وفي صفحته الأخيرة ستجد الإهداء التالي، والموقع في «جوتينجا» بتاريخ 21 مايو 1967: «في ذكرى ثلاثة أعوام دراسية، استمتعت فيها في بيتك وتحت رعايتك الكريمة. ألف شكر. عزيزتك جيرترود بود». وبينما تتأمل هذا الإهداء، ستفكر بتروٍّ في أشياء حكتها لك أمك عن الفترة التي درستْ فيها في «جوتينجا»، أشياء في أغلبها باهتة أو كانت حكايات موجهة فقط لنقل فضائل العمل الجاد والالتزام، وربما لم تكن في الواقع إلا حكايات قرأتها أمك باستمرار في مجلات متخصصة في تربية الأطفال، ربما على أمل أن تصنع منك صورة طبق الأصل من الأطفال الذين كانت صورهم تظهر هناك، وأنت ستتذكر كم كنت مختلفاً عنهم: كنت خمرياً مثل أبيك، تلميذاً غير بارز في الدراسة، بهيئة طفل مريض حتى في الإجازات، عندما كنتم تذهبون لبحر الشمال ويجبرونك على البقاء تحت الشمس وشرب الـ «روبهورست»، عصير الفواكه المفضل لدى الأمهات الألمانيات لأطفالهن، حتى أنك لم تعد تحتمل واشتقت للغيمات السوداء الملوثة بسواد مناجم الفحم التي، في ذاك الحين، كانت تقتل أهل المدينة التي كنت تعيش فيها والذين قتلهم بعد ذلك أيضاً اليأس والبطالة حين أُغلِقت المناجم وباتت جلزنكيرشن- هكذا كانت تُسمى مدينتك- محض أرض مستوية.
ربما اعتقدت أمك بالفعل أن الأفضل لك أن تكون ملتزماً وأن تعمل بجدية لأن أغلب الناس كانوا يعتقدون بهذه الأشياء في تلك الفترة، لكن ربما أيضاً لم تكن تعتقد بذلك. ففي فترة سابقة، عندما كانت في المستشفى، مسكت أمك يدك وتأثرت وهي تتذكر كم كنت متفوقاً في سنواتك الأخيرة في المدرسة، غير أنك لم تستطع الكف عن التفكير، فيما كانت أمك تموت أمام عينيك في تلك اللحظة، وتذوب كما السكر في شاي فريسيا الشرقية التي كانت تبهرك، في أنك كنت تكره المدرسة. ذات مرة أخبرتها بذلك عندما كنت طفلاً: «ألا تعتقدين أنه كان يجب عمل مدرسة تناسب أمثالي؟» «من أمثالك؟» سألت هي، وأنت أجبتها: «اليائسون، الضجرون، المرضى، أصحاب اللا شيء، هؤلاء الذين لا أحد يفهمهم». نظرت لك أمك بتأمل للحظة ثم استدارت وبدأت في البكاء. لا زلت تتذكرها، متكئة على الحوض وترتعش، كذلك تتذكر إخفاقك وألمك لأن أمك لم تكن تقبل أن تشعر ببساطة بأنك مختلف عن الآخرين، وأن هذه القناعة كانت الشيء الوحيد الذي تمتلكه أنت، الشيء الوحيد الذي تتمسك به. حينها شعرتَ بأن في بكائها شيئاً هكذا مثل التسلط، تسلط يرفعها إلى نقطة قد يلاحظها شخص لا يتمتع بذكائها، لكنه يلتفت لفشلها في تحويلك لشخص «عادي» رغم مجهودها، تحويلك لشخص لا يشعر بأنه في مكانه بجوار البائسين، ليقودها إلى انتصاره، إذ أن ذلك التسلط – الذي لم يكن بوسعك مقاومته لأن أمك كانت أمك وأنت ابنها، الأعزل والمضحك، تمضغ التوست بزبدة البندق، وتصنع مركباً من الورق في عاصفة تعلم وتعرف أنها ستستمر طوال الحياة وخلالها لن يكون لديك إلا أمك لترشدك – كان يكمن في عدم التحدث مرة أخرى في هذا الموضوع وأن تفعل كل ما في يدك حتى لا تكون من بين اليائسين، والضجرين، والمرضى، وأصحاب اللاشيء، وهؤلاء الذين لا يفهمهم أحد. ستفكر في أن هذا التسلط كان يبتغي الالتزام والعمل الجاد، وأنك تصنعت تقديره في البداية ثم بدأت في تقديره بالفعل، عابراً الممر الذي صنعته المدرسات لهؤلاء الذين كانوا الأكثر ذكاء، ممر تدخلون منه كأطفال – هذه حقيقة، بمشاعر خاصة وشخصية تتحرك بداخلكم ونادراً ما تفهمونها – وتخرجون منه بالغين خائفين، تشترون ما يأمرونكم به وتعملون بجدية لتستطيعوا شراءه وتطيعون حتى تنالوا وظيفة، يملأكم الخوف من الفشل دون أن تدركوا أنكم بالفعل فشلتم، أنكم لستم إلا رقماً في الإحصائية. كثيرون منكم يزرعون أشجاراً وكل شجرة مزروعة تمنع عنكم رؤية الغاية التي يدمرها الحريق، وكل الأشجار الأخرى تجتثها العاصفة من جذورها، وتسمون هذا بالحياة.
ربما كانت أمك واحدة منكم. ستظهر في الألبوم أكثر شباباً بكثير مما تتذكرها، ترتدي معطفاً أسود ضيقاً، تقف أمام صور راقصات باليه معلقة بدبابيس في حائط أو ممسكة ببغاء دمية في وضع طفولي. تحت الصورة ستقرأ الأسطورة: «سانمتر، ببغائي». ستبقى لفترة طويلة تقلّب الاسم في ذهنك، محاولاً العثور على معنى ببعثرة الحروف وإعادة ترتيبها، مفترضاً أنه مجرد شفرة، ثم ستقلب الصفحة وتنسى الأمر. ستظهر أمك في الصورة التالية جالسة إلى منضدة عليها عدة كتب، وكرة أرضية بحجم قبضة اليد، وشمعة وعدة صور قد تكون بوستالات؛ ستكون أمك بظهرها للكاميرا تكتب خطاباً تظهر رأسه المفترض في أسفل الصورة: «عزيزي مانفريد بلوك». لن يكون مانفريد اسم أبيك. في تلك الصورة، وصور أخرى، ستتصنع أمك تجاهل من ينظرون إليها، وفي هذه الإيماءة ستلاحظ حميمية تثير لديك سؤالاً عمن التقطها لها وما علاقته بأمك. في الصورة التالية، وكأنها تجيب عن سؤالك حول من يصوّرها، ستمسك في يديها كاميرا وستبدو تتأملها كأنها تجهل آلية عملها؛ في تلك الإيماءة ستجد شيئاً غريباً: أمك وهي تصور نفسها تتصنع أنها تجهل كل شيء حول التصوير. هذه الإيماءة الغريبة ستتضح أكثر في صورة أخرى، ستظهر فيها أمك وهي تلتقط صورة للمصور، لكن بكاميرا أخرى غير التي ظهرت في الصورة السابقة، كأنها بدلت كاميرا بكاميرا. في الصور التالية، حيث تظهر أمك وهي تضبط الراديو أو تقرأ كتاباً وكأنها لا تعرف أنه يصورها، ستلاحظ أن المصور يتوقف عند تفاصيل جسدها – الرقبة، جانب النصف الأعلى، الساقان الطويلتان والمؤخرة – لكن في صور أخرى ستبرز أمك بنفسها هذه التفاصيل التي تعكس الحميمية بينها وبين المصور، تبتسم دائماً للكاميرا، تختار وضعاً جانبياً أفضل يبين جسدها الشاب، تضع ساقاً على ساق مستوحية أفلام زمنها، ورغم أنها تبدو بريئة إلا أنها لم تكن كذلك، إذ يسمح هذا الوضع برفع الجونلة وكشف أكثر من المكشوف في وضع آخر معتاد. كانت أمك تغري المصور طول المسلسل، قد يبدو ذلك واضحاً لك منذ اللحظة الأولى، لكن، ومع ذلك، تتدفق الأسئلة التي لن تتجرأ حتى على الاعتراف بها لنفسك لأنك تخيلت دائماً أن خطوبة أبويك كانت مثل سهم انطلق في قلب الزواج، المستقر والتعيس. من التقط الصور؟ من يكون هذا الرجل الذي أهدته أمك الألبوم ولماذا لم تسلمه له؟ من يكون مانفريد بلوك؟
بعد فترة من الاكتشاف، ستعثر على خطابين مدسوسين في وسط كتاب: الأول موجه إلى أبيك ومؤرخ بالرابع عشر من أكتوبر 1966 وسيكون جواباً غرامياً؛ والثاني سيكون موجهاً للغامض مانفريد بلوك ومؤرخاً بالسابع عشر من يناير 1967 وسيكون جواباً غرامياً. هذه المرة قد تحتفظ أمك برد مانفريد بلوك، وكذلك بمظروف الخطاب المرسل في التاسع عشر من يناير من نفس العام ببريمن. ستكون نبرة الحب أكثر تأكيداً مما يمكن انتظاره في ظروف كهذه وفي تلك الفترة. يُقال إن اللغة الألمانية لغة غريبة على الأدب الإيروتيكي لأن لا شيء غرامياً يمكن أن يقال بهذه اللغة إلا ويرن صدى بورنوغرافي؛ في هذه الحالة، يمكنك أن تلقي ذنب نبرة الخطاب على تقصيرات اللغة المفترضة. لم يكن ممكناً أن تصدق، قبل العثور على الألبوم، أن يقول شخص هذه العبارات لأمك وأمك تحتفي بها بينما، في ذات الوقت، تستعد للزفاف على أبيك؛ في بساطته الخليعة، سيفتح الكشف ثقباً في أرض ماضيك ومن هذا الثقب ستتهاوى بلا نجاة أنت وكل قناعاتك وكل ما فعلته مع شبابك. وذات ليلة، للمرة الألف، ستتأمل الألبوم وستصل للخلاصة التالية: الألبوم يحتوي على أربع وأربعين صورة؛ في ثمان عشرة منها تظهر أمك في حديقة، مسجل تحت إحدى الصور أنها تسمى «شيلرفيسه»؛ وفي ثلاث عشرة تظهر داخل غرفتها؛ وثمة عشر تظهر صورة لشابة جميلة جداً بجانب خالك، الذي لم تعرفه، مسجل تحتها عبارة: «البروفيسورة الشابة فراوك في يومنا الأخير بـ جوتينجا». وفي الصورة الأخيرة ستظهر أمك أمام بيت، والكتابة تقول: «عشت هنا ست تيرمات دراسية». هكذا تتحصّل على شيء: وستقرر السفر إلى جوتينجا لتبحث عن هذا البيت. وبينما تسافر في قطار من جليزنكيرشين لجوتينجا، ستفكر في أن لكل شيء تفسيراً منطقياً يبرهن على أن تسلط أمك وطريقتها في تربيتك تبطن حماقةً وجهلاً أكثر منها تعسفاً. في جوتينجا، ستعرض الصورة على مكتب السياحة الواقع في مجلس المدينة. سيدة بلا ذراع وتعمل هناك- المعلومة الأخيرة، بالطبع، أقل احتمالية من الأولى وأتمنى أن تأخذ الموضوع على أنه تخيل خاص- ستتأملها لبرهة وستقول إنها تعتقد أنها عبرت من هناك ذات مرة، رغم أنها لا تتذكر في أي شارع يقع البيت؛ ستقول لك إنه بالتأكيد في أوستفيرتل، الحي الواقع في شرق المدينة؛ ستنظر إليك لبرهة طويلة منتظرة منك أن تقول شيئاً، غير أنك لن تعرف ماذا تقول؛ لتشكرها على المعلومة وتعتذر بأي طريقة على الوقت الذي سرقته منها، ستقرر شراء شيء منها لكنك لن تعرف ماذا، إذ أن الأشياء المعروضة للبيع في المكتب كلها قبيحة على نحو غير معهود. في النهاية تقرر شراء فنجان يحمل اسم المدينة؛ ستسحبه المرأة بيد وتغلفه في ورق هدايا بسرعة ومهارة تبدو لك مدهشة في شخص بظروفها. ستسألك المرأة إن كنت تريد شيئاً آخر. ستقول إنك تريد خريطة للمدينة. ستسحبها المرأة من درج، وتفردها على المنضدة وتلفها بيدها، ثم تدخلها في كيس بجوار الفنجان بينما تمد لها يدك بالنقود. ستعيد إليك شيئاً من المال، لن تعده، وتشكرها.
«لا شكر على واجب|، ستجيبك؛ سيبدو لك رداً ألمانياً جداً حد أنك لن تعرف ماذا تقول، فتهرول من المكتب. في الشارع ستفتح الخريطة، ستنظر فيها برهة وتبدأ في السير باتجاه الشرق دون أن تهتم كثيراً بأن لافتات واجهات البيوت تحتفي بالشخصيات الشهيرة التي سكنتها. سيوقفك شخص ربما ليسألك عن عنوان، لكنك ستقول إنك لست من هنا. ستواصل السير، وستترك وراءك مسرح المدينة الرئيسي لتصل إلى أوستفيرتل، حيث ستجد البيت. لن تستغرق وقتاً طويلاً- رغم أنك ستتوقف بلا جدوى أمام عدة منازل ستبدو لك أنها منازل الصورة، لكنها ليست هي- ولن يكون وقتاً قليلاً كذلك، إنه الوقت اللازم فحسب لبداية الخوف من ألا تجد البيت فيروح بحثك سدى؛ ولمّا تجده في النهاية، ستشعر براحة وفرح وستدق الجرس بشيء من التفاؤل. أعتقد أن من سيفتح لك الباب سيكون امرأة شابة ذات مظهر راقٍ. ستنظر لك للحظة، ثم ستقدم لها نفسك وتخبرها أنك تبحث عن سيد كان يسكن هنا في النصف الثاني من عقد الستينات وهي ستنظر لك مرة أخرى وستقول لك إنهم- ودون أن تحدد من هم سيمكنك تخيل عروسين شابين ربما مع أطفال، كلاهما يعمل بالجامعة، زواج يشبه زواج المجلات التي كانت أمك تقرأها- قد اشتروا البيت منذ خمس أو ست أو ربما سبع سنوات وأنهما لم يتعرفا إلا على ابنة شقيقة المالك القديم، وهي سيدة لقبها براب وتعيش في هامبورج وكانت المكلفة بتصفية كل حساباته عقب موته. وأنت ستفكر للحظة أن البحث انتهى، وأن الآثار التي اقتفيتها ستنتهي هنا وأنها كانت فكرة حمقاء، لكن السيدة ستسألك إن كان لديك علاقة بالسيد براب، المالك القديم، وأنت ستجيبها بـ «لا»، إلا أن أمك عاشت هنا في الفترة من 64 إلى 67 وأنها ماتت وأنك عثرت على هذا الألبوم- وستقدمه لها، وستتصفحه هي، في البداية، بلا مبالاة ثم باهتمام فائق- وأنك كنت ترغب في معرفة من هو السيد براب وما علاقته الحقيقية بأمك، وستميل المرأة برأسها ناحية اليمين للحظة، كأن الأفكار في رأسها ثقيلة جداً على رقبتها، بإيماءة– لكنك لن تعرف ذلك- ستبدو طبيعية فيها، وبعد لحظة ستقول لك إن ابنة شقيقة براب قد حكت لها أن السيد براب كان بروفيسوراً في الجامعة وأنه خصص غرفتين من بيته خلال فترة طويلة ما بين 1947 و1990 لإقامة الطلبة، وأغلبهم طالبات صغيرات، وكان عادة يحصّل منهن إيجاراً زهيداً. وبحسب ابنة شقيقته، التي لا بد تكلمت معها ذات مرة، أنه أثناء تصفية المسائل الأخيرة المتعلقة والمرتبطة بإيجار البيت، اعتبروا المبلغ الشهري الزهيد الواجب على الفتيات دفعه كان محض رشوة، رغم أن السيد براب كان يبرره بأنه لا يؤجر الغرف من أجل الكسب بل بشكل تعاوني. ستسلمك المرأة الألبوم وستقول لك إن ابنة شقيقة السيد براب سردت لها أنهم عند تصفية حاجاته عثرت على مئات الصور التي احتفظ بها بجانب ألبومات أرسلتها له بعض المستأجرات، وأنه في صور السيد براب تظهر عشرات الصبايا اللاتي صوّرهن خلال عقود، وأحياناً على غفلة منهن، رغم أن الصبايا في أحيان أخرى كن يتواطأن في اللعبة عن تعمد باتخاذ أوضاع جريئة كلما توطدت العلاقة مع البروفيسور براب، كما هو مسجّل في تسلسل الصور. ستقول لك إن ابنة شقيقة السيد براب ترددت كثيراً في ماذا تفعل بهذه الصور وإنها بعد موت السيد براب قد أرسلت الألبومات إلى النسوة اللاتي ظهرت أسماؤهن برفقة الصور، ربما للا مبالاتها أو لشعور خفي بالواجب، وإنها أحرقت بقية الصور؛ كانت الصور، ستقول المرأة، مكررةً ما قالته لها شقيقة السيد براب، بورنوغرافية في بعض الحالات، وتثير أحزان ذكراها عن خالها كما أنها ستسبب الأذى لتلك الصبايا اللاتي لا بد أنهن صرن أمهات وربما جدات، ومن أجل ذلك أحرقتها ابنة شقيقة السيد براب. ستقول لك المرأة إنها لا تستطيع أن تقول أكثر من ذلك. وأنت ستبقى مأخوذاً لبرهة تراقب حديقة مدخل البيت؛ لو أنك بذلت جهداً، ستنتبه لشجرة التفاح التي تحتها التقطت أمك صورها، وهي تدخن، غير أنك لن تفعل ذلك لأن رأسك يغلي بخيالات عن صور لن تتمكن من مشاهدتها بعد أن سحقتها ابنة شقيقة السيد براب، صور تقوم فيها أمك بأداءات لم ترتب أنت أبداً في أن تؤديها، أداءات خليعة تقصف بكل ما كنت تعتقد فيه فبات شيئاً آخر تماماً. ستخرج من الحديقة بعد أن تودع السيدة، التي قد نستك كلية من قبل حتى أن تعبر الباب القصير الذي منه خرجت أمك مرات كثيرة، في حياة سابقة كنت تجهلها خلال سنوات وها أنت الآن، دون أن تعرف تلك الحياة كذلك، قد يمكنك تخيلها؛ وقد يمكن نشرها في مجلة.
ستصعد عدة أمتار أخرى وستجلس في حديقة عامة اعتادت أمك على الجلوس فيها والقراءة قبل الامتحانات، بحسب عبارة مدوّنة على طرف إحدى صور الألبوم. زوجان يتنزهان مع طفلهما بينما رجل ناضج يركض خلف كلب. ربما تفتح الألبوم مرة أخرى وتصادف صورة لم تكن قد شاهدتها من قبل. في الصورة قد تكون أمك بظهرها، تتأمل منظراً طبيعياً من فوق مرتفع بنفس هذه الحديقة التي تجد نفسك فيها الآن، وسيكون ظهرها محنياً قليلاً للأمام كأن المنظر يشدها، كأن المنظر هو المستقبل وأوشك أن يلتهمها فيما هي تعرف ذلك وتلقي بنفسها اتجاهه. حينئذ ستتذكرها كما رأيتها ذات مرة لمّا كنت طفلاً، خلال عاصفة ثلجية هبت بينما كنتما في طريقكما للمدرسة؛ ستتذكر الثلج المتساقط فوقكما بكثافة ككتلة من الإسمنت، دفعات الثلج تنفضك فوق ساقيك كأنك ثمل، وستتذكر في لحظة ما، عند ملف ناصية، أن أمك اختفت بين الثلج، وفجأة، في المسافة بينك وبينها، مسافة الخطوتين التي تفصلك عنها وهي أمامك، يُقام جدار أبيض يبدو مصنوعاً من أشد أنواع الثلوج صلابة؛ صرختَ لأمك حتى تتوقف غير أن أمك لم ترد ففكرت أنت أنها قد نستك فأوشكت على البكاء، أو ربما بكيت، لن تستطيع أن تتذكر بالتحديد، لكنك ستتذكر أن الجدار الأبيض الذي كان يحيط بك في تلك اللحظة انفتح ورأيت يد أمك تمتد وتمسك بك وترفعك في الهواء وتجرك خلفها وسط العاصفة دون أن تنظر للوراء، بينما لم تر عيناك إلا ظهرها، المحني إلى الأمام، كما يبدو في الصورة، حتى تنقذك من كتل الثلج، وستتذكر أنك فكرت في تلك اللحظة في أن أمك وأنت قد توصلتما لاتفاق وأن هذا الاتفاق يتضمن ألا يترك أحدكما الآخر للموت ما دام حياً، ولا يهم ما قد يحدث، وشعرت بسعادة جمة لم تشعر بها إلا في مرات قليلة في طفولتك. وفيما ترنو لامرأة مارة كان من الممكن أن تكون أمك، تسير تحت الشمس بصحبة امرأة أخرى أكثر شباباً، ستفكر في أنه لا يزال ممكناً البحث عن مانفريد بلوك بـ بريمن، أنه لا يزال ممكناً العثور على ابنة شقيقة السيد براب بل وحتى العثور على «البروفيسورة الشابة فراوك» التي تظهر في إحدى الصور، وستفهم أن أمك قد احتفظت بذاك الألبوم الذي أعادوه إليها قبل موتها بعدة سنوات من أجل أن تبدأ أنت رحلة بحثك عن جزء كان بالفعل يشكّل كينونتها، وستفكر في أمك كما كانت هي نفسها تفكر حول نفسها في سنواتها الأخيرة، امرأة تتأمل المنظر الطبيعي، بظهر محني قليلاً إلى الأمام كأنها تشعر بأن المنظر يشدها، كأن المنظر هو المستقبل وأوشك أن يلتهمها وهي تعرف ذلك وتلقي بنفسها ناحيته، ناحية زمن ستكون غائبة عنه لكنها لن تتخلى عن يدك، لأننا حينها، أنت وأنا، سنكون معاً مرة أخرى، متحدَين في شيء سيشبه الرحمة، سيشبه الندم الذي لا ينفع شيئاً. سيشبه الذكرى.
………………
* باتريثيو برون (بوينوس آيريس، 1976): قاص وروائي وناقد وأكاديمي أرجنتيني يقيم في مدريد، يعتبر واحداً من أبرز الأصوات السردية باللغة الإسبانية، وأكثرهم تحيزاً لأدب بورخيس واعترافاً بتأثيره عليه. عمل بروفيسوراً في «جامعة برلين» قبل أن يعود إلى مدريد ليتفرغ للكتابة والنقد، وحاز العديد من الجوائز.
*نقلا عن صحيفة “الأخبار” اللبنانية