينيه ابتسامة غامضة، كانت أنامل يده اليمنى تسحب حبات المسبحة في تناغم مع حركة شفتيه، في حين تندس يده اليسرى بشكل مشبوه في جيب جلبابه الفضفاض.

يمر أطفال مراهقون، فتيان وفتيات، يمشون في حركات استعراضية مفتعلة، تتمايل أجسادهم من الفرحة والسعادة، ينظر إليهم، يخاطبهم بصوت هادئ ومسموع.

 – ثبت، ثبت، ثبت!!

يلتفت المراهقون، ينظرون إليه بوجوه باسمة ومستكشفة، فيقول.

 – تبت يدا أبي لهب وتب، ما أغنى عنه ماله وما كسب!!

ينظر إليه الأطفال باستغراب، ينفجرون بالضحك، يبتسم هو، وفي وجهه بريق الانتصار والسعادة.

أمام المقهى، وعلى الرصيف يقف شاب ملتح، تفوح منه رائحة الكحول، يجدب، يرقص، يهتز جسده القوي بعنف، تخرج رغوة بيضاء من فمه، يتحلق حوله الرواد والفضوليون، يصبون الماء على جسده المتشنج.

غير بعيد وعلى بعد خطوات، يقف (الرجل البدين)، يتفرسنا بعينين ذئبيتين، يتفرس وجوهنا الصغيرة، يبتسم، ننظر إليه بجرأة، نوشوش لبعضنا، نضحك وننطلق.

نخترق السوق العشوائي، بورصة وتجارة ملونة، ملابس مستعملة، خضر، فواكه، سردين، لحوم معروضة في العراء وذباب أخضر.

تمر دورية الرقابة، يخفي التجار بضائعهم المغشوشة، تفتح المرأة البدينة سروالها البلدي، تدس فيه قطع اللحم النتنة، تبتعد الدورية، تخرجها، تضعها على الطاولة الخشبية، وتذود عنها الذباب.

فتاة، تمشي رفقة شاب، يخترقان السوق، يتجولان، يمسك يدها، يبدوان سعيدين، يبدو الفتى نحيفا، أما هي فكان جسمها ممتلئا، وعجيزتها منتفخة، يثير المنظر فضولنا، تستيقظ قسوتنا المجانية، نقرر فجأة أن نفسد عليهما سعادتهما.

يلتفت إلينا الشاب، نقول بصوت واحد.

 – واشرح لها… عن حالتي …واشرح لها… عن حالتي!!

ثم نوزع الأدوار فيما بيننا.

 – مسكينة…هازة مسؤولية تاريخية كبيرة!!

 – أطلق الدجاجة لماليها…دابا تبيض وتحصل فيها!!

 – سيري معاه… سيري معاه…!!

نخترق الحي المشبوه، نتلصص على الأجساد الواقفة أمام البيوت الواطئة، نساء من كل الأعمار بملابس واهية وأجساد نصف عارية، أجساد أنهكها الاستعمال، والسهر، والروج، ودخان السجائر الرديئة.

نجوب المدينة، نتسكع، نضحك، ندخن بلذة طفولية، نقف أمام الواجهات التجارية، ننظر إلى السلع المعروضة بحياد عاطفي غريب، بدون مشاعر، ننظر إليها وكأن الأمر لا يعنينا، نتفرج، ثم ننصرف، كانت تلك طريقتنا في كبح رغباتنا، والتخفيف من حجم الحرمان.

في المساء وفي وقت متأخر، نعود إلى الحي سعداء، وقد انهدت أجسامنا الصغيرة، ندخل من المنفذ الوحيد، إلى اليسار، وغير بعيد من مسجد الحي، على الجدار خربشة مكتوبة بخط رديء.

 – ممنوع رمي الأزبال هنا وهنا وهنا…دعارة 100 درهم !!

إلى اليمين، خربشة أخرى تقول.

 – ممنوع رمي الأزبال والبول إلى آخره…غرام 300 درهم!!

–  دعارة (= ذعيرة)

– غرام (= غرامة)

مقالات من نفس القسم

عبد القادر القادري
تراب الحكايات
موقع الكتابة

نظرات