تحالف الشيطان

تحالف الشيطان
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عمرو علي

كان العقد السري الذي وقعناه منذ البداية قائماً على الكذب ، على الزيف والاستغلال، والرغبة بالاستفادة ، إلا أن الفارق الجوهري، أنني كنت صادقاً معها: كنت أريد إيلينا لأنني أحبها ولأنني أحب أن أعيش الحياة معها ، لأنها جميلة و طفلة و لأنها ، و هو الأهم ، عرفت كيف تجعلني أحبها ، إلى درجة الموت .

كان عليَّ دوماً أن أختفي ، تحت قناع أضعه على وجهي كي لا أرى ، و رغم ذلك كنت أرى كل الأشياء ،  و كنت أصمت لأنني أحبها ، و لأنني أحب الحياة معها ، لأنها القيد الذي لا أعرف كيف أكسره .

إيلينا التي غادرت ككل الفتيات الجميلات و هي تكسر بيديها كل قيودي إنما كانت تفتح في وجهي أبواب الجنة الحقيقية و الموعودة ، لأننا كنا في قفص ضيق ، ضيق و بجدرانٍ صلبة للغاية خلتها لا تُحَطَم .

كنت فقط أفكر ، و كان السؤال بداية النسيان ، أما الأجوبة فكانت بداية الغفران .

لماذا فعلتي كل الأشياء الجميلة و القبيحة يا إيلينا ؟

كان ذلك صعباً ، صعباً و مؤلماً ، لأنني كنت أستحضرها على الدوام ، كروحٍ إضافية تحوم في أمكنتي على اختلافها ، رغم المسافات و الكيلومترات الكثيرة إلا أنها كانت تأتي بسرعة الضوء على متن كل الأحصنة التي راهنت عليها فيما مضى و أنا أدرك حتمية الخسران ، و في صباحٍ ما ، كلل الغفران كل جرائهما ، صرت أحب إيلينا ، لأننا يجب أن نحب أعداءنا حقاً ، أولئك اللذين رموا بنا في الجحيم كي نحترق ثم نتجدد ، كي نُبعَث من جديد كالأنبياء و الأولياء الصالحين و نحن ندرك كل المعاني ، و نحن نعرف الجنة ، و نعرف الجحيم .

حين أحببتها جردتها من كل صفات الإنسان ، لأنها ذكية و قوية ، و لأنني أحبها ، لأنني كنت في الغيبة التي تسبق الظهور ، الظلمة التي تسبق إشراقة الشموس الحقيقية ، الدافئة و الناصعة ، الخالية من الزيف .

لا يعنيني كثيراً أن أنتظر شموساً مشرقة ، و لا ليالٍ طويلة ، ما يعنيني هو أن أعيش الصباح ، كما كانت تعده إيلينا ، لأنه كان لطيفاً و محبباً و لأنه كان في يومٍ من الأيام صادقاً و عفوياً ، حقيقياً كالعقل ، و مذهلاً كالروح .

رغم ذلك أشعر تدريجياً أن ماضيَّ لم يعد من حقي و أن الذكريات الكاذبة لا تستحق أن تُذكر و لا أن تُرَتَل كانتصارات ما دمت دفعت ثمنها غالياً و مطولاً ، و ما دامت مزيفة و مسيّرة ، مبنية على حساب حقوقي .

لا أستطيع أن أبرر لإيلينا جرائهما رغم أنني أفعل ذلك دون أن أعي ، أبحث عن المبررات كأنني أبرر لنفسي ما كان شنيعاً و فظيعاً ، ما يستحق الرجم و الأشغال الشاقة ، لأنه جريمة ، لا يعترف بها أحد ، لأنه لا أحد يُحَاسَب على ما يرتكبه في حق الآخرين ، على اعتبار أن هذا النوع من الجرائم هو جرائم مشروعة و مُتاحة ، لا تعني القانون و لا تعني العدالة ، و لا تعني الآخرين .

كان عليَّ أن أرد حقوقي من إيلينا ، كرجلٍ أحبّها بصدق ، فقوبل بتحالفٍ شيطانيّ مُربِك ، جعله ضحية وحوش ضارية ، حاربها كفارس يمتطي خيلاً جريحاً .

لم تكن مشكلتي مع الخيانة ، لأنها نتيجة و ليست سبباً ، كما لم تكن مشكلتي مع إيلينا الطفلة الجميلة و المدللة ، لأنني كنت أحبها كأبٍ لم ينجب سواها ، و كطفلٍ لم يُفطَم عنها ، و هذا ما كان يجعلني تائهاً عني ، متنقلاً بين الأب و الابن ، دون أن أعرف على ماذا يكون الأب و لا على ماذا يكون الابن ، الحقيقة أنني كنت في مأزقٍ مع نفسي و هذا ما كان يجعلني حزيناً و كئيباً ، كنت خائفاً معها ، لأنني أدرك كل أسباب الفشل و لا أملك حيالها شيئاً ، لأنها قوية و عنيدة ، لأنها لم تكن لا أماً و لا ابنة ، لأنها لم تكن سوى إمرأة شريرة .

لم تحالف إيلينا سوى الشيطان ، و لم تبع نفسها إلا له ، و هو ما جعلها نداً قوياً يستحق أن أحبه ، لأنها طفلة جاهلة و شرسة ، بلا براءة تطل من عينيها ، و بلا دموع حقيقية تكسر في روحها غشاء الخجل كي تصبح أماً حنوناً ، بقليل من القسوة و الشر ، و كثير من الحب ، و كمٍ هائل من الجمال ، لكنني لا أستطيع الانضمام إلى التحالف الذي أحزنني ملياً ثم ألزمني القتال في معركة مفتوحة بلا أمدٍ و بلا هدنة ، و ربما بلا جدوى أيضاً .

حين خرجت إيلينا صار الماضي مملكة حقيقية ، أرضاً أملكها و إن كانت بوراً ، لكنني أنتمي إليها و أدخلها بموكب مَهيب ،معتنقاً سيفي و ممسكاً بصهوة جوادي ، كفارس شجاع صنع من خسائره انتصارات مدوية ، ترفرف لها الأعلام و تنحني لها رؤوس العارفين و تُعزف لها الموسيقى .

رغم كل ذلك لا أستطيع أن أظلمها ، لأنني كنت مدللاً و متآمراً معها على نفسي ، كنا نلعب لعبة مشتركة يبيع فيها كل منا ذاته إلى الآخر مقابل جنون كنا نفعله بعيداً عن الآخرين ، جعلنا متورطين أمام ذواتنا التي شهدت على فظاعة الجريمة .

أحببت إيلينا كما يجب ، إلا أن ذلك كان غائباً و ظاهراً في آن و كان مُلتبَساً في السلوك ، محكوماً بالخوف و الخشية ، بالرهبة من الظهور ، لأنه يخفي تحته كل الظلام ، الذي لم أكن أراه ، إلا أن ما يحزنني اليوم و ما يرسخ فيَّ شعوري بفقدان الماضي لقيمته على اعتباره ماضياً جميلاً و ناصعاً ، زاهياً و ترافقه أغاني فيروز ، هو أنه أصبح ماضياً مليئاً بالمؤامرة و الشر ، و صارت أعين إيلينا ، أعين رجل قابلته مرة واحدة في حياتي ، قرب ميدان التحرير في القاهرة ، حيث حاول سرقتي داخل سيارة الأجرة التي يقودها ، على الساعة الواحدة ظهراً ، في شارع مزدحم و مليء بالمارة و تحرسه عناصر الشرطة : كان الرجل قد أخذ مني مبلغاً مقابل خدمة أداها لي ثم غفل عن إرجاع بقية النقود إليّ متعللاً بعدم حوزته على فكتها و قد اطمئنيت إلى إقتراحه بأن نمر في طريقنا نحو ميدان التحرير بأي بائع يفك لنا النقود ، كنت مقتنعاً أننا سنفعل ذلك لسبب لا أدريه ، رغم أن ذلك لم يحصل في النهاية ، إلا أنني كنت مطمئناً و مسلماً للسائق ، ربما بسبب حديثنا السياسيّ ، الأغاني التي كنا نسمعها طيلة الطريق ، حديثه التلفوني مع حبيبته ، أو ربما أدائه المُقنِع و موهبته في الكذب و الإخفاء التي جعلتني أكف عن التفكير .

أخذ يجرب نظارتي الشمسية و يبدي إعجابه بها ، سألني عن ثمنها و أجبته بصدق ، لأنني لم أكن أشك به ، رغم الريبة التي انتابتني حين لم يُرجِع  النقود على الفور ، و حين تناول النظارة بوقاحة و بلا استئذان .

ما حدث أنه توقف قرب الميدان حين طالبته بالنقود و التفت إليَّ فجأة .

 تمعنت في عينيه جيداً ، كانت إيلينا تنظر إليّ ، تبتسم دون أن تفتح فمها ، و كان الشيطان الذي يطل من مكانٍ بعيد ، بعيدٍ و موغل ، يهددني بالمطوى التي أخرجها من تحت المقعد و هو يقول لي : أية نقود ؟

كنت مُرتَبكاً ، أملك حلين : إما أن أهرب متخلياً عن حقي في النقود و في المواجهة و إن كانت ستُحسَم لصالحه أو ستكلفني في أحسن الأحوال جرحاً في جسدي ، لأنني ببساطةٍ لست مسلحاً ، أو أن أغامر بكل الأشياء و أقاتل دفاعاً عن حقٍ لا أريد أن أخسره ، يُسلَبُ مني في عملية سرقة واضحة و وقحة ، لا أقبلها .

مد يده متناولاً نظارتي ، وضعها على عينيه و أخذ يجربها في المرآة الداخلية ، ناولني نظارته مدعياً أنها نظارتي ، و الحقيقة أنني لم أكن مستعداً للمساومة على النظارة ، لأنها هدية من والدتي ، لن أخسرها .

حين راقبت سيارته و هي تغيب في النفق المُعتِم كانت نظارتي على عينيّ و كنت سليماً و جيداً ، لم أكن حزيناً على المبلغ الذي سرقه مني ، و هو مبلغ بسيط و تافه ، أصرفه في وجبة طعام ، لم أكن حزيناً لأن ما كسبه السائق كان وهمياً و غير حقيقيّ ، لكنه كان مقابلاً لتجربة و معرفة ، و ثمناً لرؤية ، أعادت إليّ إيلينا في صورة سائق و سارق ، يمارس جرائمه في وَضَحِ النهار ، محمياً من الجميع ، و غير عابئٍ بأي شيء ، بأي معنى أو قيمة أو أخلاق .

كنت أفرّط لها بكل حقوقي طواعية ، بحب حقيقي و بسخاء ، دون أن أحيجها إلى البلطجة ، إلا أنها كانت تمارس كل الجرائم دون أن أشعر ، و دون أن تخبرني : حين سَقطتُ من ناطحة السحاب وَقَعتُ في شارع مزدحم باللصوص و القتلة ، أعرف عنه و لا أثق به ، لأنه سيء و لا يرحم ، و كانت إيلينا ، الشبح الذي يطل من مكانٍ ما ، بعيدٍ و غامض ، هو الجنة التي نقرأ عنها ، فيها النور و الظلام ، و فيها آدم و حواء و هم يسقطون إلى الأرض ، لأنهم مخلوقون من طين  يعودون إليه ، ثم يُرَفعون ملوثين به إلى جنةٍ أخرى طُرِدَ منها الشيطان إلى غير رجعة .

أنا لم أكره إيلينا : رغم كل ما حدث ، رغم الحقيقة البشعة و المحزنة ، كل ما حدث أنني فقدت حبيباً مزيفاً ، و كسبت عدواً لدوداً ، ذكياً و جميلاً و مُحبباً ، و حقيقياً ، يعرفني كما أعرفه ، و هو ما يجعنلي منتصراً عليه على الدوام ، بالحب و بالحق ، و بكل معاني الحياة ، و حين سأحاربه ، سأفعل ذلك كي أفوز به ، لا كي أخسرَه ، لأن الخسارة نقيصة لا تليق بالفرسان .

أضاعتني إيلينا فأضعتها و أضعنا الحب ، لأن الجاهلية كانت تكبّلها و تفقدها الحرية : كان الجنون يتلاشى ، الصدق يختفي و القناع يسقط رويداً عن الوجه الحقيقي و البشع الذي لا يُرَى ، و كنت أدخل مملكتي ظافراً بالمعرفة و بالحب و بالحق و بكل ما يعنيه الإنسان ، كنت حراً و رجلاً كما أحب ، و كانت مكبّلة و شيطاناً كما تحب .

ربما تدرك إيلينا فداحة الخسارة و الفقد ، و علّها لا تدرك ذلك : لأن عقلها قد هُزِمَ لصالح الجاهلية و لأن الحياة قد صارت لديها  فرصة سانحة للكسب ، للإنتصارات الوهمية ، و للمعارك الفارغة ، كما كانت منذ البداية .

لا تدرك إيلينا المعركة : لأنها جزء بسيط في كلٍ ، هو لوحة بشعة و جائرة ، مطلية بالأسود ، و بكل ألوان الموت ، و لكنها تعيش في النقيصة التي لا يَقبَلُ بها الفرسان الحقيقيون ، المدافعون حقاً عن الحب و النُبل ، الملوثين بالطين و الفاتحين صدورهم لكل الرماح .

سيستغرق ذلك وقتاً طويلاً : لأنها معركة مفتوحة ، بلا أمدٍ و بلا زمنٍ و بلا مُهَل ،  ربما أموت دون أن أخوضها ، لأن الحياة أيضاً ستنتهي في يومٍ ما ، كما تنتهي كل الأشياء ، ذلك ما كنت أفكر به في دمشق ، لأن الموت صار عبثياً و قريباً ، كإعصارٍ لن يخلف سوى ناجيين ذاهليين .

لا أخاف الموت ، لكنني لا أريده ، لأنني أحب الحياة و أقبل المعركة بثقة ، و هو ما يعني أن أكون يقظاً على الدوام ، صاحياً و مستعداً ، كي أفوز بالموت الذي عرفته ، و أحببته ملياً ، فيها .

لا أريد موتأ عابراً لا يليق سوى بالجبناء ، لأنني كنت طفلاً شجاعاً و مغامراً ، أحبَّ بصدقٍ و بجهل ، ثم صار رجلاً  و فارساً عارفاً ، يناصر الحياة و النور ، و يناضل جاهداً كي يعود إلى الجنة التي خرج منها مسخوطاً و مطروداً ، تطارده النقيصة و الخطيئة .

يجب أن أعترف : كي أكون أميناً و صادقاً ، متخلياً عن كل الزيف و الكذب ، أنني في أحيانٍ و إن كانت قليلة ، أنسف كل ما أفكر به ، و هو كل ما كتبته في الأعلى ، و أجعل معركتي معركة عبثية بلا طائل و بلا هدف ، و لكنني لا أفرط بحقوقي و لا أساوم عليها ، لأنها كل ما أملك ، و حين اغتصبتها إيلينا ، اغتصبتها بالزيف و الخداع ، بالشر الذي أغواها فطردنا معاً من جنتنا السعيدة و عاد هابطاً بنا إلى الأرض الموحِلة و المُترَبة ، لأنها كانت كاذبة و مزيفة ، طفلة مغيبة و مكبلة ، أضاعت حريتها ثمناً لمقابلٍ تافه و مخزٍ ، لا يليق بالأحرار ، و لا بالفرسان ، و لا بالأميرات .

النسيان يبدأ بسؤال ، و الغفران يبدأ بالإجابة ، و المعركة تبدأ بالعمل ، أما إيلينا فكانت توغل بعيداً في معسكرٍ ضخمٍ و مُرعِب ، تتربع على عرشه كشيطانٍ جميل ، بعينين حمراوتين و شعرٍ قصيرٍ أشقر ، إيلينا الشيطانية التي تقود جيوشاً جرارة و مُسلّحة ،بالصواريخ و الأسلحة ، بالمال و الإعلام و الظهور ، بالباطل المُنتصر على الحق في غيبته ، في ظُلمَتِهِ الطويلة .

الحقيقة أنني أملك ما يبرر القوة،  و هو ما يحرّم عليَّ امتلاكها حقاً ، بشكل ماديّ ، لأنها أداة و وسيلة ، و لأن الانتصارات الحقيقية لا علاقة لها بالواقع ، إنما بالتاريخ و بوقائع الأمم و الشعوب ، و حين يُهزَمُ الحق ، في معركةٍ ما فهو لا يُهزَمُ سوى كي ينتصر ، في معركةٍ و معارك أخرى ، أكثر صعوبة و دناءة ، تعيد مجده و قيمته ، و تعيده سيرته الأولى ، و لذلك لا يموت الحب ، رغم الخسائر و الانكسارات ، لأنه يخوض معاركه بإخلاص و بإرادة ، لأنه مَصانٌ و مُحَصَن ، قلعة لا تسقط رغم الحصار .

أنا لا أملك سوى العقل ، و الفن ، لأنه وسيلتي التي أحبها ، و لأنه القوة التي يجوز لي أن أملكها ، و إن كانت ستجعلني مُحارباً و منبوذاً ، لأن الجميع يكذب و يسرق و يقتل ، في وَضَح النهار أو في ظُلمَةِ الليل ، لا فرق ، لأنهم محكومون و جاهلون ، مقيدون بكل الأشياء الدنيئة و الخاوية من المعنى ، و لأن الواقع ليس سوى وسيلة نستخدمها كي نبرر الكذب و السرقة و القتل ، ثم نجعل من أنفسنا ضحايا و مظلومين ، فارين من جهنم التي صنعناها من أجساد الآخرين ، كي تحرقهم و تحرقنا ، و لا تخلف ورائها و ورائنا سوى الرماد و الأنقاض و الحدائق المهجورة .

أدرك أن الواقع سيء و مؤلم ، و لكنني لا أؤمن بالإستسلام و الرضوخ ، لأن معارك الحياة المُشرّفة ، تنادي بصوتٍ مسموع ، بطبول و موسيقى صاخبة ، لأن الحب يحتاج إلى فرسانٍ أشداء ، و رجالٍ صادقين ، يزرعون الورود بدلاً من أن يدوسوها ، يقدمونها بصدقٍ و إخلاص ، حتى لو أهدوها إلى الشياطين التي سترميها عن قصد كي تذبل وحيدة و حزينة ، و تصير وليمة للهجران .

يُشَوّه تاريخنا اليوم ، يُشَوهُهُ من قصف تماثيل بوذا العملاقة و الرائعة في بداية هذا القرن ، كي يجعل من تلك المنطقة مكاناً بلا ماضٍ و بلا تاريخ ، و بلا تراث ، لا يصلح سوى لأن يكون بؤرة للإرهاب الذي يحتمي بالإسلام ، و يطيح كل معانيه و قيمه ليجرده من رسالته العظيمة و الشاملة التي تنشد الحق و العدل و السلام ، و هذا هو المشروع الحقيقي و الكبير الذي لا ندركه ، لأن الشعب العربي ، الذي أنتمي إليه ، شعب مغيّب و جاهل ، و لأنه ضحى بكل حقوقه فيما مضى ، في سبيل حياة آمنة و مستقرة ، أقامها على أنقاض الآخرين و عذاباتهم ، و على حساب أبسط حقوق الحياة و أكثرها ضرورة و إلحاحاً ، و على حساب القيم و المعاني الحقيقية التي تضمن   الحب ، و السعادة ، لذلك ستفشل كل حركات التغيير المزيف التي اجتاحت هذه المنطقة فيما يسمى ربيعاً عربياً ، لأن العدو فيها وهمي و غير حقيقي و لأن الأنظمة العربية ليست سوى شمّاعات علّقت عليها الشعوب كل الخيبات و الخسارات التي صنعتها بإرادتها ، و لأن الثورات الحقيقية و الفاعلة من المُفتَرَض أن تُسقِطَ الأفكار و المفاهيم التي خلقت واقعاً ساقطاً و بائساً جعلها مجرد سوقٍ للقوى السياسية و الإقتصادية الكبرى و مالكة القوة على سطح هذا الكوكب ، ثم جعلها بؤرة أخرى للإرهاب و العنف الذي سيدمر تراثها و ماضيها ، و يجعلها متاحة و مقسمة ، تحيا على الدم و الحروب .

لا أشارك في خراب هذه البقعة من العالم ، لأنني أنتمي إليها عن حب و قناعة ، و لأنني لا أريد سوى أن يعم السلام هذه المنطقة ، لأنه أولوية و استحقاق حقيقي يستوجب الدفاع ، يطالبني به الإنتماء إلى المكان الذي لا أبيعه و لا أساوم عليه ، و لأنه الصورة الحقيقية التي لا تقبل الزيف ، و لا تحتمل التأويل .

مرت شهور ستة : أدرَكتُ خلالها يوماً بعد يوم أنني قد ظَفِرتُ و نَجَوتُ بنفسي مما كان سيئاً و مؤسفاً ، رغم شعوري بفقدان الذاكرة و الصورة ، و عدم علاقتي بها ، كأنها ذاكرة شخصٍ آخر ، مكبّل و جاهل و لكنه صادق و نبيل و مُفعَمٌ بالحب ، أو كأنها ذاكرة خداعة ، تشبه السراب ، ليس فيها وجه واضح للشيطان ، لأنه متلّون و متخفٍ ، و لأنه يظهر في كل الأمكنة ، بلا استحضار و بلا استذكار ، و بلا موعد ، و حين أصطدم بصورة لإيلينا في صدفةٍ مارقةٍ و عابرة تترسخ لديَّ الغربة ، عن الماضي و عن الذاكرة ، و عن كل الأفكار و الأشياء التي حصلت ، كأنني رجل أخر تماماً ، لا يشبهني ، لكنني أعرفه و أشعرُ بهِ و عنه ، لأنه كان نقياً و طاهراً ، كالماء .

أنا لم أظلم إيلينا ، لأن من ظُلِمَ هو نفسي ، في جنةٍ بعيدةٍ و غيبية لا تنتمي إلى الأرض ، خَرَجتُ منها بسرعة و بلا مقدمات ، لأنها صارت جحيماً حقيقياً ، أغوى الشيطانُ حواءها الشريرة ، فطَرَدَنا الحقُ منها ، بحزم .

ــــــــــــــــــــــــــ

 

فصل من رواية “حصار السرطان”

 

مقالات من نفس القسم