تسألُ نفسَك عادة لماذا تشعر بالعار كلّما تصفحت كتاب شعر؟

شيسواف ميووش
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

شيسواف ميووش

ترجمة ـ أحمد مرسي

بينما استنكر شيسواف ميووشبينما استنكر شيسواف ميووش أن يكتب شاعر في التسعين مقدمة لأعمال كتبها على مدى عشرات السنين، إلاّ أنه رضخ لإصرار ناشره هاربر كولينز، بعد مقاومة، وكتب “بضع كلمات” عن قصائده في نظرة استرجاعية، قدّم بها مجلّد “الأعمال الجديدة والكاملة” الذي صدر في طبعته الأولى في 2003:

“إنني أرى المنطق الداخلي الذي يربط قصائدي المبكّرة التي كُتبت في سنّ العشرين بأحدث كتبي، (هذا)، والذي صدر في طبعته البولندية الأصلية في عام 2000، والمتضمن في هذا الكتاب. إنه مع ذلك، الى حد ما منطق لا يتفق مع العقلنة. إنني أؤمن إيماناً قوياً بسلبية الشاعر، الذي يتلقى كل قصيدة كعطيّة من روح حارسة أو، إذا فضلت، ملهمته. وينبغي أن يكون من التواضع الى حدّ ألاّ يعزو ما تلقّاه الى فضائله الخاصة. وفي الوقت نفسه، مع ذلك، ينبغي أن يكون ذهنه وإرادته يقظين. لقد عشت وسط مشاهد رعب في القرن العشرين ـ وقد كانت واقعاً، ولم أستطع أن ألوذ بالفرار الى مملكة “شعر طهراني” كما نصح أسلاف الرمزية الفرنسية. ومع ذلك، قلّما تتمخّض ردود أفعالنا الفائرة الدماء إزاء اللاإنسانية عن نصوص صالحة فنياً، حتى إذا كانت قصائد مثل قصيدتي (Campo dei Fiori)، التي كُتبت في 1943 في وارسو عندما كان الجيتو يحترق، لا تزال لها قيمة ما.
أعتقد أن محاولة أسر أكبر قدر ممكن من الواقع المحسوس هي بمثابة صحّة الشعر. وإذا كان عليّ أن أختار بين الشعر الذاتي والشعر الموضوعي، سوف أعطي صوتي للشعر الموضوعي، حتى لو كان معنى ذلك المصطلح لا يُفهم عن طريق نظرية، ولكن عن طريق نضال شخصي. وآمل أن تُبرر ممارستي ادّعائي.

“لقد حفز تاريخ القرن العشرين كثيراً من الشعراء على أن يصمّموا صوراً تعبّر عن احتجاجهم الأخلاقي. ومع ذلك، فإن البقاء على علم بوزن الحقيقة من دون الاستسلام للإغراء بأن تصبح مجرّد مندوب صحافي يمثل إحدى أعقد الأُحجيات التي تواجه ممارساً للشعر. وهي تتطلب مهارة في اختيار أدوات المرء، ونوعاً من تقطير المادة وضع مسافة للتأمل في أشياء هذا العالم كما هي، من دون إيهام. وبقول آخر، لقد كان الشعر بالنسبة لي دائماً مساهمة في زمن معاصري المعدّل بطريقة إنسانية”.
ولا يسعني إلاّ أن أكتفي بهذا التقديم المختزل الصادق والذي يخلو من أي ادعاء، ولا يقبل المزايدة، لأقدم قصائد تمثل بواكير أعماله التي أشار إليها، وقصيدة من أعمال سنواته الأخيرة.

ترتيلة

ليس هناك أحد بينك وبيني.
ولا نبات يمتصّ نُسغاً من أعماق الأرض.
ولا حيوان، لا إنسان،
لا ريح تمحى بين الحُب.

أجمل الأجساد مثل زجاج شفاف.
أقوى الآلهة مثل ماء يغسل أقدام المسافرين المتعبة.
أشدّ الأشجار خضرة مثل قصدير مُبرعم في عتمة الليل.
الحبّ رمال تبتلعها شفاه عطشى.
الكراهية قدح ملحي يُقدّم للعطاش.
تدفقي، أيتها الأنهار، إرفعي أيديك،
أيتها المدن! أنا، ابن مخلص للأرض السوداء، سوف
أعود الى الأرض السوداء.
كما لو كانت حياتي لم توجد،
كما لو كان قلبي، لو كان دمي،
لو كانت إدامتي
لم تخلق كلمات وأغاني
لكن صوتاً مجهولاً، غير شخصي،
بل الأمواج المتدافعة فقط، جوقة الرياح فقط
والتمايل الخريفي
للأشجار الفارعة.

ليس هناك أحد بينك وبيني
وقد أُعطيتُ القوة

2 ـ ترتيلة

لا أحد هناك بينك وبيني
وقد أُعطيتُ القوة.
جبال بيض ترعى على سهول برية،
الى البحر تذهب، مكان سقيها،
جديد وجديد، شموس تتكئ على
واد لنهر صغير داكن حيث وُلدت.
ليس لدي حكمة، ولا مهارات، ولا إيمان
لكنني أتلقّى قوة، إنها تقسم العالم نصفين.
سوف أخوض، موجة ثقيلة، على شواطئه
وسوف تغطي أثري موجة صغيرة. آه أيتها الظلمة!
التي خضّبها بريق السحر الأول،
مثل رئة انتزعت من صدر مشقوق،
إنّك تتأرجحين، إنك تغوصين.
كما مرّات عديدة طفوت معك،
مثبّتاً في منتصف الليل،
سامعاً صوتاً ما فوق كنيستك التي اعتراها الرعب،
صيحة طائر، حفيف المرج كان يطوفان داخلك
ولمعت تفاحتان على المائدة
أو تلألأ مقصّ مفتوح ـ
وكنا متشابهين:
تفاحتان، ومقصّ، وظلمة وأنا
تحت نفس القمر غير المتحرّك
الآشوري، والمصري، والروماني.

3 ـ ترتيلة

الفصول تأتي وتذهب، الرجال والنساء يتعاشرون
الأطفال شبه نائمين يمدون أيديهم عبر الحائط
ويرسمون أراضي بإصبع مبتلة باللعاب.
الأشكال تأتي وتروح، وما يبدو منيعاً يتداعى.

لكن وسط الدول البازغة من البحر،
وسط الشوارع المهدومة حيث ذات يوم
سوف تحدق جبال صُنعت من فلك هاو،
في ظلّ ما مضى، وما سوف يمضي
يدافع الشبان عن أنفسهم، زاهدين مثل غبار الشمس،
لا يحبّون الخير ولا الشر،
الجميع قُذفوا تحت قدميك الضخمتين
حتى يمكنك أن تسحقها، حتى يمكن أن تدوسها،
حتى يحرّك نفسك العجلة
وتهتزّ بنية هشّة بالحركة،
وحتى تعطيها الجوع، والآخرين نبيذاً، وملحاً، وخبزاً.

صوت البوق ما زال لا يُسمع
إذ ينادي المشتّتين، أولئك الذين يرقدون في الوديان.
على الأرض المتجمّدة حيث لا هدير بعد للعربة الأخيرة.
ليس هناك أحد بينك وبيني.

باريس 1935

***

من (ثلاثة شتاءات)

لقاء

كنا نركب عبر حقول متجمدة عربة الفجر.
ارتفع جناح أحمر في الظلام.
وفجأة جرى أرنب عبر الطريق.
أشار أحدنا إليه بيده.
كان ذلك منذ زمن بعيد. اليوم لا أحد منهما على قيد الحياة.
لا الأرنب، ولا الرجل الذي أبدى الإشارة.

آه يا محبوبتي، أين هما، الى أين يذهبان
لفتة اليد، الحركة الخاطفة، حفيف الحصى.
لا أتساءل بدافع الأسف، لكن في تعجّب.

(ويلنو، 1936)

من (مجموعة “إنقاذ”)

الشاعر الفقير

الحركة الأولى غناء.
الصوت الحرّ، مالئاً الجبال والوديان.
الحركة الأولى بهجة،
لكنها أُخذت بعيداً.

والآن وقد حوّلت السنون دمي
وآلاف النُظم الفلكية قد وُلدت وماتت في
لحمي،
أجلس، شاعر ماكر وغاضب
بعينين مُحولّتين باضطغان،

أخطط لأنتقم
أوازن القلم فينبت أغصاناً وأوراقاً، يغطّى ببراعم
ورائحة تلك الشجرة وقحة، لأن هناك، على الأرض الحقيقية،
لا تنمو مثل هذه الأشجار، ومثل أية إهانة
للبشرية المعذّبة رائحة تلك الشجرة.

البعض يجد ملاذاً في اليأس، وهو شيء حسن
مثل تبغ قوي، مثل قدح من الفودكا احتُسي في ساعة
الفناء.
آخرون يكنّون أمل المغفّلين، وردياً كأحلام إيروتيكية.

لا يزال هناك آخرون يجدون السلام في عبادة بلد،
والذي يمكن أن يبقى لمدة طويلة،
وإن كانت أطول قليلاً في القرن التاسع عشر.
لكنّي أُعطيت أملاً ساخراً،
لأنني منذ فتحت عينيّ رأيت فقط وهج الحرائق،
المذابح،
فقط الإجحاف، والإذلال، وعار المتفاخرين المثير للضحك.
أُعطيت الأمل في الانتقام من الآخرين، ومن نفسي،
لأنني كنت هو الذي عرف
ولم يأخذ منها ربحاً لنفسه.

وارسو 1944

وداعاً

أتحدث إليك، يا بني،
بعد سنوات من الصمت. لم تعد هناك فيرونا.
لقد فتّتُّ غبار قرميدها في أصابعي. هذا ما يتبقى من حب المدن الأصلية “العظيم”.

أسمع ضحكتك في الحديقة. وعبير الربيع المجنون يأتي نحوي عبر الورقات البليلة.
نحوي، أنا،… من لا يؤمن بقوة منقذة، عمرت أكثر من الآخرين ومن نفسي أيضاً.

هل تعرف كيف يشعر المرء عندما يستيقظ
في الليل فجأة ويسأل،
مصغياً الى القلب الهادر: ما الذي تريده زيادة
من نهم لا يشبع؟ الربيع، عندليب يغني.

ضحك الأطفال في الحديقة. نجمة صافية أولى
فوق زبد من البراعم على التلال
وتعود أغنية خفيفة الى شفتي
وإذا بي شاب من جديد، كما كنت من قبل، في فيرونا.

أن ترفض. أن ترفض كل شيء. هذا ليس هو الأمر.
لن أحيي الماضي ولن أعود.
نم، يا روميو، وأنت يا جولييت، على مسند رأسيكما المصنوع من الريش الحجري.
لن أرفع أيديكما المقيدة من الرفات.
لتذهب لقطة الى الكاتدرائيات المهجورة،
بؤبؤ عينها يتوهج على المذابح. لتضع بومة
بيضة على القوس القوطي الميت.

2 ـ وداعاً

تحت القمر الأبيض بين الأنقاض، دع الحية تدفئ نفسها على أوراق حشيشة السعال، وفي الصمت دعها تتكور في دوائر لامعة حول ذهب عديم الجدوى.
لن أعود. أريد أن أعرف ما الذي تبقى
بعد رفض الشباب والربيع.
بعد رفض تلك الشفاه الحمراء
التي فيما يبدو تنبثق منها الحرارة
على الليالي المتقدة.

بعد الأغنيات وعبير النبيذ،
وأداء القسم والحسرات، الليالي الناصعة،
وصياح النوارس مع الشمس السوداء
متوهجة خلفها.

من الحياة، من التفاحة التي قطعت بسكين ملتهب،
أي حب من الحبوب سوى ينقذ؟

بُنيّ، صدقني لا شيء يبقى.
كدح البالغين فقط،
غضنة القدر في راحة اليد.
الكدح فقط،
لا شيء أكثر.

(كراكو، 1945)

تقديم
(كتاب “أطروحة عن الشعر”)
(1957)

أولاً، كلام عار من المحسنات بلغة الأم.
ينبغي وأنت تسمعه أن تكون قادراً على أن ترى،
كما في لمحة برق صيفي،
شجرات تفاح، نهراً، انحناءة طريق.

وينبغي أن يحتوي على شيء أكثر من الصور.
غناء رتيب أغواه بالظهور الى الوجود،
نغمة، حلم يقظة. لأنه بدون دفاع،
تخطاه العالم الجاف، الحار.

تسأل نفسك عادة لماذا تشعر بالعار
كلما تصفحت كتاب شعر.
كما لو كان المؤلف، لأسباب غير مفهومة لك،
قد خاطب أسوأ جانب في طبيعتك،
منحّياً الفكر، مدلساً الفكر.

الشعر، الذي نضج بالسخرية، والبهلوانية،
النكات، لا زال يعرف كيف يمتع.
عندئذ يعجب بروعته أيما إعجاب.
لكن القتال الجاد، حيث الحياة على المحك،
يخاض بالنثر. لم يكن هكذا الحال دائماً.

وما زلنا لم نعترف بأسفنا
الروايات والمقالات تخدم لكنها لن تستمر.
مقطع واضح واحد يمكنه أن يحمل وزناً أكبر
من عربة كاملة من النثر البليغ.

جزيشوفسكي
(من قصائده الأخيرة)..

مرة أخرى يزهر السوسن
عندما يزهر من جديد، سوف ينتهي عمري.
المحيط في الصباح يغشيه السديم.
في مدخل البيت المفتوح على الحديقة يشغلني عدم التذكر.
مع ذلك لا أستطيع أن أنساك، يا فيلسوف اليأس
الذي شكك في صلاح الخلق.
أرى أثراً مظللاً بأشجار البتولا فيما بين “ويلنو” و”مينسك”، بمجرى ملتوية في الوسط.

لم تكن هناك وقتئذ أوتوموبيلات، أو طرق إسفلتية.
أرسلت عربة يجرها حصانان الى محطة السكة الحديد لتنقل الضيوف.
ربما استضاف فلاديمير سولفييف في قصره واستمع الى ما يمكن أن يقوله عن مصالحة الكاثوليكية الرومانية والكنيسة الأرثوذكسية.
ربما ناقشوا أيضاً ما إذا كانت طيور البط ببركة الإقطاعية يمكن أن تحصل على خلاص.
ما إذا كان قد عتقت نملة أو ذبابة
من الذي أرسى على هذه الأرض قانون الألم للكائنات الحية؟
لقد احتفظت حتى هذا اليوم بكلماته:
“ومع مضيّ السنين، عندما خضت الى أبعد وأبعد داخل الحياة والعالم، أدركت بوضوح أكثر وأكثر عرض ألم أن هذا العالم، إذا اعتبر ككل، فوضى وجنون، وليس، كما علمونا، عمل العقل: إنه لم يخرج من يد الرب”.

2 ـ جزيشوفسكي

هنا يمشي الى حصة دراسية على شوارع كراكو.
معه معاصروه: التل، والمخمل، والستان
تمس أجساد نساء مثل السيقان النحيلة
لنباتات الـNauveau Are الخاطئة.
نظرات ودعوات من داخل الليل.

في معركة كونية تبرق سيوف الملائكة،
يتقدم أمير التمرد، يتراجع خدم النور.

قسوة، تحجر،
كيف أصفها على نحو آخر؟ بالرغم من أنه، وهو فيلسوف، لم يستطع أن يقول صراحة أنه كان يؤمن بعالم الشيطان.
وحيداً في وليمة لونهم ولمسهم.
“ليس هناك ربّ ـ الطبيعة والتاريخ يعلنان ذلك بالإجماع. لكن هذا الصوت حجبته هارمونية المزامير والتراتيل، وإقرار قادم من عمق روح الإنسان، بأن روح الإنسان مثل “تربة بلا مياه”. الرب. ومع ذلك، فإن حقيقة وجود الرب تتجاوز قدرة الفكر المعني بالعالم الخارجي. Le monde est irrationnel. Dieu est un miracle”.
صوت الأجراس وحده،
الق وعاء القربان المقدس وحده،
الأصوات الفانية التي تعلن المجد

3 ـ جزيشوفسكي

الأرضيات بأديرة الرهبان الدومينيكان والفرنسيسكان
التي داستها أقدام أجيال
تحمينا. حتى إذا كان الوهم
يوحدنا في هذا الإيمان بحياة أبدية
نحن، التراب، نسدي شكرنا لمعجزة التراب المؤمن.
صاحب الفخامة، لقد اقتربت منك ذات مرة، صبي، على درجات المكتبة تحت برج “بوزوبت” الملون بعلامات دائرة البروج.
في مدينة انتزعها سلاح الفرسان البولندي من البولشفيك،
انتظرت، واعياً “النهاية الدانية”.

كان يمكن رؤيتك وأنت تمر في عربة، حوافر الحصانين تصدر دقات على الرصيف غير المستوي، لم تقبل أبداً الأوتوموبيل أو التليفون.
مع رقصاتها، أزهار الليلك المتفتحة والكرز البري، مع طفو الأكاليل فوق النهر كانت المدينة تغرق.
لقد مت في الوقت المناسب تماماً، همس أصدقاؤك، وهم يهزون
رؤوسهم: “لقد كان محظوظاً”.
تحققت النبوءة، كل ما كان موجوداً هناك قد غرق، أبراج الكنيسة
فقط نتأت من القاع.
ربما أنا مثل الرجل الذي أخفى نفسه في برج كنيسة سان جون، عندما لم يكن هناك مهرب من الترحيل الى “الغولاق”، فنجا. ظبية معها وليدان اختارت أن تقيم على النجيل خارج نافذتي. حلقة عنيدة للميلاد والموت، يا صاحب الفخامة. لقد دربت نفسي لمدة طويلة على ضبط النفس.
ولأني أكثر دهاء منك، تعلمت عصري، مدعياً أني كنت أعرف طريقة لنسيان الألم.

مقالات من نفس القسم