تجليات البنية الملحمية للسيرة الهلالية في الرواية المعاصرة.. مقاربة سيكوسوسيولوجية لرواية “ليس بعيدًا عن رأس الرجل” لسمير درويش

samir darweesh
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د.رشا الفوال

المقدمة:

على افتراض أن النقد السوسيولوجي هو الأقرب إلى قراءة النصوص في اتصالها الوثيق مع تُربة الواقع الذي أنبتها وجعلها تبدو في صورة هذ الجنس أو غيره([1])؛ فالتراث الشعبي بمختلف تجلياته يُعدُّ أحد الركائز الأساسية لهوية الشعوب ومرآةً صادقةً تعكس وجدان المجتمعات وتاريخها العميق. فالتراث ليس مجرَّد ماضٍ يُروى، بل هو حاضرٌ حيٌّ يتفاعل مع الإنسان في لغته وفنونه وعاداته ومعتقداته. ومن بين أبرز مظاهر هذا التراث، تبرز المأثورات الشفاهية التي حفظت للذاكرة الجمعية معاني البطولة، وصور الحكمة، وتجليات القيم الاجتماعية، في قوالب سردية وأدبية متعددة.

من خلال تنوع هذا التراث تبرز السير الشعبية كأحد أغنى الأشكال الأدبية التي استطاعت أن تمزج بين الواقع والخيال، وأن تُعبِّر عن تطلعات الناس، وصراعاتهم، ونماذجهم المثالية. هذا وتتميَّز السير الشعبية بطولها، وتعدد مستوياتها اللغوية، وارتباطها العميق بالوجدان الجمعي، حيث كانت تُروى في المجالس والأسواق والمقاهي، وتُصاحبها أحيانًا الموسيقى والغناء.

ومن بين هذه السير، تظل السيرة الهلالية من أعظم وأشهر السير العربية على الإطلاق، لما تحمله من ثراء لغوي، وتشابك درامي، وتنوع في الشخصيات والمواقف، وما تنطوي عليه من تصوير ملحمي للهجرة والصراع والبطولة والحنين؛ فالسيرة الهلالية تجاوزت كونها مجرَّد نصٍّ حكائيٍّ، لتُصبح من مصادر الإلهام المتجدد للفنون الأدبية المختلفة؛ من شعرٍ، ورواية، ومسرح، إلى الدراسات النقدية والبحوث الأكاديمية. في هذا السياق تتناول هذه الدراسة تجليات البنية الملحمية للسيرة الهلالية في الرواية المعاصرة كمحاولة للكشف عن الكيفيات التي تم بها توظيف هذا النص الشعبي الخالد، وإعادة قراءته في ضوء علم النفس الاجتماعي.

فالمقاربة السيكوسوسيولوجية هى الأنسب لفهم تجليات البنية الملحمية للسيرة الهلالية في الرواية، والعلوم الإنسانية علوم تأويلية في المقام الأول؛ لأنها تسعى إلى فهم السلوك الإنساني من خلال اكتشاف المعاني والدلالات؛ فالسلوك ذو المعنى هو نشاط موجه بالقواعد التي تمنح الفاعل تبريرات سلوكه([2]).

فإذا تناولنا أشكال استلهام السيرة الهلالية في الفنون الأدبية بمزيد من التفصيل، نجد أن جذورها تعود إلى وقائع تاريخية حقيقية تتمثَّل في هجرة قبائل بني هلال وبني سليم من شبه الجزيرة العربية إلى شمال أفريقيا في القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي، وهي الهجرة التي شكَّلت حدثًا مفصليًّا في التاريخ العربي والأفريقي، وخلَّفت آثارًا لغوية واجتماعية لا تزال ممتدة حتى اليوم. غير أن السيرة الهلالية تجاوزت حدود التاريخ المدون، لتتشكل في الوجدان الشعبي كسردية ملحمية زاخرة بالتفاصيل البطولية والمآثر الفردية والجماعية، تدور السيرة حول شخصيات مركزية مثل: أبو زيد الهلالي، الجازية الهلالية، دياب بن غانم، مرعي بن رياح، يحيى ويونس (إخوة مرعي)، والزناتي خليفة، وغيرهم من الشخصيات الثانوية، وتتناول موضوعات كالصراع بين القبائل، والخيانة، والحب، والبطولة، والتضحية، والحكمة. مع ملاحظة أن السيرة تمتد في رواياتها الشفاهية لآلاف الأبيات من الشعر العامي، تُنشد على آلة الربابة غالبًا، في مناسبات اجتماعية وفنية، من قِبل الرواة.

هذا وقد تنوَّعت روايات السيرة الهلالية واختلفت تفاصيلها باختلاف البيئات التي انتقلت إليها، فهناك روايات مصرية، وسودانية، ومغاربية، ولكل منها خصوصيتها في التركيز على شخصيات معينة أو وقائع محددة، كما حظيت السيرة باهتمام أكاديمي واسع، إذ جُمعت وسُجلت ميدانيًّا في مشاريع ضخمة للحفاظ عليها، وكان من أهمها ما قام به الدكتور عبد الحميد يونس، وتلاه مشروع تسجيل السيرة من رواة الصعيد المصري في القرن العشرين.

وتُعد السيرة الهلالية اليوم مادة خصبة للاستلهام في الفنون الأدبية الحديثة، حيث أُعيدت صياغتها في المسرح، والرواية، والقصيدة، بل وظل تأثيرها ممتدًّا في الأعمال الفنية والدرامية المعاصرة، وهو الأمر الذي يثبت استمرار تأثيرها في الثقافة العربية.

معنى ذلك أن السيرة الهلالية لم تكن مجرَّد نصٍّ شعبيٍّ يتم تداوله شفاهةً، بل تحوَّلت مع مرور الزمن إلى مادة أدبية غنية ألهمت كثيرين من الكتَّاب والشعراء والفنانين، لما تحمله من طاقة رمزية وتاريخية وجمالية كبيرة. وقد تنوعت أشكال استلهام السيرة الهلالية في الفنون الأدبية بين المباشر وغير المباشر؛ فهناك من استوحى أحداثها وشخصياتها بشكل صريح، وهناك من أعاد توظيف بنيتها الرمزية ومضامينها الفكرية في سياقات معاصرة؛ ففي مجال الشعر ألهمت السيرة العديد من الشعراء العرب الذين استثمروا صور البطولة والفروسية، واستعادوا شخصية أبو زيد الهلالي بوصفه رمزًا للمقاومة، أو تمثيلًا للإنسان العربي في صراعه مع القوى المختلفة.

وقد وظَّف بعض الشعراء البنية الإيقاعية واللغوية للسيرة، مستلهمين منها الصور البلاغية والتشابيه الشعبية القريبة من الوجدان العام. هذا وتعرف القصص الشعرية الغنائية بالبالادا، وهى قصص لها حيزها المرموق بالنسبة لكل مهتم بالآداب الشعبية، وهى أغنية ملحمية أقرب إلى الابتهالات البكائية، يشيع فيها الحُسن النسائي “الذي هو الملمح الأكثر أصالة للجسد الفولكلوري العالمي بأكمله”([3]).

 و(البالادا) في أحسن حالاتها قصة عائلة، بمعنى أن العصب الفلكلوري فيها قبائلي، حيث لا مهرب من ثقل الوعد أو القدر، في المقابل الروائي نجد المواجع مثل إصابة: عزيزة بالمرض ثم موتها، وإصابة: يونس بالسحر وموته أيضًا.

وكأن الفواصل من السيرة الهلالية تمثل أجزاء انتقالية يتم بعدها العبور لحالة أخرى..

في الجدول التالي نُوضح المقارنة بين البالادا والسيرة الهلالية من حيث الشكل والوظيفة:

 

العنصر السيرة الهلالية البالادا (Ballad)
التعريف ملحمة شعبية عربية طويلة تحكي تاريخ قبيلة بني هلال وهجرتهم وصراعاتهم قصيدة شعبية غنائية تُروى شعريًّا وتتناول حكايات قصيرة أو أحداثًا درامية
الشكل الفني شعر شعبي ملحمي طويل يُؤدى غالبًا على آلة الربابة، مع سرد متواصل شعر غنائي بسيط التركيب، يُقدَّم على هيئة مقاطع قصيرة متكررة
الطابع السردي قصة طويلة متعددة الأحداث والشخصيات والمراحل الزمنية، ذات طابع ملحمي قصة قصيرة تركز على حدث واحد درامي
الشخصيات شخصيات متعددة ومتشابكة، منها أبطال مثل أبو زيد الهلالي وشخصيات قبائل وممالك شخصيات قليلة، غالبًا بطل وبطلة، أو ضحايا وجُناة
اللغة والأسلوب لغة شعبية عامية محكمة، تحمل صورًا بلاغية غنية، وتنوعًا في الأسلوب بين الجد والهزل لغة بسيطة، غنائية، مع تكرار وتكثيف للمشاعر
الوظيفة الثقافية بناء الوعي الجمعي، تمجيد البطولة والهوية القومية، وحفظ التاريخ الشفهي التسلية، وتسجيل الأحداث العاطفية المأساوية
الأداء يُروى من قِبل “الراوي” أو “الحكواتي” بمرافقة آلة الربابة، ويُدمج فيه الغناء والسرد يُغنَّى غالبًا بصوت منفرد ويُصاحب أحيانًا بآلات بسيطة
البنية التاريخية نشأت في الجزيرة العربية، وانتشرت في مصر والسودان والمغرب العربي ظهرت في أوروبا (إنجلترا، اسكتلندا، فرنسا) وانتشرت عالميًّا
الزمن السردي زمن طويل يمتد عبر أجيال، ويتنقل عبر جغرافيا واسعة زمن قصير، يدور الحدث فيه خلال فترة وجيزة
الحضور في الأدب الحديث أُعيد توظيفها في المسرح، والرواية، والشعر العربي الحديث، وبحوث الفولكلور أثَّرت في الشعر الغنائي والرومانسي الغربي، وتحولت إلى “بالادات أدبية”

جدول رقم(1)

البالادا والسيرة الهلالية من حيث الشكل والوظيفة

 أما في المسرح؛ فقد كانت السيرة الهلالية حاضرة في تجارب عديدة، خصوصًا في المسرح العربي الذي سعى إلى توطين تجربته من خلال العودة إلى الموروث الشعبي. من أبرز هذه التجارب ما قدَّمه يوسف إدريس في مسرحيته “الفرافير”، وألفريد فرج في أعماله التي زاوج فيها بين الفلكلور والبنية المسرحية الحديثة. وقد ظهرت السيرة أيضًا بشكل واضح في مسرحيات تهتم بالبنية الملحمية، من خلال تقنيات الراوي، والغناء، والفرجة الشعبية، كما في تجربة سعد الله ونوس وغيره من رواد المسرح العربي الذين وجدوا في السيرة الهلالية نموذجًا لمسرحة الصراع الاجتماعي والسياسي العربي.

وفي الرواية تُعد السيرة الهلالية مرجعًا ملهمًا لبناء شخصيات سردية ذات أبعاد ملحمية، حيث أعاد بعض الكُتاب قراءة الشخصيات والأحداث برؤية حداثية، محمِّلين إياها دلالات رمزية تتعلق بالهوية، والشتات، والبطولة، والمقاومة. من خلال إعادة كتابتها بأسلوب عصري يمزج بين الحكاية الشعبية واللغة الروائية الحديثة، كما كان لاستلهام السيرة الهلالية حضوره الخاص في الدراسات النقدية والأكاديمية، إذ رأى فيها الباحثون نموذجًا غنيًّا لفهم آليات التلقي، والتناص، والتحوُّل بين الشفاهي والمكتوب. وقد استثمر النقاد مفاهيم حديثة كـ”الأسطرة”، و”البنية الملحمية”، و”السرد الشفهي”، في تحليل مضامين السيرة، واستجلاء وظائفها الفنية والثقافية. وتُعد دراسات عبد الحميد يونس، وجمال الغيطاني، ومحمد مفتاح من أبرز الجهود التي حاولت تأصيل البعد الجمالي والفكري لهذا التراث.

وإذا كان تعدد أشكال استلهام السيرة الهلالية يعكس قدرتها على الانبعاث في كل عصر بثوب جديد؛ فهي ليست مجرد حكاية قديمة، بل نصٌّ مفتوحٌ قابلٌ للتأويل، يُعيد طرح الأسئلة الكبرى عن الإنسان والتاريخ والمصير، ويُعيد تشكيل الوعي الجمعي من خلال الأدب والفن، بالتالي “فإن الإحاطة بالقيمة الفنية والدلالية للأدب بوصفه تعبيرًا وإبداعًا لجنس فني ضمن سياق تاريخي وظرف اجتماعي”([4]).

إشكالية الدراسة:

في ظل توجه الرواية المعاصرة نحو استلهام التراث الشفاهي الشعبي بوجه عام، والسيرة الهلالية بما تحمله من طابع ملحمي جماعي بوجه خاص. يطرح هذا التوجه عدة تساؤلات حول:

1- كيفية توظيف هذا التراث في النص الروائي الذي يتسم بتقنيات وأساليب سردية مغايرة؟

2- الدوافع النفسية والاجتماعية لهذا التوظيف: هل هو تعبير عن حنين جماعي للبطولة والهوية الجمعية؟ أم محاولة لتفكيك السيرة في ضوء التحولات الراهنة؟ وكيف يُسهم ذلك في بناء شخصيات الرواية ورؤاها للعالم؟

3- كيف تتجلى البنية الملحمية للسيرة الهلالية في الرواية المعاصرة، وما الدلالات السيكولوجية والاجتماعية لهذا الحضور؟ وهل يشكل هذا التوظيف استدعاءً واعيًا لهوية جماعية مهددة، أم إعادة إنتاج لخطاب ملحمي يخدم تصورات جديدة للذات والمجتمع؟

أهداف الدراسة:

أولًا: رصد وتحليل أوجه التشابه والاختلاف بين بنية السيرة الهلالية والرواية المعاصرة في تقديم مفهومي البطل والجماعة.

ثانيًا: رصد تجليات توظيف السيرة الهلالية في الرواية المعاصرة، سواء عبر التناص المباشر أو التأثير الرمزي أو إعادة الإنتاج الأسطوري.

ثالثًا: الكشف عن الدوافع الاجتماعية والثقافية لهذا التوظيف، وارتباطه بالتحولات التاريخية، كالهجرة، التهميش، وتصدع البنى التقليدية.

رابعًا: المساهمة في إثراء الدراسة في علاقة التراث الشعبي بالأدب الحديث.

خامسًا: تسليط الضوء على ديناميات التفاعل بين الذاكرة الشعبية والهوية وآليات السرد في الرواية المعاصرة.

والرواية التي تناولنا تجليات البنية الملحمية للسيرة الهلالية بها هى رواية: “ليس بعيدًا عن رأس الرجل- عزيزة ويونس”، الصادرة عام 2024م عن دار بتانة للنشر والتوزيع للكاتب: سمير درويش.

أهمية الدراسة:

تنبع من تقاطع عدة عناصر معرفية وثقافية ونقدية، تجمع بين التراث الشعبي والسرد الروائي المعاصر، وتستخدم أداة تحليلية حديثة (المقاربة السيكوسوسيولوجية)، مما يمنح الدراسة أبعادًا متعددة. منها كشف تجليات حضور السيرة الهلالية بوصفها ملحمة شعبية كبرى، داخل بنية الرواية المعاصرة، وهو الأمر الذي يضيء جانبًا مهمًّا من التفاعل بين الأدب الشعبي الشفاهي والأدب المكتوب. وكذلك تقديم قراءة جديدة لتوظيف السيرة الهلالية بعيدًا عن التناول الفولكلوري التقليدي، من خلال تحليل بنيتها السردية والرمزية وتأثيرها في تشكيل المتخيل الأدبي المعاصر.

المنهجية المتبعة:

تعتمد الدراسة على المقاربة السيكوسوسيولوجية التي تُعنى بتحليل النصوص الأدبية في ضوء التفاعل بين الأبعاد النفسية (التمثلات الفردية والجماعية، اللاوعي، الرموز) والأبعاد الاجتماعية (التحولات الطبقية، القيم الثقافية، السُلطة، الهوية). يُعد هذا المنهج ملائمًا لموضوع الدراسة، نظرًا لأنه يسمح بفهم الكيفية التي تُستعاد بها البنية الملحمية للسيرة الهلالية في الرواية المعاصرة ليس فقط على المستوى السردي أو الجمالي، بل أيضًا على مستوى الدلالات النفسية والاجتماعية العميقة التي تكشف عن توتر الذات المعاصرة في علاقتها بالتراث والهوية.

حدود الدراسة:

تُركِّز الدراسة على الرواية المعاصرة: “ليس بعيدًا عن رأس الرجل- عزيزة ويونس”. ولا تتناول السيرة الهلالية كموضوع مستقل، بل بوصفها مُكوِّنًا ثقافيًّا يُعاد توظيفه داخل الرواية. المقاربة السيكوسوسيولوجية المعتمدة لا تدَّعي الإحاطة النفسية الكاملة بالشخصيات أو الكاتب، بل تُعنى بتحليل تمثلات السيرة الهلالية كما تظهر داخل النص، في علاقتها بالبنيات الاجتماعية والثقافية.

المبحث الأول:

ملامح البنية الملحمية للسيرة الهلالية في الرواية

تشير البنية الملحمية في رواية: ليس بعيدًا عن رأس الرجل إلى تلك التكوينات السردية التي تستلهم خصائص الملحمة الكلاسيكية، سواء في موضوعها أو شخصياتها أو أسلوبها أو فضاءاتها الزمكانية، اتضح ذلك بداية في (التصدير) “تمت الاستفادة من رواية الشاعر الشعبي السيد حواس في رواية السيرة الهلالية، والالتزام بنفس أحداث روايته وشخصياتها، وترتيب الأحداث” ثم (المقدمة) التي تشبه تمهيد الحكواتي الذي يقص السير الشعبية، ويمكننا اعتبار هذا التمهيد من عناصر القص التراثي، لكنها -أى الرواية- تُعيد توظيف هذه العناصر ضمن قالب سردي حديث يتجاوز الحدود التقليدية. فالملحمة بوصفها نصًّا سرديًّا طويلًا يحتفي بالبطولة الجماعية أو الفردية ويتناول صراع الإنسان مع قوى الطبيعة أو التاريخ أو السلطة، شكَّلت منبعًا غنيًَا للروائيين الذين يسعون إلى تناول قضايا كبرى تتصل بالمصير الجمعي والتاريخ القومي والتحولات السياسية والمجتمعية. لذا تمكن الكاتب: سمير درويش من توظيف البنية الملحمية المستمدة من السيرة الهلالية، داخل إطار سردي معاصر يتجاوز النقل الحرفي أو التناص المباشر، ليقدِّم قراءة حديثة للتراث الشعبي من منظور جمالي. فالرواية تستلهم عناصر البناء الملحمي ولكنها تُعيد تفكيك هذه العناصر وإعادة تركيبها ضمن واقع معاصر يطرح أسئلة الهوية والانتماء والوجود؛ معنى ذلك أن البنية الملحمية في الرواية لا تتعلق فقط بطول النص أو اتساع فضائه، وإنما تتجلى في أساليب السرد، وفي العمق الرمزي، وفي الأبعاد القيمية التي تُنسج حولها الحكاية. ومن أبرز ملامح هذه البنية:

 أولًا: حضور البطل المعاصر كظل للبطل الملحمي

البطل الذي يتمتع بصفات استثنائية، ويتحول إلى رمز لقضية كبرى أو معاناة جماعية. يتجلى في الرواية عبر الزمن التاريخي الممتد، الذي لا يركِّز على لحظة واحدة، بل يُغطي مراحل طويلة من التحولات، في محاولة لفهم جدلية العلاقة بين الفرد والجماعة، بين الحاضر والماضي، بين القدر والإرادة. إذ يغلب على أسلوب السرد في الرواية تقديم الأحداث الفردية من منظور مجتمعي يُعبِّر عن ضمير أمة تائهة أو فئة مهمشة؛ لأن “المشاكل الفردية لا يمكن عزلها عن الواقع المجتمعي أو عن حدود الزمان والمكان”([5])، معنى ذلك أن توظيف البنية الملحمية في الرواية لا يقتصر على استحضار الشخصيات أو إعادة سرد الوقائع، بل يمتد إلى محاكاة البناء السردي المتشعِّب، وتعدد الأصوات، واستدعاء الراوي الشعبي، والانفتاح على تعددية الزمان والمكان، وهو ما يمنح الرواية عمقًا وثراءً دلاليًّا. مع ملاحظة أن في الرواية لا يظهر البطل بشكل بطولي تقليدي كما في السيرة، بل يبدو مأزومًا، متهالكًا، محاطًا بالقلق والاغتراب؛ فشخصية: يونس في الرواية كبطل معاصر توازي شخصية: يونس أحد أبطال السيرة الهلالية، الذي يُصور كفارس شجاع من بني هلال، يُعرف ببطولته وشهامته، وقد ورد اسمه في بعض فصول السيرة المرتبطة بالحروب أو بالمواقف العاطفية، قصته مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بشخصية: عزيزة حيث تشكل قصة حبِّه معها أحد أبرز المحاور الرومانسية في السيرة، في مقابل ذلك نجد في الرواية شخصية: عزيزة التي تحمل وجوهًا متعددة باعتبارها من رموز الهوية والحياة، والجذور التي تُعيد البطل لتاريخه عبر الحلم والخيال، وباعتبارها أيضًا المُثير الذي ما زالت آثاره ممتدة في جسد الرواية، وهى منذ البداية تمثل الفتاة نافذة البصيرة التي رأت فيه رجلًا؛ وكأن الكاتب يبحث عن نقاط التلاقي واكتشاف المفارقات؛ فشخصية: يونس في الرواية لا تُشبه شخصية البطل الملحمي الذي يخترق الصحارى منتصرًا، بل شخصية معاصرة تتلمس طريقها وسط الحيرة والخذلان. هذا التحول من البطل المنتصر إلى البطل المهزوم يعكس انكسار الحُلم الجمعي في الوعي الحديث، ويحوِّل الملحمة من تمجيد البطولة إلى مساءلتها.

ثانيًا: العادات والتقاليد والمعتقدات والمعارف الشعبية

 إذ تمثِّل السيرة الهلالية مرآة صادقة للعالم الشعبي العربي، بما تزخر به من تصويرٍ حيٍّ ودقيق لـلعادات والتقاليد والمعتقدات والمعارف التي كانت سائدة في المجتمعات القبلية العربية خلال مراحل تاريخية مختلفة. فعلى امتداد نص السيرة نجد تفاصيل دقيقة تعكس البنية الثقافية والاجتماعية والرمزية للمجتمع العربي التقليدي، وتُقدِّم رؤية شاملة للمنظومة القيمية والمعرفية التي تشكَّلت في ضوء التجربة الحياتية اليومية للناس. هنا تكمن أهمية توظيف السيرة الهلالية لكونها:

– مرآة للذاكرة الجماعية: تحافظ على تجارب وحكايات الإنسان، وتعكس التحولات التاريخية والاجتماعية التي شهدها المجتمع عبر الزمن، خاصة في مصر.

– حافظة للقيم الثقافية: تُرسخ مفاهيم الشجاعة، والكرم، والوفاء، والعدل، والولاء القبلي، وهي قيم مركزية في الثقافة العربية التقليدية.

– وسيلة لنقل الحكمة: تستخدم في المناسبات الاجتماعية والاحتفالات الشعبية، وتُعلِّم -عبر الطريقة غير المباشرة- المستمعين عبر الحكايات والقصص المروية.

– تربط بين الماضي والحاضر: إذ تمثل جسرًا بين التراث القديم والأدب المعاصر، حيث يستلهمها الأدباء والفنانون لإعادة صياغتها بما يتناسب مع العصر، مما يضمن استمرار تأثيرها الثقافي والفني.

– توثيق التاريخ الشفاهي: نظرًا لأن السيرة الهلالية تعتمد على الحكي الشفاهي وليس على التدوين المباشر، فهي تمثل واحدًا من أهم المصادر التي تنقل التاريخ الشعبي التقليدي بأسلوب حي ومتجدد. بهذا التوظيف الرمزي الواعي لا تكتفي الرواية باستدعاء العادات والمعتقدات والمعارف الشعبية بوصفها عناصر تزيينية أو مكونات تراثية، بل تُحوِّلها إلى أداة تحليل ثقافي تكشف عن تشظِّي الهوية، وقلق الانتماء، وانقسام الذات بين الولاء للماضي، والرغبة في تجاوزه. وهكذا تُصبح السيرة الهلالية، بما فيها من مظاهر الحياة الشعبية، مرآة للواقع الثقافي، لا كما كان، بل كما يُعاد تأمله وإعادة كتابته في النص الروائي الحديث.

ثالثًا: الصراع في سياق رمزي

من العناصر الجوهرية في بنية الملحمة، يتجلى في شكل تأزم مستمر بين القبيلة والعدو (الخارجي أو الداخلي) الذي يتوازى مع الصراع المعاصر بين البطل: يونس والمجتمع حيث (مرحلة الاغتراب الزماني والغربة المكانية) وبين المركز والهامش أيضًا، مع ملاحظة أن الصراع يُكسب السرد توتره الدرامي، ويمتد عادة إلى معارك جماعية طويلة الأمد تُحدد مصير الجماعة. معنى ذلك أن الرواية تنتقل من الصراع الملحمي الخارجي بين القبائل والجيوش إلى الصراعات الداخلية الوجودية والفكرية، تلك التي تدور بين الفرد ومجتمعه، بين الحلم والواقع، بين الماضي والتراث من جهة، والحاضر الذي يفتقد إلى يقين الأسلاف من جهة أخرى. فتتحول المعارك إلى صراعات فكرية، تحمل المواجهات بين الشخصيات دلالات أعمق من كونها أحداثًا سردية.

رابعًا: الترحال كغربة وجودية

تستدعي الرواية ثيمة الترحال، وهي من السمات المحورية في السيرة الهلالية، لكنها تحوِّل هذا الترحال من حدث تاريخي إلى رحلة داخلية نفسية وفكرية، ترمز إلى ضياع البطل: يونس في مجتمعه، وقلقه تجاه تاريخه، وصراعه مع السُلطة والموت الذي أخذ منه محبوبته: عزيزة. الترحال هنا ليس إلى “تونس” أو “بلاد المغرب” كما في السيرة، بل إلى المعنى ذاته، في محاولة لفهم الذات والواقع. معنى ذلك أن الترحال في الرواية ليس مجرد حركة جغرافية، بل رحلة رمزية في اتجاه الهُوية، واكتشاف الذات، ومحاولة فهم سلوكيات الجماعة.

خامسًا: الجماعة/ القبيلة

 الملحمة غالبًا لا تتمحور حول البطل وحده، بل دائمًا ما تحضر جماعة بشرية كبرى: القبيلة، العشيرة، الأمة. هذه الجماعة تكون مهددة في وجودها، ويعمل السرد على إعادة بنائها أو الدفاع عنها. في الرواية الحالية يقول البطل المعاصر: يونس “اجعل بينك وبين الواقع مسافة حتى لا ينكسر قلبك” فالجماعة تُشكِّل خلفية للصراع، وهي المعنية بانتصارات البطل وهزائمه.

سادسًا: اللغة الشعرية والإيقاعية/ الشفاهية

كثير من الملاحم تنتقل عبر الوسيط الشفاهي، لذلك تتسم بأسلوب تكراري، جُملي، إيقاعي، يعتمد على التوازي، والحوار، والصيغ الثابتة. في الرواية تتداخل اللغة الشعرية والنثرية، مع الاستخدام المكثف للصور البلاغية والتشبيهات. وإذا كان علم اجتماع النص يهتم بربط الأدب بالمجتمع بواسطة اللغة، معتبرًا أن النص ليس جوهرًا منعزلًا عن غيره، إنما هو تقاطع حواري لنصوص أخرى؛ فالكتابة الأدبية ترُد على كل وضعية اجتماعية بالمحاكاة أو المعارضة، ربما لذلك كان الانتقال من اللغة الاجتماعية إلى اللغة الثقافية في الرواية مصحوبًا بطفرة سببها التنامي السريع في علاقة الذات الفاعلة للشخصية المحورية: يونس بذاتها. جاءت أيضًا من التعارض بين خطاب اللامبالاة والحيادية الاجتماعية وبين خطابات الأيديولوجيا. ربما يرجع ذلك لاعتماد الكاتب على اللغة التصويرية الإيحائية، والاهتمام بتصوير نثريات الحياة -التي على الرغم من تشظيها- تخضع للتفسير والفهم بفعل الراوي/ الحكواتي. تمكن الكاتب أيضًا من خلق سرد بوليفوني متعدد الأصوات حيث (الراوي العليم “الحكواتي”/ الشخصيات المحورية “عزيزة ويونس”/ الشخصيات الفرعية/ شخصيات السيرة الهلالية).

سابعًا: الرمزية والتمثيل الجمعي

توظيف السيرة الهلالية في الرواية تجاوز الأبعاد الواقعية والتاريخية، ليُنتج رموز قابلة للتأويل الجمعي؛ فنجد أن البطل معادل موضوعي للرمز القومي، والرحلة تعادل الانبعاث والتجدد، والمعركة تعادل الصراع من أجل البقاء، هذه الأبعاد الرمزية هى التي تجعل البنية الملحمية قابلة لإعادة التوظيف في الأدب المعاصر، بوصفها مخزنًا للرموز الجماعية. هذه الملامح حين يتم توظيفها في الرواية المعاصرة، لا تُستنسخ كما هي، بل تُعاد قراءتها وتفكيكها، ما يمنح الرواية قدرة على مساءلة التراث، أو استرجاعه في سياق جديد.

ثامنًا: تفكيك البنية الزمنية الخطية

في حين تسير السيرة الهلالية وفق بنية زمنية تسلسلية واضحة، تُفكك الرواية هذا الخط الزمني، وتعتمد على البنية المتقطعة أو المتداخلة زمنيًا، مما يعكس أسلوب السرد المعاصر القائم على الاسترجاع، وتداخل الذاكرة بالحاضر. وبهذا تخرج الرواية من الإطار الخطي للملحمة التقليدية إلى بنية روائية حديثة تشتبك مع الزمن النفسي أكثر من الزمن التاريخي.

تاسعًا: تحويل التراث إلى رمز وتأويل

في رواية: ليس بعيدًا عن رأس الرجل، لا يُستخدم التراث الشعبي بوصفه خلفية تاريخية فقط، بل يتحول إلى رمز مفتوح للتأويل؛ فالشخصيات، والرموز، والمواقف، كلها تتجاوز زمنها، وتصبح قابلة لإعادة القراءة في ضوء التحولات السياسية والاجتماعية والثقافية المعاصرة، وهذا ما يمنح الرواية بعدًا تأويليًّا حديثًا يمكِّنها من تجاوز حدود الحكاية الشعبية إلى فضاء أوسع من الفهم.

المبحث الثاني:

آليات توظيف السيرة الهلالية في الرواية

يمثل توظيف السيرة الهلالية في رواية: ليس بعيدًا عن رأس الرجل ظاهرة سردية وثقافية لافتة، تتجاوز حدود التناص السطحي لتُلامس مستويات عميقة من الذاكرة الجمعية، والرمزية الملحمية، وتمثلات الهوية، يأتي هذا التوظيف في سياقات مختلفة، تتقاطع فيها الأبعاد النفسية والاجتماعية والسياسية، مما يجعل من السيرة الهلالية مادة حية يُعاد إنتاجها داخل خطاب حداثي.

في هذا السياق تتعدد آليات توظيف السيرة الهلالية في الرواية على النحو التالي:

أولًا: التناص المباشر

 وهو أكثر أشكال التوظيف وضوحًا، حيث يُشير النص الروائي بشكل صريح إلى السيرة الهلالية وشخصياتها وأحداثها. ويأخذ هذا التناص أشكالًا مثل: الإشارة إلى أسماء أبطال السيرة، والاستشهاد بمقاطع منها.

ثانيًا: التناص الرمزي/ النفسي

وفيه لا تُستدعى السيرة الهلالية كنص ظاهر، بل تُستعاد رموزها وشخصياتها ضمن بُنى سردية معاصرة تُعيد إنتاج مكوناتها داخل بنية الحكي. مع ملاحظة أن هذه الآلية ترتبط غالبًا بمحاولة الروائي تفكيك البطولة الملحمية، أو مساءلتها من منظور وجودي أو حداثي، كأن يُعاد تشكيل البطل: يونس ككائن مأزوم، منهزم، أو مهزوز نفسيًا، وتتحول القبيلة إلى رمز للسُلطة أو للتاريخ المثقل بالخطايا، ويُستعاد العدو بوصفه مرآة للذات وليس خصمًا خارجيًّا.

ثالثًا: الاستدعاء البِنيوي/ الشكلاني

الذي تُستعار فيه بنية السيرة الهلالية نفسها من حيث الشكل السردي، وتُستخدم البنية الثلاثية (الولادة- النفي- العودة/ الموت)، مع استرجاع بنية الرحلة الملحمية الفردية ضد القمع داخل الرواية، اعتمادًا على ثنائية الصراع (البطل/ الآخر)، (الداخل/ الخارج)، (المركز/ الهامش).

رابعًا: الاستدعاء النقدي/ التفكيكي

وهو شكل من الاستدعاء الذي لا يهدف إلى تمجيد السيرة، بل إلى نقدها أو إعادة تأويلها، في هذا السياق، يُعاد بناء الملحمة من زاوية معاكسة حيث تفكيك خطاب البطولة الذكورية، وتحويل البطل إلى رمز للاغتراب، وتصوير القبيلة بوصفها بنية قمعية لا جماعة متماسكة.

خامسًا: الاستدعاء الثقافي/ السياسي

إذ تُستدعى السيرة كرمز للصراع السياسي والاجتماعي المعاصر؛ فتمثل القبيلة الهلالية الجماعة العربية في لحظة تشظٍّ، ويُستخدم الصراع مع السُلطة كرمز للاستبداد، وتُستعاد فكرة “الرحلة” أو “الهجرة” للتعبير عن التيه أو فقدان الأرض والهوية.

سادسًا: الاستدعاء الحداثي/ التهكمي

من خلال هذه الآلية، يُعاد توظيف السيرة الهلالية بروح ساخرة أو عبثية، كنوع من التهكم على الخطاب البطولي، ويتم تحويل البطل إلى شخصية عاجزة، إضافة إلى الاستياء من القيم التقليدية للقبيلة.

هذا التنوع في آليات التوظيف لا يعكس فقط ثراء السيرة الهلالية، بل أيضًا مرونة الرواية في إعادة تشكيل التراث، لا كاستنساخ، بل كحقل دلالي مفتوح على التأويل والاختلاف.

خاتمة استنتاجية:

استلهام السيرة الهلالية في رواية: ليس بعيدًا عن رأس الرجل- عزيزة ويونس لم يتم بوصفها مجرَّد تراث شعبي، بل كـأداة سردية ثقافية للكشف عن أزمة الذات والمجتمع. إذ نجحت الرواية في تفكيك البنية الملحمية وإعادة توظيفها داخل خطاب حداثي يعكس واقعًا مغايرًا، حيث يغدو البطل مهزومًا، والجماعة منفية، والرحلة بلا اتجاه. يتضح ذلك من خلال الجدول التالي:

 

البنية الملحمية في السيرة الهلالية تجلياتها في رواية ليس بعيدًا عن رأس الرجل التحليل السيكولوجي التحليل السوسيولوجي ملاحظات نقدية
الحب العذري بين يونس وعزيزة إعادة بعث العلاقة بشكل رمزي القلق الوجودي لدي الشخصيات يُظهر المجتمع كقيد والعلاقات مفككة الرواية تُعيد المأساة الفردية
البطل الملحمي الفارس الشجاع: يونس البطل المعاصر المأزوم نفسيًا واجتماعيًا الصراع الداخلي والتشتت النفسي المجتمع المشوه وثقافة الحرمان الرواية تفكك صورة البطل الملحمي
المرأة المضحية: عزيزة المرأة المعاصرة الأكثر وعيًا بذاتها مشاعرها تتطور من التعلق إلى المحبة وتنتهي بالموت المجتمع يُعيد تدوير الفناء والانطفاء الرواية نزعت صفة الأسطرة عن شخصية: عزيزة
الرحلة/ الترحال الرحلة/ الاغتراب والغربة رحلة نفسية نحو الهزيمة والموت المجتمع المغلق إذ لا أفق للحركة ولا عودة الرواية استبدلت التغريبة بالاغتراب الزماني والغربة المكانية

جدول رقم (2)

البنية الملحمية للسيرة الهلالية وتجلياتها في الرواية

 ومن أبرز النتائج البحثية التي توصلنا إليها:

1- الرواية تقيم علاقة بينصية مع السيرة الهلالية، وهو الأمر الذي سمح بالتداخلات بين عناصر كل من الأحداث والحكاية الشعبية. فالكاتب بداية من المقدمة التي تشبه تمهيد الحكواتي، والتصدير قبيل الدخول إلى عالم الحكاية يسعى إلى إبراز التعالق النصي بين الرواية والسيرة الهلالية، واستكمالًا لذلك التعالق النصي تعمد -أى الكاتب- تضمين فصول من السيرة الهلالية داخل الرواية.

2- تحوُّل البنية الملحمية من نموذج تقليدي إلى بنية رمزية معاصرة، حيث أظهرت الرواية أن توظيف البنية الملحمية للسيرة الهلالية لم يتم بشكل استنساخي، بل عبر تفكيكها وإعادة تركيبها ضمن بنية سردية جديدة؛ فالرواية لم تستدعِ فقط الشخصيات (عزيزة، يونس..) كرموز تُحيل إلى شخصيات ملحمية، بل أعادت بناءها بوصفها ذواتًا مأزومة تعكس قلق الإنسان المعاصر، لا البطل المنتصر في الملاحم.

3- حضور البنية الملحمية بوصفها أداة لاستكشاف الهوية واللاوعي الجمعي، إذ كشفت الرواية عن استدعاء السيرة الهلالية، بما تحمله من تمثلات جمعية حول البطولة، والقبيلة، والرحلة، والغربة، والصراع مع الآخر، وقد بدا هذا الحضور تجسيدًا لأزمة الهوية في زمن التحولات، حيث بات البطل فردًا معزولًا، غير قادر على إنقاذ الجماعة، بل بالكاد يحاول المشاركة في إيجاد الحل.

4- التناص التعددي: من الحضور المباشر إلى التشفير الرمزي، إذ تنوعت آليات استدعاء السيرة الهلالية داخل الرواية، بين التناص المباشر الذي اتضح في أسماء الشخصيات وبعض إشارات السرد، والتناص الرمزي حيث استعارة البنية الدرامية العامة للسيرة (البطل– القبيلة– الترحال– السُلطة– العدو) ولكن داخل بنية حداثية مأزومة.

5- الدافع النفسي والاجتماعي للاستدعاء: بين الحنين والتفكيك، إذ تحمل الرواية ازدواجًا واضحًا في تعاملها مع التراث الملحمي؛ فهناك حنين خفي إلى صورة البطل والجماعة، كحالة توازن مفقودة من ناحية، وهناك تفكيك جريء للبطولة، وإعادة تأويل السيرة، بما يكشف عن وعي نقدي بالتداخل بين الماضي والمجتمع الحاضر.

6- الرحلة كاستعارة رمزية للهروب، لا للنصر؛ فلم تعد “الرحلة” في الرواية فعلًا ملحميًّا كما في السيرة الهلالية، بل تحوَّلت إلى تيه وجودي وفقدان للمعنى، تعبيرًا عن عجز البطل المعاصر عن إيجاد موقع واضح داخل الجماعة أو التاريخ.

7- البطل الملحمي يتحول إلى شخصية مضادة؛ ففي ضوء التحليل السيكوسوسيولوجي، تبيَّن أن: يونس ليس أبو زيد جديدًا، بل هو بطل مهزوم، يعيش على هامش المجتمع وعلى الهامش النفسي للجماعة، هكذا تحوَّل النموذج الملحمي إلى بنية مفتوحة على الشك، والتشظي، والعجز.

8- الرواية تكشف عن أزمة الجماعة الحديثة من خلال مفارقة الجماعة الملحمية القديمة (المتماسكة، الفاعلة) والجماعة الحاضرة في الرواية (المفككة، المقهورة)، يمكن القول إن السرد يعكس أزمة في التمثُّل الجمعي للهوية، في ظل فقدان المشروع الجماعي، وتلاشي القيم الجامعة.

9- فعالية المنهج السيكوسوسيولوجي في كشف البُنى العميقة، حيث أثبتت المقاربة السيكوسوسيولوجية فعاليتها في تحليل التوظيف الروائي للسيرة الهلالية، من خلال الربط بين: البُنى النفسية (اللاوعي الجمعي، القلق، التماهي مع البطل)، والظواهر الاجتماعية (الهجرة، التهميش، تفكك الهوية الوطنية).

10- امتازت البنية الملحمية في الرواية بمجموعة مترابطة من العناصر: بطل استثنائي، صراع وجودي، رحلة ملحمية، جماعة مهددة، وقيم أخلاقية عليا، تتخذ جميعها شكلًا سرديًّا كثيفًا، يهدف إلى تعزيز الذاكرة الجمعية وترسيخ الهوية.

11- السيرة الهلالية تمثل ذاكرة جماعية للعرب، وخصوصًا في مصر والسودان وتونس، إذ حملت في طيَّاتها التاريخ والثقافة والأخلاق، بل وشكَّلت جزءًا من تشكيل الهوية الشعبية العربية.

12- تجمع السيرة الهلالية بين التاريخ المدون والحكاية الشفاهية، بين الواقع والأسطورة، بين الماضي والوجدان الشعبي، لتُشكِّل نصًّا ملحميًّا فريدًا يعكس عمق الذاكرة العربية وغناها، ويظلُّ حتى اليوم من أبرز تمثيلات الأدب الشعبي الذي يربط الإنسان العربي بجذوره، ويُغذِّي خياله وهويته الثقافية.

13- استلهام السيرة الهلالية في الرواية يعزز الوعي بثراء السرد الشعبي العربي، ويُبرز استمراريته الرمزية في الأدب الحديث، وهو الأمر الذي يُساهم في إعادة تقييم موقع التراث الشفاهي داخل الثقافة المعاصرة. ويُظهر كيف أن الروائي: سمير درويش تمكن من استرجاع الذاكرة الجمعية وأعاد تشكيلها، لا كحنين سطحي، بل كأداة تفكير نقدي في قضايا مثل الهوية، الصراع، والانتماء. وكأن البنية الملحمية في رواية: ليس بعيدًا عن رأس الرجل تعبِّر عن نزوع إنساني إلى فهم الوجود من خلال الحكاية الكبرى، وتسعى إلى تقديم العالم في تشكُّله الكلي، لا من زاوية شخصية ضيقة. ولهذا ظلَّت هذه البنية حاضرة في الرواية كوسيلة أدبية لفهم المصير الإنساني، والاحتفاء بالتجربة الجمعية، واستنطاق التاريخ بلغة الفن.

14- توظيف التراث في الرواية المعاصرة: استراتيجية فنية وجمالية لا تعني مجرد استحضار سرديات تقليدية من أجل زخرفة النص أو ملء الفراغ السردي، بل تعني، في جوهرها، تفكيك تلك السرديات وإعادة تأويلها من منظور نقدي معاصر. ومن خلال هذا المسعى، يُعاد توظيف التراث -بما فيه من رموز وقيم وبُنى سردية- بهذا التوظيف الواعي، لا تقع الرواية في فخ النوستالجيا أو التقديس الساذج للتراث، بل تستخدم البنية الملحمية للسيرة الهلالية كأداة فنية وفكرية لإعادة قراءة الإنسان العربي المعاصر، وهو يقف على أنقاض تاريخه، متسائلًا: من نحن الآن؟ وأين ذهب ذلك المجد الذي رافق فرسان بني هلال؟ وبذلك، تُثبت الرواية أن السيرة الهلالية ليست مجرَّد ماضٍ، بل مادة حيَّة قابلة للتأويل والتجديد في ضوء قضايا العصر وأسئلته، في هذا السياق، تأتي رواية: ليس بعيدًا عن رأس الرجل كعمل سردي واعٍ يوظِّف السيرة الهلالية ليس بوصفها حكاية بطولية من الماضي، بل بوصفها رؤية للعالم تحمل بداخلها توترات الصراع العربي مع ذاته، ومع الآخر، ومع الزمن. فالرواية لا تقتبس عناصر السيرة الهلالية لتكرارها أو إحيائها بشكل فولكلوري، بل تعيد بناءها فنيًّا لتعبِّر عن التمزق الداخلي للإنسان العربي، وعن تحوُّل البطل من فارس يحمل السيف إلى فرد تائه في سؤال الوجود. تجسِّد من خلاله ملامح الرؤية المعاصرة للتراث التي ترفض التلقي السلبي، وتتبنَّى موقفًا نقديًّا يطرح على التراث تساؤلات مثل: ماذا تبقى من البطولات الملحمية في زمن الفرد المنكسر؟ وكيف يمكن قراءة المجد الماضي دون الوقوع في وهم الاسترجاع؟ وهل البطل الشعبي قادر على إنقاذ الحاضر، أم أنه هو ذاته يحتاج إلى إعادة بناء؟

15- في السيرة الهلالية تظهر العادات في شكل طقوس حياتية متكررة من عادات الضيافة والكرم، إلى طقوس الحرب والثأر، إلى طقوس الزواج، وهي جميعها تعكس منظومة متكاملة من القيم القبلية التي تُنظم علاقة الفرد بالجماعة. كما تحضر المعتقدات الشعبية مثل تفسير الأحلام، والتفاؤل والتشاؤم، والتبرُّك بالأولياء، والإيمان بالقدر والمكتوب، ما يدل على محاولة الثقافة الشعبية تفسير الغموض والقلق الوجودي بأساليب رمزية وسردية. أما المعارف الشعبية فتتجلَّى في الحكمة المتوارثة، والخبرة الحياتية، وأساليب المداواة، وأمثال الفروسية والدهاء، وغيرها. عند توظيف هذه العناصر في رواية: ليس بعيدًا عن رأس الرجل لا تظهر بوصفها تقاليد جامدة، بل كجزء من هوية النص، مشروطة بالذاكرة وبسؤال الجدوي والتصورات المتوارثة، لكنها غالبًا ما تضعها في موضع التساؤل أو المفارقة؛ في هذا السياق تُشير الرواية إلى التحوُّلات في النظرة إلى القدر والمصير، فبدلًا من التسليم الكامل بالمكتوب، تبرز نبرة شك وسؤال، تدفع القارئ إلى تأمل دور الإرادة الفردية، وحدودها، في مواجهة بنية ثقافية تقليدية تُفضِّل الامتثال إلى جانب استحضار المعارف الشعبية لا بوصفها بدائل معرفية للعلم، بل كعلامات على ماضٍ تتصارع معه الذاكرة، في محاولة للتوفيق بين الرؤية العقلانية الحديثة والإرث الرمزي الذي تحمله الثقافة الشعبية. معنى ذلك أن العادات والمعتقدات والمعارف الشعبية التي تلعب دورًا جوهريًّا في بناء العالم السردي داخل السيرة الهلالية، عندما يُعاد توظيفها في رواية معاصرة؛ فإنها لا تُستعاد كما هى، بل يُعاد تشكيلها ضمن بنية سردية حديثة تُعيد النظر في تلك الموروثات بوصفها جزءًا من ذاكرة مشروطة بالزمن والوعي.

16- استلهام السيرة الهلالية في الرواية ارتبط بثلاثة أبعاد رئيسية: البعد الفني من خلال تحويل البنية الملحمية إلى بناء سردي حديث، يعتمد على التشظي، وتعدد الأصوات، واللاخطية الزمنية. والبعد الرمزي إذ تُصبح شخصيات السيرة رموزًا قابلة للتأويل، تعكس أزمات معاصرة مثل ضياع الهوية، وسقوط الأحلام القومية، وتشظي الوعي الجماعي. والبعد النقدي حيث مراجعة الرواية للمسلَّمات التي رسَّختها السيرة، مثل مفهوم البطولة، والانتماء، والعدو، والخير والشر، وتضعها في سياق مساءلة معرفية تتماشى مع قلق الإنسان الحديث. وهذا هو الأمر الذي يجعل الرواية لا تنتمي فقط إلى جنس “الرواية المستلهمة من التراث”، بل إلى مشروع أعمّ هو تحديث الوعي الثقافي من خلال الفن السردي.

 

مصادر الدراسة:

رواية ليس بعيدًا عن رأس الرجل: عزيزة ويونس، الصادرة عام 2024م، عن دار بتانة للنشر والتوزيع، للكاتب: سمير درويش.

 

المراجع مُرتبة أبجديًا:

1- إيليا الحاوي، في النقد والأدب، دار الكتاب، بيروت، ط1، 1979م.

2- جابر عصفور، زمن الرواية، مكتبة الأسرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1999م.

3- رومولو رونتشيني، سوسيولوجيا الأدب، مجلة الاتحاد الإماراتية، الملحق الثقافي، 2016م.

4- شوقي عبد الحكيم، الرجل والمرأة في التراث الشعبي، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 2014م.

5- هويدا صالح، الهامش الاجتماعي في الأدب: قراءة سوسيوثقافية، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2015م.

 

…………………………..

([1]) هويدا صالح، الهامش الاجتماعي في الأدب: قراءة سوسيوثقافية، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2015م، ص11.

([2]) جابر عصفور، زمن الرواية، مكتبة الأسرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1999م، ص195.

([3]) شوقي عبد الحكيم، الرجل والمرأة في التراث الشعبي، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 2014م.

([4]) رومولو رونتشيني، سوسيولوجيا الأدب، مجلة الاتحاد الإماراتية، الملحق الثقافي، 2016م

([5]) إيليا الحاوي، في النقد والأدب، دار الكتاب، بيروت، ط1، 1979م، ص89

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم