خلود البدري
عند الصباح الباكر، في كلّ يوم، يكاد الشارع المؤدي لموقع عملها يخلو من الناس، حيث الأبواب مغلقة، لذلك تسرح بأفكارها متلفّتة للبيوت على جانبيه.
تتجه ببصرها إلى مواء قطة، متقطّع، حفّز إدراكا لديها، أبعدها عمّا هي فيه، كأنما المواء يُسرّي عنها. تغذُّ خطاها متطلّعة لقطة أخرى، مرقّطة، تلج عبر فتحة صغيرة لبيت قريب منها. تمعن نظرها وإذا بقطة ثالثة، تطمر فضلاتها برمل قليل، تفاجأت بها ففرّت تاركة ما انهمكت به.
هذا شارع لا يخلو من حيوانات، طيلة اليوم، تتقافز قططه نهارا ثم ليلا يتعالى منذ وقت مبكر نباح كلابه.
عادت لأفكارها، سارحة بها، فطرأ على بالها نجاحها في إيجاد مكانها الخاص، الذي سعت حثيثا إليه، حيث غرفتها ضمن موقع العمل.
لم يُغرها صخب الحوارات، حيث الولائم التي تقام على شرف هذه أو تلك من الزميلات، أثناء الاستراحات.
تكفيها الشمس لتجد الدفء مع الضوء!
دائما نبحث عن أمكنة بعيدة عن ضجيج البشر، كلّهم، رغم تعالي أصوات المرضى منهم.
الألم يجعل المريض يصرخ، حتما، فلنعطه كلّ الحق. هكذا كانت تردد مع نفسها دائما.
تقع غرفتها في ممر ضيق، بحيطان كالحة، تحيط بجوانبها كراسيُّ عتيقة، ثمة كرسيان أسودان كبيران يستندان إلى حائط، وعلى الحائط المقابل له إعلانات من ورق مقوّى ملون، أخضر وأصفر وأبيض، يحتوي كلٌّ منها إرشادات صحية، زُيّنت الحيطان بصور أطفال، قريب للحائط الثالث سرير مغطى بجلد أبيض ومنضدة تجلس بعض الأوقات خلفها.
يكاد لا يميز هذه الغرفة، عن غيرها، سوى ستارة بيضاء، عند منتصفها، تزرق إبراً للمريضات وراءه، كذلك تزرع “كانيولات” لأوردة الصغار في أيديهم، وثمة قدح تضع فيه بعض وردات، من الرازقي، يفوح عبقها العاطر طاغيا على رائحة الديتول المعقم التي تعمّ المستشفى.
سرحت بأفكارها بعيدا، من جديد، تهمهم: قد نعشق بعض البشر لا لشيء إلّا لأنهم استوطنوا ذاكرتنا، بتصرّف ما، أو لامسنا شيئا منهم ببعض حواسنا، هذا ما حصل معي، أحببت وردة الرازقي ورائحتها الفواحة، دأبت أن تكون هذه النبتة في بيتي دائما، رغم موتها المتواصل، هي وردة رقيقة، تحتاج لمن يعتني بها، وإلّا رأيت أوراقها تصفر وتذبل لتموت، تحتاج للحب، لقد ارتبطت رائحة الرازقي بمعلمتي، حقا، الآن لا أتذكّرها كقوام وشكل واسم، إنّما أتذكر رائحتها الطيبة وهي تمر أمامنا في ممرات الصف، نستنشق عطر العقد المطوق لرقبتها، فكانت تلضم ورداتها ثم تلبسها كعقد أخاذ الرائحة، يفوح فيتمازج في أرواحنا، كبرت فظلت عطرا يلازمني، أحببتها فأحببت من خلالها الورد الأجمل، الرازقي، يزهر الآن في بيتي، أجلبه معي لغرفتي في المستشفى، فأتذكر العطر ومعلمتي صباحا ومساء..
تتأمل كل ما يطرأ على شخصيتها من تغيير.
أنّت بفزع: كم هي قاسية الحياة قبالة مَن لا يشغل تفكيرهم سوى تخفيف آلام الناس؟
تتكبّد صراعات روحك في اكتساب المعرفة، بالضرورة، كي تتغلّب على نفسك لئلّا تكون في الدرك الأسفل من الحياة.
تمنّيتُ أن أعزف الموسيقى، أحببت صوت الغناء، طربت مع الألحان الشجية، ذابت روحي لتعلّم كيفية العزف على آلة موسيقية، لم أستطع ذلك، ظرف عائلتي، العوز الذي عشناه، جعلني أتراجع عن طموحي، فانشغلت بدراستي لمواكبة أخوتي، أراهم يتقدمون في دراساتهم، يدفعهم شغف التعلّم لمواصلة الليل بالنهار لأجل الحصول على شهادة عليا.
كلّما ناداني أحدهم بكلمة “شحيمة” تضايقت آخذة في العويل، كنت أظنها إساءة إليّ، لكن عندما كبرت أخبروني بأنّهم تحبّبا لي أطلقوا هذا الاسم، لترفي الواضح وبياضي الناصع، هكذا انتشر، لم أعد أُعرف بغيره، فاعتادت أذني على وقع حروفه، لم أنفر منه حين بدأ خطيبي يطلقه عليّ، أحببته مكرّراً إياه على مسامعي بنبرة صوته الشجي، بحركات يديه وهو يمثّل أمامي بطوله الفارع كيف ستذوب الشحيمة بينهما.
أنهيت دراستي الإعدادية فالتحقت بكلية التمريض، حاصلة منها على شهادة بكالوريوس، وها أنا اليوم، بعدها، أمارس عملي التمريضي في مستشفى حكومي وأكمل دراستي الطبية في جامعة أهلية.
ما حصل مؤخرا جعلني خائفة، متذبذبة الأفكار، إذ أدركت أنّي سأغدو وحيدة!
كم من أهداف وضعتها أمامي فإذا بها بعيدة المدى؟
دائما أتقن عملي التمريضي!
أستجمع في لحظات الألم شتات نفسي من جديد، أجترح السعادة فتبدو غايتي بعيدة المنال، لا أحد يفرض عليّ ما أقوم به، أحب هذه المهنة، أرغب في أن أبدع بممارستها.
ثمة امرأة، متشحة بسواد كامل طلبت مني، بورقة طبيب، أن أزرع “كانيولا” لأحد أوردة صغيرها في إحدى يديه. لم أكد أبدأ بوضع إبرتها على وريد في يده اليسرى، تبيّنته بيسر، حتى أخذ الصغير يصرخ بادئا بعياط. حينها صاحت بي “قتلتِ ابني” دافعة إياي بعيدا، بكلتا يديها، فصُدمت يدي اليمنى بحافة شباك. ما أسمعتها أية كلمة، وأنا أستعيد توازني، قد تعكّر وضعها أكثر. بل امتصصْت إهاناتها الأخرى، كأنّني اسفنجة؟، ثم أعطيتها الحق قبالة المتدخّلين معي ضدّها.
يجب أن تجعل من الحياة شيئا يمكن أن يُطاق العيش فيه أو يستساغ!
بعد أيام، نسيت خلالها هذا الجرح، شعرت بورم في يدي اليمنى، ذاتها، تلمّسته فآلمني، نامياً منتفخاً، لذا أحالني طبيب استشاري إلى مختبر المستشفى، كي يجري فحوصات لدمي، فصُدم وصدمني معه: مرض خبيث منتشر في اليد بأكملها، في أنسجتها كلّها، لا علاج له سوى قطعها.
بماذا أخبر خطيبي؟
هل يتزوج معاقة؟
لا بدّ ممّا لا بدّ منه!، نعم، لذلك اتصلت به مخبرة إياه بما حصل معي، منذ ألفه حتى يائه، فاحتدّ غير متفهّم لحالتي: إن قطعت يدك اعتبري كل شيء بيننا منتهيا.
ياللقهر!
لم يكتف بذلك، لا، بل طالبني بإرجاع كلّ ما أعطاني إياه، حتى أبسط هداياه!، منسحبا من حياتي معه، أو حياته معي، كأنّها دون أيّ شيء.
يعتريني إحباط، تضجّ به خلجات روحي، يُقوقعني على نفسي فارضاً سطوته. لكنّني أحاول، كي أحلّق من جديد، أن أنفض رمادي… أدعك كتفيّ… أتناسى. هكذا أشغل كلّ ثانية من عمري، يااااه، فيطل برأسه مادّاً لسانه ليسخر مني.
لم تدم معاناتي إلّا أيّاماً قليلة، فقط، أسلمت بعدها الروح بلا خضوع لعملية جراحية، تقطع يدي اليمنى، حيث قتلتني خيبتي بمن أحببت.