محمد فرحات
أنوار، وكهارب حمراء وصفراء وخضراء تحيل ظلام الليل الأسود إلي ألوان وردية مبهجة، نغمات كمان مرتعشة راقصة متحررة بلا رقيب، تنثر ضحكاتها العالية الامبالية، ليجيبها الباص بنغماته الذكورية الغيورة، يطاردها بيأس العاشق الوله المذبوح بالتجاهل، يحاول التمباني بإيقاعه النابض الحار الصلح، يهمس للكمان، يسر لها بلوعة الباص وعشقه، تتمادى نغمات الكمان في لا مبالاتها، مجيبة بضحكة لعوبة ” كثر هم قتلاي! “.
صحاف الشربات تغدو وتروح، تتلقفها الأيدي العطشى لرحيق الورود والعشق.
أطقم الخدم ببذاتهم الأنيقة، المزينة أعناقهم ببيونات حمراء، المستأجرون من فندق رمسيس هيلتون،
يتسابقون بهمة ونشاط في تقديم الأطعمة والمشروبات، يرصونها بأناقة فندقية من ذوات النجوم الخمس، لتتناولها أكف الفقراء والمساكين والمجاذيب، تتجول الزكية في أنحاء خدمتها متفقدة، منبهة، مرشدة، متبسمة، لينة الجانب، تخص أطفال الفقراء المصاحبين آباءهم، والمشردين، واليتامى بالحلوى، آمرة الخدم بإكرامهم يتبعها العمدة المتعافى، يخفق قلبه بفرح ونشاط صمام جديد، واهبا حياة جديدة لخافق عاشق، وفي يده أوراق وقلم، يكتب أسماء الأطفال، يضاحكهم ويضاحكونه.
العمدة قد عاد ثانية بعد طول غياب، عاد في ثياب عافية و برء، بقلب فتي يستعد بكل عزمه لبذل محبة لكل مخلوقات الله، بصدر وسيع رحيب رحابة العشق، لامبال بألم جرح شقه يوما مبضع جراح ماهر، ببهجة ليلة، أصرت أمه الزكية على إقامتها، احتفالا بعودة ابنها ثانية، ليلة ذكر، ومدح، وخدمة لم يشهدها يوما حي الحسين، والجمالية وبين القصرين…
***
لا…شهدها يوم مقدم رأس الإمام الحسين، ليس من قيد أنملة بمحيط قصر الزمرد الفاطمي إلا وقد علاه السجاد الأحمر الفارسي السلطاني، ليس من نسمة إلا وحملت بشذى الزعفران، والمسك، والبخور.
تكتظ الطرقات بموائد عليها من شتى صنوف الأطعمة السلطانية الفاطمية، لم يبق من بيت قاهري إلا وجاء مرحبا مستقبلا.
يظهر الخليفة الفائز بالله الفاطمي، حافي القدم، يحمل طستا ذهبيا عليه برنس أخضر يحيط مغطيا أشرف رأس، يتبعه وزيره القوي نافذ الكلمة الصالح طلائع رزيك حافيا مهرولا مأخوذا، يعبرا وسط الجماهير المهللة المكبرة، ليدخلا سرداب قصر الزمرد، ليستقر الرأس الشريف لحين انتهاء أعظم البنائين، والنحاسين، والرسامين من إنهاء المشهد الحسيني الأعظم مقابل الجامع الأزهر.
***
تراسل أبنائها لحضور الاحتفال الكبير، تحضر الوفود تترى من الإسكندرية، ووجه بحري، هنيهة ويحضر وفد عظيم العدد والمظهر، يتقدمهم الصعيدي الوجيه إدريس السناري أقدم أبناء الزكية، وأخلصهم، وأكثرهم بذلا، يتبختر وسط صفين من مصاحبيه كطاووس في كامل بهائه وزينته، ليصافح الزكية المرحبة الباشة لابنها الأكبر…
– ليه الغيبة الطويلة دية يا إدريس؟
“يجيب بلهجة صعيدية خالصة.”
-الأرض ومسؤوليات العمودية يا أمي…
– كنت خالي و مبسوط يا إدريس…!
– ما هي دعوتك يا أمي …
-ساعتها كنت ديما تقولي نفسي في ابتلاء النعم، وأقولك ياولدي ده ابتلاء صعب، عارف، ساعات بقول لنفسي ياريته قعد جنبي على فقره، وألوم نفسي لأني طوعتك ودعيت…
“يجيب إدريس منزعجا.”
-هو أنا قصرت في حاجة يا بنت سيدنا الحسين؟!
– القرب يا إدريس، مش بس إجابة الطلبات…هنشوف ياولدي، هنشوف…
ينصرف إدريس، ووفده الصعيدي إلى الموائد…
وبعدما يفرغ الجميع من طعامهم، يسكت الإنشاد وما يصاحبه من نغمات، لتبدأ الحضرة الشاذلية، صفوف طويلة على هيئة مستديرة، دوائر كبيرة تحتوي دوائر أصغر بداخلها دوائر أصغر، وهكذا… ، وفي القلب منها الزكية في عباءة سوداء، تعلو رأسها طرحة حريرة سندسية باهرة الاخضرار، ويجلس عن يمينها إدريس، يلوح على وجهه الأسمر الوسيم علامات الحيرة مشوب ببعض حمرة الغضب، يسترق ناظرا بطرفه المضطرب العمدة الجالس لأول مرة مشاركا إدريس الصدارة.
تتعالى أصوات الذكر بالتدريج، مختلطا بنشيد منفرد يصدح به، المداح والفنان والموسيقي الأشهر محمد الكحلاوي بن الزكية، ينشد بشجن باك فائية ابن الفارض…
“مالي سوى روحي وباذل نفسه
من أجل من يهواه ليس بمسرف
فلئن رضيت بها فقد أسعفتني
ياخيبة المسعى إذا لم تسعف “
والعمدة هائم في دنيا ليست كما الدنيا، وإدريس تائه في كل أودية الدنيا، مسائلا نفسه عن وضعية العمدة الجديدة، الزكية ترمقهما من طرف خفي …
وبآخر طبقة ذكر، تقبض الزكية بيمينها على المايك، استعدادا للحديث، ليصغي الجميع منتبها لما ستقوله الزكية .
***
– روضة جدك أبي الحسن الشاذلي …
“تمد بصرها إلي القبة الطينية العتيقة، ثم تقول مستبشرة ناظرة للسماء…”
-انظر يا أبي هذا هلال ذي القعدة قد ظهر…
-الله ربي وربك اللهم اجعله هلال بركة وخير…
– مشتاقة لروضة النبي يا أبي…
– الصبر يا ابنتي كلها أيام ونصل…
تستجم قليلا قافلة الحج-مخيمة- في وادي عيذاب، فتلك هي المرحلة الأخيرة من رحلتهم في الأراضي المصرية، نهار واحد يفصلهم عن ميناء عيذاب.
وهذا هو سيدي عبدالمطلب بدوي العالم الأزهري، وتلك هي ابنته الزكية ذات الخمسة عشر ربيعا، العام 1915، في رحلة الحج التي كانت مكافأة لها على إتمامها حفظ القرآن الكريم.
تستغرق الزكية في قيام الليل، وقد أخذها الحنين لجدها صلى الله عليه وسلم، تنفتح الخيمة حيث ينام والدها وتصلي، وإذا بالمشيرة زينب بنت علي تأتي مرحبة ومعها غربال، تسلمه للزكية قائلة بحزم حاني :-
-“ده علشان تغربلي بيه محبي آل البيت، وتجبيهم من الشمال لليمين، وتيجي عندي القاهرة، واللي تحتاجيه هتلاقية .”
تنفتل الزكية من صلاتها لتقرأ سورة الكوثر.
***
تصيخ الأسماع، تشرئب الأعناق، تخفت الأصوات إلا من هديل حمامتين ترقبان من عشهما المشهد.
وقد قبضت الزكية بالميكرفون :-
-كان وردي الذي لقنته لكم يا أحبابي، هو إطعام الطعام وجبر الخواطر، كان الإحسان للفقير، والحدب على المسكين هو طريقي الذي ربيتكم عليه، هل علمتكم تصعير الخد؟!، هل علمتكم المشي مرحا في الأرض؟! فما بال كل هذه الكبرياء التي استبدت بصدور بعضكم، أمن أجل حظ حقير من الدنيا؟! أولادي كثر في كل أنحاء مصر وخارجها، وهذا ولدي إبراهيم العشماوي العمدة قد ابتلي فصبر فنجح ،فكانت الليلة ليلته وكان الاحتفال احتفاله، ودعوتكم من سائر أنحاء مصر لتشاركوني فرحي بولدي العمدة…
(ينتفض إدريس السناري مغاضبا، وكأنه قد قبض على عقرب في جبته الأنيقة صائحا… )
-فالصو يا أمي، عمدة فالصو، أنا عمدتك الحقيقي، أنا ابنك الحقيقي، أنا البكري، أنا إللي عرفتك قبل ما حد يعرفك…
لاتلتفت الزكية له، تأمر الجميع بالوقوف، والاصطفاف لتقبيل يد العمدة.
يتجمد إدريس في مكانه من هول ما قال، وما يشاهد، وكلما أقبل أحدهم مقبلا يد العمدة، تأخر إدريس خطوة، يصارع الحب غضب نفسه الحانقة، تتهدم أسوار قلبه إثر هجمات نفسه الشرسة، يتأخر خطوة تلو خطوة، يصل لبوابة الخدمة الخارجية، ونظرات الزكية الحزينة لا تبارحه…
يخرج إدريس من خدمة الزكية لا يعلم له وجهة، لا يدري أين يذهب، سقطت كل العناوين من ذاكرته، كل الأحداث التي مرت بحياته لا وجود لثمة إشارة لها، وحدها الحضرة الأخيرة، وحده وجهه الزكية، وحدها كلمات الزكية الأخيرة، والعمدة بجوارها تراوحهما عيناه.
تشير الزكية لمريديها بالانتظام في حلقاتهم الدائرية، تعطي إشارة البدء للطبقة الثانية من الحضرة.
يأخذ إدريس في الدوران بشوارع الجمالية ، ليعود ثانية للخدمة فيجد أبوابها قد اختفت تماما، وحلت محلها أسوار عالية تلامس السموات الأول، أسوار منيعة لا منفذ إليها، ولامخرج منها، يسترق السمع فتذيبه أصوات المنشد، ونغمات الموسيقى الحزينة الشجية حنينا، واشتياقا لوطنه المفقود، يصيخ السمع فإذا كلمات الحضرة قد استغلقت على فهمه، وكأنها تنشد بلغة غير العربية، يطوف حول أسوار الخدمة العالية، وفي كل دورة تأخذه أزمان طويلة لا تحسب بساعة و لابيوم ولا بسنة ، دهور كعمر الإنسان على الأرض، تأخذه تقلبات الحياة، وأطوار أعمار الأنس كلهم ، وكل طور بدورة حول الأسوار المنيعة العالية، ومع كل دورة تسقط قطعة من ملابسه، تسقط عمامته مع دورة الغرور، فبعباءته مع دورة الجشع، فدورة الغضب، والحسد، والشره، والتراخي، والفسوق، حتى يصير عاريا تماما، تعتصره مشاعر الندم حينما تتقادم به الدهور، ندم يمتص ماتبقى من عافية وعمره.
يأخذ في النداء باسم الزكية ” أما من فرصة في الرجوع؟! أما من ثقب إبرة في تلك الأسوار العالية المستحكمة؟! أمي أمي لم تخليت عني؟! خطأ واحد جر كل تلك الخطايا ؟! قتلني الندم، هل من توبة، أما من ثغرة في تلك الأسوار؟ “، تلوح من بعيد ثغرة في الأسوار يشع منها ضوء كفجر مشرق ينبجس من غلسة دامسة طالت لدهور، بالكاد تحمله قدماه كليلة واهنة مثقلة بكل أزمان كئيبة الوطأ سحقت هامته التى علت يوما، يقترب من الأسوار، يعلو نداءه الصارخ، يسقط عاريا باكيا نادما تحت أسوار خدمة الزكية.
تنتهي الطبقة الثانية من الحضرة، يجهش العمدة بالبكاء راجيا الزكية أن تسامح إدريس، فتبستم الزكية مربتة على ظهر العمدة :-
-أخوك إدريس بعيني ياولدي.
يهرول العمدة ليحضر الطعام، وبعد فراغهم، يحضر إبريقا ممتلأ بماء الورد ليغسل أيدي إخوانه،غير منقطعة عبراته.
تأخذ رياح الخريف المودع ورقة صحيفة قديمة، لتطير، ويتضح من بعيد مانشيت تحقيق على صفحة كاملة…
“لغز اختفاء العمدة الصعيدي ، الوجيه إدريس..