تحساس ذاتي

تحساس ذاتي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

رائحة البخور الهندي التي تكلّل كل شيء تكاد تكون الملمح الوحيد الذي ينتمي لأيام طفولتي ، وتقذفني به ذاكرتي الشمية من وقت لآخر. الرائحة التي تهدهدني كلما اجتزتُ مدخل بيتي الأبيض المغمور بضوء النهار الذي يتجمع عبر كوّةٍ مكشوفة في السقف في منتصف المدخل تماماً، ثم يتفرّق فوق رأس تمثال خزفي لرجل عارٍ يحاول التخلص من قيود تكبّل معصميه وجذعه ورجليه، ويقف ـ وياللمفارقة ـ بشموخ فوق حامل اسطواني من الخشب المطلي باللاكيه الأبيض. لكن الذي فجّر نشاط ذاكرتي الشمّية هو هذا الوقت من اليوم تحديدًا، الحادية عشرة صباحا، الوقت الذي يلهث فيه جسدي دومًا بين البنايات العالية المزدحمة بالبشر المسورة بسياجات الحديد: المدرسة الابتدائية، فالإعدادية، فالثانوية، فالجامعة، فمبني النقابة، فالجامعة، فمبني الوزارة، فمجمع المصالح الحكومية، فبرج شاهق الارتفاع يحتل مكتبي الهندسي أحد طوابقه.

كل تلك الأسوار نفت قبل يومي هذا وجود حادية عشرة مغمورة بضوء صباح يكلل جنبات بيت مطلي بالحنين والراحة، ورائحة بخور هندي جميلة عُتِّقت منذ أيام طفولتي. أردت الاعتذار لك يا “أمير” عن عدم حضوري للتصوير التليفزيوني. اعتقد أن أباك وخطيبتك يكفيان لتخليصك من رُهاب الكاميرا. لن تصدق أنني قد أعطيتُ طالبي الذي ناقشت رسالته لنيل درجة الماجستير درجات جيدة جدًا، ربما لم يستحقها، ولم أُزد من ضغطي عليه بالأسئلة والانتقادات, لاشيء سوي أنني وددتُ أن أشاهد ذلك البرنامج التليفزيوني الذي يستضيفك في المنزل وأقوم بتسجيله كما طلبت مني.

بحثت عن زر التشغيل في التليفزيون ذي البوصات الكُثر ولم أجده. استخدمت الريموت كونترول. بحثت عن زر on أحمر اللون مثلا، فلم أجد. جربتُ الضغطات الطوال والقصار ولم ينطق الجهاز التكنولوجي الضخم، وفجأة أضاءت الشاشة استجابة لضغطة لم أدركها، وظهر الرقم (1) في أقصى يسار الشاشة عاليا. ما زال الوقت مبكراً. رغم ذلك، لم أجرؤ علي تصفّح قنوات التليفزيون كلها أو بعضًا منها خشية أن تضيع مني الهبة التي مُنِحَت لي تواً خاصة بعد ما توجستُ خيفةً من هذه التكنولوجيا التي لم تربطني بها يوما أية صلة غير دفع أموالي ثمنا لها.

“والآن مع فقرة السيرك من… تشيكوسلوفاكيا”

هكذا صرخ المذيع الأمريكي بعصبية ثم رماني بابتسامة مصطنعة. انتقلت الكاميرا إلي الحلبة الفسيحة، ولمع الرداءان السماويان للمدربيْن في مواجهة الأضواء وهما يصفّقان بحماسة لدب ضخم أسود الفراء. كان الدب ينطّ الحبل وهو يلف طوقا دائريًا رقيق السُمْك حول رقبته الغليظة محافظًا قدر الإمكان علي ثبات سرعة دورانه.. صفقوا كثيرًا، ثم قام بالمشي علي الحبل. جسمه الضخم الثقيل يتوازن علي الحبل بخفة، ثم قام بفعل ما لم أتوقعه علي للإطلاق. لقد وقف علي الحبل بطرفيه العلويين ورفع ساقيْه عاليًا في الهواء. فعل ذلك بخفّة تامة، وعلا التصفيق والهتاف، وضحكتُ مثلما ضحك الجميع مبهورين، وغمرني ارتياح وفرحة غريبة وأنا أقول لنفسي: “دب بمليون دولار علي الأقل”. ثم ضبطتني متلبّسة بالتصفيق. تذكرتُ حكاية صغيرة كانت صديقتي المقربة قد اعتادت قصها علي مسامعي للتدليل علي ضرورة قضاء المرء وقته فيما يفيد، واعتدتُ أنا قصها بدوري علي طفليّ وأصدقائي وزملائي في العمل لذلك الغرض أيضًا. قصة تحكي عن رجل طلب لقاء أحد ولاة المسلمين، فأذنوا له، فدخل حاملا جُعبة سهامه الخمسين ولوحة خشبية مستديرة للرماية، وأخذ يلقي سهامه كلها السهم تلو الآخر من مسافة تبعد خمسين ذراعًا نحو البقعة السوداء التي تتوسط لوحة الرماية، ولما مثل بين يدي الوالي، أمر له بألف دينار ذهبي وخمسين جلدة؛ فذعر الرجل وارتعدت فرائصه، ولما سأل الوالي عن الخمسين جلدة، قال له “ألهيتنا، فأضعت وقتنا ولم تفدنا”. سألت نفسي: “هل ضحك الوالي بارتياح وغمرته فرحة غريبة مثلما حدث لي عندما شاهدت ألاعيب الدب؟” ابتسمتُ ابتسامة خافتة، ثم سرعان ما قفز سؤال آخر لذهني: “لماذا لم يجند الوالي هذا الرجل الماهر بالرماية في طليعة الجيش من المشاة أو القناصة المهرة؟” خلعت حذائي بالقرب مني وتمددتُ علي الأريكة الضخمة في مواجهة التليفزيون، ثم ما لبثتُ أن انتفضتُ وركضتُ مندفعة نحو المطبخ أصنع فنجانا كبيراً من القهوة يعصمني من غفوةٍ محتملة.

استمرت الفقرة الإعلانية ما يقرب من الساعة إلا الربع، وبدت مدهشة جدًا لي. خاصة حين رقصت فتيات الإعلانات لعُلبة من العصير المحفوظ واصفات إياها ـ وهن يقمن بإغوائها ـ بأنها حبهن الوحيد! هل فاتنى الكثير هنا خلال السنوات الماضية؟!

أعلنت مذيعة الربط البدينة عن بث برنامج (أطباء تحت الأضواء) في الحال، فتنفست الصعداء، ثم اندفعت من السماعات موسيقي الكترونية صاخبة تصاحب لقطات سريعة لغرف عمليات جراحية مثالية، ومُجسّمات بلاستيكية للجهاز الهضمي ومفاصل الجسم المختلفة، وآلات كيّ كهربائية تلاحق جروحًا مفتوحة ودماء تسيل منها، ثم ظهرت مقدمة البرنامج وكان وجهها مليئًا بالأصباغ وبنتوءات ضحكة صامتة، وقدمت أمير ابني لمشاهديها، فلمعت علي وجهه الطفولي ابتسامة خجلي مُجَامِلة.  لكن ذلك الخجل ما لبث أن تحول إلي طلاقة لسان واضحة حين بدأت تنسال أسئلتها علي مسامعه. تحدث عن جراحة مبتكرة لإعادة بناء مثانة بولية جديدة باستخدام قطعة من الأمعاء الغليظة لنفس المريض واستعان ببعض الصور التوضيحية وقلماً ليزريًا صغيرا. عانيتُ صعوبة ما في تركيزي في حديث أمير، لكنه في المجمل بدا مرتباً ومهما. انشغلت بتفحص ربطة عنقه اللامعة وذقنه الحليق. لم يضع المنديل الحريري الأحمر في جيب سترته العلوي رغم لفتي انتباهه لهذه النقطة ليلة أمس. عادت الكاميرا تصافح وجه مقدمة البرنامج المليء بالأصباغ والابتسامة الغريبة وهي تسأله عمن يهديه نجاحه عرفانًا بالجميل الذي يدين له به خلال رحلته منذ البداية وحتى تحققت الآمال العريضة والنجاح المدوي. ابتسم أمير ابتسامته التي أعرفها، فاعتدلتُ في جلستي وطفتْ علي وجهي ابتسامة صافية هرولت بسرعة من أعماقي. أجاب بلا تردد وعيناه تبحثان بودّ عن شيء خلف الكاميرا: “أبي”.

لست أدري ما الذي جعلني احتسي جرعة كبيرة من القهوة الباردة التي التصقت حبيباتها الدقيقة بسقف حلقي ورفضت النزول إلي معدتي. لست أدري ماذا حدث للابتسامة التي طفت علي وجهي. ارتديت حذائي بلا مبرر واضح، واستلقيتُ ممددة علي الأريكة مرة أخري بعد أن حجبتُ صوت التليفزيون تمامًا. كنت قد فقدت طاقتي كلها ولم استطع إسدال الستائر، فاكتفيت بمصالبة ساعدي فوق جفوني المغمضة. لماذا لم يجب تلك المذيعة بـ “أمي وأبي” علي الأقل؟! لماذا؟! 

أغضبتك مرة واحدة يا أمير. في الحقيقة غضبتم مني جميعا. حدث ذلك حين اقترحت عليكم في إحدى جلساتنا العائلية أن ننتقل إلي بيت آخر أكثر أمناً. لم تكونا لتفهما أكثر أمنا هذه في حينها. وأبوكما كان يشعر بالراحة تجاه أي شيء يمنحه هدوء الاعتياد، وكان قد اعتاد تفاصيل شقتنا القديمة بنهاية شارع الهرم حتى قبل زواجنا بعدة سنوات. اعتاد شرفتها العالية ولون المدى أمامها، وأنتما كونتما رابطة كبيرة وجيدة من الأصدقاء والصديقات في الجوار وتعاهدتم جميعًا علي ألا تنفصم عراها مهما حدث، ورغم محاولتي الدائمة احترام مواثيقكما الطفولية وغير الطفولية، لم استطع مقاومة مخاوفي الهستيرية بشأن منزلنا. وأخذت هذه المخاوف تمتص من راحة بالي يومًا بعد يوم. حاولت أن أقنع أباكما بما يملأ عقلي من اعتقاد راسخ بأن الطبقة الأرضية التي تأسس المبني فوقها غير جديرة به! ضحك أبوك كثيراً. لقد قصدتُ أنها تحتوي علي خليط من الطين والرمل يمنحها مظهر القوة والصلابة، لكنها تتحلل وتتفتت بمجرد وصول الماء إليها، فتسبب تشققات بالمباني المقامة فوقها. ودائما ما تستوطن هذه الطبقات المخادعة حواف الصحراء، وهذا ما كنت أخشاه. كنا مُسْتَهدفين. قال والدك إنه اعتاد المكان وحاصره بألفة لا تُنسى، وإنه قد عرض علي جميع ساكني العمارة هذه الفكرة لكنهم قالوا ببساطة: “خليها علي الله.” ولم اقتنع بالطبع. غضبت مني غضبا جماً. رفضت الجلوس إلي مائدة الإفطار معي عدة أيام, ولم تقبل هديتي التي ألححتَ عليّ في شرائها لك من قبل. الرجل الآلي، فضي اللون، الذي ما زال يحتل موقع الصدارة في دولاب ألعابك القديمة. “عنان” انضمت لك في البداية. كنتما تتهامسان سوياً أو مع أبيكما الذي يحاول إنهاء ذلك الهمس الغاضب ببسمته الهادئة التي تلازمه كظلّه. ثم أتتني عنان باكية ونامت في حضني عندما أخبرتها أن أمامنا عامين على الأقل لننتقل إلي بيت المعادي، وأننا سنترك عنواننا الجديد لدي الأصدقاء، أو سنأتي لاصطحابهم بالسيارة ليشاركونا اللعب في حديقة بيتنا الجميلة.

عنيدًا كنت وما زلت. رفضت مجرد الاستمتاع لرأيي؛ ولم ينجح ذلك الكلام الذي هدأت له روح عنان في جعلك تنام في حضني.

في تلك الأيام كنت أقرأ جرائد الصباح والهلع يفترسني خوفًا من مطالعة خبر يعلن عن انفجار إحدى مواسير الصرف الصحي بمنطقة الهرم. كنت أجوب المنطقة سيرًا على قدميَّ لأتأكد من خلوها من الحدائق الكبرى التي يمكن أن تتسرب مياه ريها إلي أساسات بيوتنا!

عكفتُ  على تصميم منزلنا الجديد بروح حماسية التهمت خوفي من المجهول الذي رسم عقلي صورة واضحة له! حاولت أن أنقل لتصميمي ذاك روح شقتنا القديمة وبعض ملامحها المعمارية. أردت أن أبهركم بالاتساع الفسيح والقبة السماوية الصناعية الصغيرة التي ينفذ عبر زجاجها الأبيض ضوء الشمس منذ شروقها وحتى الغروب، النافورة الصغيرة بالبهو الرئيس، المشربيات الخشبية العصرية التي تطل بها حجرة الجلوس على الحديقة البيضاوية الصغيرة التي يمكن أن تترعرع فيها أشجار الكافور والمانجو والجوافة دون خوف!

لم تشهد معنا جميع مراحل ولادة تحفتنا، لأنك كنت لا تزال حانقًا؛ لكننا حين زرنا مقرنا الجديد استعدادًا للسُكني، لمحتُ في عينيك ما تمنيت أن ألمحه (وإن بدا مخففًا)، وما سعيت إليه طوال عام كامل من العمل وهي فترة كان يمكن أن تطول إذا لم نستخدم الخرسانة سابقة التجهيز، ولم نختصر معظم نفقات معيشتنا إلي النصف.

لم تغضب مني لأني لم أستطع ملأ الغرفة التي خصصناها لممارستك الرياضة التي تحبها بالمعدات الرياضية كما وعدتك. كانت مدخراتنا قد انتهت تقريبا وكنت بصدد مناقشة رسالتي للحصول على الدكتوراه في شروخ الانكماش اللدن. لا يمكنك أن تتخيل كم أسعدني ذلك لدرجة أني أقسمت ألا أغضبك أبداً، واكتملت فرحتي حين بدأ (محيي) صديقك الجديد في التردد على منزلنا.

ربما يمكنك الآن فقط يا أمير أن تتفهم سر خوفي حينها، كما أحاول أنا أن أتفهم سر خوفك من حرقان (فُمْ) المعدة الذي ينتابك من حين لآخر خاصة قبيل الامتحانات. كنت خائفة لأني الأعلم بميكانيكا التربة، وأنت خائف لأنك أعلم مني بأعراض وعلامات الجسد، والخوف ضريبة المعرفة، فهلا أجبتني الآن عن هذا السؤال: “هل أغضتبك بعدها؟!”

لن يطاوعني النوم الآن، ولا قيمة تُرجَى للراحة التي تمنحها الأريكة الوثيرة لجسدي الذي فقد نصف روحه على الأقل، فثقلت أعضائي، فنهضت. خلعت حذائي ثانية. لم استمتع كعادتي بلمس قدمي للسيراميك البارد من خلال جوربيّ “الفوال” الناعمين الذين يجعلان من مجرد المشي على الأرض مغامرة صغيرة ولذيذة. كنت أتجه نحو غرفتك. فتحت الباب الزجاجي الكبير. داعبت الشمس عيني مداعبة ثقيلة، فأغلقت الستائر الحريرية التي طبعتها (عنان) برسوم تراثية، ثم جلست على سريرك الواسع أحدق فيما حولي. جهاز الكمبيوترالذي تركت شاشته تولد كل تلك الأشكال الهندسية اللانهائية. السجادة الصوفية ذات الألوان الغامقة الدافئة. كوب اللبن الكبير الذي لم تكمله أبدًا. أدواتك الرياضية الصغيرة. كتبك ومجلاتك المبعثرة. دولابك المفتوح على مصراعيه الذي يختبئ داخل الجدار. ألوان ستراتك وأحذيتك المتدرجة في ذوق واضح. حلوى الشكولاته التي تحبها تملأ طبقا من الكريستال بجانب السرير. التليفزيون الضخم. الاستريو ذي الباب المفتوح. الأزيز الخافت لجهاز تكييف الهواء. الفونوغراف القديم وأسطوانات متكسرة بجانبه. نور مصباح حمامك المضاء يرسم بقعة من الضوء أمامي. قطرات ماء تتجمع في الحوض الذي انحشرت في حلقة السدادة المطاطية. الماء يفيض… أنا أمنح كل هذا الترف!

هل أخبرتك من قبل بشئ عن البداية؟

هل تعرف الإردواز؟ ذلك الحجز الصلصالي بلونه الذي يضرب إلي الزرقة أو الخضرة المشوبتيْن بدكنة ما، ويتخذ منه ألواح للكتابة كما تصنع منه أحياناً أنابيب الماء. أنا أعتبر الإردواز حجراً قيّمًا. ليس لما يمكن أن تبثه فينا قيمته الوظيفية كلوح كتابة، وإنما لأصله الصلصالي تحديداً. الصلصال! الطين الذي أُخضع وأُخضع وضُغط ثم تحرر، فكان الإردواز.. هذا أنا.. جهاد الحجر الطيني ليصبح إردوازا.. والطين لا يرمز فقط إلي نشأتي الريفية الفقيرة في إحدى القرى الصغيرة بإحدى محافظات الدلتا، لكن الطين.. الطين أن تكون منخفضاً.. وضيعًا.. في الأرض. هل تعرف ماذا يعني أن يكون المرء فقيراً ومريضًا وأقل قليلاً من نصف جاهل؟ لن أدعك تفكر طويلاً.. ذلك يعني أن يكون (الجنس) متعته الوحيدة في حياته تلك. المتعة الأولية سهلة المنال الرخيصة القاتلة. هل تفهمني يا أمير؟ أولئك الأوليون لم يعرفوا أبدًا أن المدرسة قد علمت البنت الصغيرة أن تجرب حواسها الخمس وتصدقها. لم يعرفوا أنها تضيف إلي قاموسي اليومي لفظة “مقزز”. لقد كان على أن أبصق على هذا كله بطريقتي، وقد فعلت. لم أنس أبداً أول لقاء بيننا أنا وأبيك، لقد قلت له: “أريد بيتا نظيفاً” وقد فهمني تمامًا.

لم أنس مطلقا أول مرة وطأت فيها قدماي أسفلت القاهرة. سميتها “جائزة الصبر”، أحببتها منذ أن تنفست غبار جوها الدقيق الذي يصبغ جلود الوجوه هنا بهذه الصبغة الترابية. ملأت بها رئتيّ الشابتين، وذلك “الركام الرفيع” الذي يكلل طيات الملابس. كنت بصحبة أخي “محمود” الذي كان عاشقًا مخلصًا للقاهرة هو الآخر. جابها على قبقاب منذ أن كان في العاشرة من عمره. أقنع محمود الأهل بأن يتركوني فقط أتعلم! وتكفل بنفقاتي الدراسية التي استطاع توفيرها من عائد عربة فول وفلافل تحفظ كل شبر من شوارع وأزقة الحسين عن ظهر قلب. حين ساعدني في إنهاء إجراءات التحاقي بكلية الهندسة جامعة القاهرة ومدينة الطالبات، كنت ألمح في عينيه بسمة شكر راضية هي جائزته دومًا عن كل ما قدمه لي من دعم!

عشقت القاهرة العسيرة، ها أنذا سأثرثر!، ومبني وزارة الخارجية بشارع كورنيش النيل، ومبني بنك جاردن سيتي ذا الواجهات الزجاجية البلجيكية المطمعة بالألومونيوم اللامع. أبراج المعادي. وأشجار الزمالك العتيقة، مبني الإذاعة والتليفزيون، النيل… النيل وأضواء الليل المتماوجة على صفحة وجهه الباسم تستطيل وتتعملق وتدب فيها روحها التي استردتها من قمر الليل الصافي، ثم تتحول في لحظات إلي شياطين من ألسنة اللهب البارد تمارس طقسها اليومي المجنون في ليل النيل. هذه هي قاهرتي التي لا أري فيها مطلقاً تلك الأعشاش التي لا يزيد ارتفاعها عن المتر الواحد وتسكنها عائلات.. عائلات بأكملها خلف قصر الزغفران ومباني جامعة عين شمس وكلية الطب ومستشفياتها، وفي المنطقة المحصورة بين شارع رمسيس وشارع أحمد لطفي السيد المتفرع منه، وستين ألفًا من جامعي ومدوري القمامة بمنشأة ناصر وطره وعزبة النخل.. الحقيقة أني رأيتها ولكني بصقت عليها بطريقتي!

لا تخف يا أمير، فلن أحقد على أبيك لأسباب كثيرة. أتعلم؟ أبوك كان من أكثر الرجال الذين قابلتهم في حياتي وسامة. ستضحك. كلانا يعلم أن جملة كهذه لن تطريه، وباستثناء وسامته ومصداقيته متعددة الأوجه، كان كل شئ فيه خافتًا وبعيدًا عن تنميق البروباجاندا، وأقصد بكل شئ هنا تلك الصفات التي تجذب النساء للرجال كالريادة والطموح والنشاط والمجاهرة بالمصداقية والتميز، وكم كان هذا مريحًا لامرأة مثلي قررت أن تُنحّي جانبًا كل الأحابيل التي صاغتها النساء القديمات (كالغيرة والشك والشكوى المتكررة من العسر المادي، والمن بالعطاء) وتنطلق. علاقة مميزة.. أنا أحب أباك حقًا. لم أحب أو أتمنى رجلا غيره، ولم يكن ذلك ممكنًا، فحب سواه كان بالنسبة لي مثل أن تغرى شخصًا أقرع بنوع جديد من الجيل أو كريم فرد الشعر. كان في جيناتي ما يجعلني في منتهي الإخلاص له.

هل درأت عن نفسي الشبهات؟ عدت للبحث عن حذائي. لن يكون من المناسب مغادرة البيت الآن ؛ لكني كنت بحاجة لاستنشاق هواء نقي. اتجهت نحو الحديقة التي لم أمارس الجلوس فيها منذ زمن طويل. أبهجتني قليلاً وأقل من كل مرة فسيفساء السيراميك الملون الذي عكفت عليه عنان عدة أشهر لتغطي كل هذه المساحة من غرفة المعيشة، حاصرتني بالحنين إليها. كم أوحشتني عنان! تلك الإنسانة المترعة بالطيبة، التي لا تبخل بدموعها من أجل أحد حتى لو كان ممثلا مجيدًا في فيلم ميلودرامي! علمّها الفن التشكيلي الصبر والإخلاص، وهي تمارسهما مع الجميع بلا استثناء. أنت تذكر ذلك الاكتئاب الشديد الذي أصابني عندما قررت وزوجها السفر للولايات المتحدة. قالت إنها ستدرس الفن بتوسع وإنها تعشق التجربة، وعلى كل حال لم يكن من المعقول أن يرفض زوجها هذه الفرصة للترقي في عمله. قبلت رأسي وتركت لي غصة حلق عميقة تساورني بمجرد مرور طيفها على ذهني أو دخولي المنزل في المساءات. لم أندم على امتثالي لقرارها لأني امتثلت للشئ الذي منحها كل تلك الفرحة. فقط أحن لصوتها وحكاياتها وطريقة جلستها بجانبي على الأريكة وحفيدي الجميل الذي لا تحمل ذاكرتي له غير صور ثنائية الأبعاد تصلني بالبريد. أحتاجك الآن يا عنان في التوّ وبشدة. على فكرة أنا لا استدر تعاطفك!

لم تكن بسيطًا وشفافًا كعنان. هذا لا يعني أنك لم تكن طيبًا أو ابنًا مثاليا. إطلاقا. كنت عميقا. أقصد مولعا بلباب الأشياء والتساؤل بصددها. قمت بفك وتركيب معظم ألعابك القديمة. حتى ساعة الحائط التي وضعناها في مواجهة مدخل شقة الهرم لم تنج من نزعاتك التفكيكية التركيبية. متطرف أنت في الغضب. قوى في التسامح. بخيل في الحب. أظنك أصبحت مثلي في شبابي. ربما تتعجب، حكيت لك من قبل كيف أني تحركت تجاه جميع الناس ببطء وحذر. كنت “أجسهم” أولاً. تمامًا كما كنت أفعل في عملي، فقبل البدء في تصميم أو تنفيذ أية منشأة، لابد لنا من معرفة طبقات التربة التي سيقام عليها، وسبيلنا لذلك هو استخدام جسة رئيسة وجسات فرعية. المهم أني كنت أقوم بذلك لأني لم أملك يوما فائضا من الوقت أضيعه مع من لم تكن لترضيني نتائج “جسي” لهم. كنت افتعل المشكلات لأدرس كيف يحلون عقداتها، وأجرب الألغاز والأحاجي مع الجميع، وأتعجل إجابات الآخرين عن أسئلتي التي لم أنطق بها، ولا أترك شيئا ـ تقريبًا ـ لمصادفات الطبيعة ورحى الأيام؛ ولم أهمس لنفسي يوما: “ستتكفل الشمس غدًا بما أفسدته الأيادي اليوم!” اعتقد أنك تفعل مثلى لكن وعيك لم يتدخل بعد ليكشف لك أبعاد هذه الممارسة. أرجو ألا تتهم الهندسة في قرارة نفسك بإفساد علاقاتي الإنسانية. فيوما ما وهو قريب جدًا ـ على ما أظن ـ ستنضج كاريزما المميزين فيك، وستعرف أنك عندما تقترب من كائن بشرى حي، تقترب للغاية، تكون أعضاؤك كلها على شفا الإصابة في مقتل.

يا إلهي.. هذا أنا، ولكني رغم كل شئ لم أفعل ذلك معك أو مع عنان. لكنك يا أمير هل.. هل اختبرتني أنت ولم أنجح؟ أقصد لم أكن عند حسن ظنك المفترض بي، هل فعلت هذا مع أبيك ونجح.

لست أخجل من ذكائك الذي سيكشف غيرتي المفاجئة هذه يا طفلي المدلل ويا حبيبي ويا مصدر كل فخر لي في الحياة. أنت يا أمير الذي لا تميل إلي تجريد الحقائق، ويستوعب عقلك التفاصيل كلها ولا يتيه في أزقتها. نعم كنت مميزًا دومًا تخطو نحو التفوق بثبات وسلاسة تثيران الإعجاب والحسد. وهذا حفر لك في قلبي مكانًا مميزًا للغاية كانت عنان تنظر له أحيانًا بعين الحسد حتى فاجأتني بقرار دراستك للطب البشرى. كنت اعتقد أنك ستكمل ما بدأته أنا. كنا حينها أنا وخمسة من زملائي قد توصلنا لحل مشكلة إنشاء أرصفة ميناء الدخيلة الجديد. كنت معي في كل خطوة. أقمت في الموقع وحرصت على فهم كل شئ. التقطت كاميرتك صورًا كثيرة لجميع مراحل إنشاء الرصيف باستخدام القيسونات العائمة· التي تم صبها على حوض عائم تم سحبه إلي محور الرصيف وإنزال كل قيسون في مكانه بالضبط. ثم تم صب كمرة الرصيف الأفقية التي ربطت كل تلك القيسونات، وهكذا تكون أول رصيف من نوعه في العالم بطول670 م. هل تذكر كل هذا أم تراك نسيت؟ كنت فرحًا مثلنا جميعًا، فجعلت العمال يلتقطون لك العديد من الصور مع المهندس محمد رجاء حسن والمهندس محمد رضا ربيع، وخمن ماذا؟ لقد وجدت هذه الصور في ركن مهجور بدولابي بالأمس. كنت فخورا بي وكان ذلك الفخر المرتسم في عينيك هو ما جعلني استشعر بشكل حقيقي معني هذه الجملة “أول رصيف من نوعه في العالم” لا فلاشات كاميرات الصحافة ولا الندوات أو المؤتمرات أو الملف الخاص الرائع ـ عما قمنا به ـ الذي أعدته مجلة المهندسين أو اللقاءات الصحيفة أو إطراء الكبار، ونشرة الجمعية العلمية العربية للنقل…. فقط الفخر المرتسم في عينيك اللامعتين بإمارات الذكاء يا حبيبي! هل تذكر يا أمير أنك من طلب أن نزور الرصيف بعد عدة أيام من افتتاحه لتلتقط عدسة كاميرتك عدة صور للعمال الذين كانوا يفرغون الحديد الإسفنجي الوارد من البرازيل لأجل مصنع حديد التسليح المقام على بعد 74 مترًا من الميناء. كل ذلك أشعرني بجوهر ما يربطك بي وبحبك لعملي الذي اعتقدت أنك قد تحب امتهانه يوما. فإذا بك تفجر تلك المفاجأة. شعرت بشئ من الخذلان أجّل مباركتي لاختيارك. لقد كنت أمهد لك الطريق إلي نجاحات هندسية عملية، ولعلني لا أبالغ إذا قلت إنني أضمن لك مقعد الأستاذية في الجامعة خلفاً لي، وكذا حصتي في مكتبنا الهندسي، والكثير من السمعة الطيبة في سوق العمل، وخبرة اقتحام كل تلك المسالك التي داستها خطواتي الحذرة الواجفة فيما مضي. فأحول ذلك الحذر ـ الواجف الذي يمكن أن يعترى من هو في نفس مكانك ولا يملك نفس ظروفك ـ  إلي ثبات وثقة بالنفس وسبق فريد.

وقتها لم استطع الإسرار بما يدور في ذهني لوالدك الذي أصبح مرهف الحساسية بشكل بشع بعد أن أحيل للتقاعد. ثم ما لبثت أن باركت اختيارك، ربما بعد أن فعل الجميع لكنني في النهاية باركته ودون أن أجادلك فيما بدالي أنك تفهمة جيدا. لقد جادلت عقلي أولاً وقذف بي للمستقبل القريب، ووجدتني كالعادة فخورة بك ولست قلقة بشأنك. الأطباء يا أمير لا يكفرون بمهنتهم.. أقصد بجوهرها، وليس بما يجنونه من نقود من جراء احترافها، ولا تباغتهم أسئلة تتعلق بجدوى ما يفعلون في الحياة. لديهم دائمًا ما هو أقوى وأعظم من العقل الذي يرجمنا كثيرًا بما لا نتوقعه ولا نريد أن نكتشفه. لديهم لب الاتصال “الإنساني”.. هي حاسة يملكها كل الناس حتى أنا والأطفال المونجول وضعاف الأذهان.. يملكها كل البشر.. “الإنساني”.. انظر مليا لهذه الكلمة.. انظر كيف يمنحها كل هذا التجريد كل هذا العمق، وكما قلت لك آنفا: “العمق يلائمك” ويجب أن تقتنع أن “الإنسانى” يلائمني أيضاً! لا يمكن أن تتخيل كم كان الألم يعصرني حين أسأل نفسي: “أيهما أجمل: المباني ذات الواجهات الزجاجية أم ذات الواجهات التقليدية التي تمنح المهندس المعماري فرصته الكاملة في ابتكار ما يعكس فكره الخاص وذوقه وشخصيته الفريدة؟ ماذا عن القيمة الوظيفية لأشكال الشرفات المختلفة؟ وهل يمثل فكر المعماري المنمق وشخصيته الباحثة عن التفرد والأناقة شيئاً لشعب عزبة القرود؟ وهل ستمثل هذى الإجابات لهذى الأسئلة شيئاً لشعب عرب المحمدي؟ اعتقد يا أمير أن كل من يهتمون بإنتاج الجمال موبوؤن بتلك اللعنة، لأن الجمال في عرفنا ترف لا يتطلعون إليه، وأنت نبذت لعنة الواقع لأنك قررت امتهان انتاج مادة الحياة الملموسة، أما أنا وغيري، فسنشقى بروح الحياة المحسوسة التي لا يملكها كل البشر.

حزينة؟

ربما أكون حزينة….بعض الشئ.

نادمة؟

لا…لست نادمة على الإطلاق.

على الإطلاق؟

على الإطلاق بكل تأكيد.

أرى نفسي في موقع الصدارة المضئ في كل مشاهد حياتي الماضية. هل يندم عاقل على هذا؟!

كل مشاهد حياتك… كلها؟

نعم. كلها. باشتثناء مشهد واحد، مشهد قصير سأقوم بمحوه من الذاكرة الحقيرة الصغيرة لشريط الفيديو. فأنا أشجع في التعامل مع الفيديو الآن؛ وسأمحوه من ذاكرتي الحيوية أيضًا….. أين حذائي؟


  • · هي أساسات عميقة ذات مقاسات كبيرة، اسطوانية أو صندوقية الشكل وحوائطها من الخرسانة المسلحة وقد تكون من الصلب أو الحديد الزهر وتستخدم عادة وسط المسطحات المائية أو تحت منسوب المياه الجوفية لنقل الأحمال الكبيرة إلي التربة تحت الأساس.
  • التحساس الذاتي هو المزاج الخاص.. الاستعداد الرهيف للألم أو اللذة أو لا شيء.. لا أثر على الإطلاق. ردة الفعل الفردية تجاه حالة مشتركة أو لا ردة  فعل على الإطلاق.. إنه حالة عقلية خاصة ومميزة لكل فرد على حدة ربما يصحبها ابتداع كلمات جديدة وسلوكيات متفرّدة.

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

خلخال