(الناس تريد مصائب وكوارث محددة وملموسة بوضوح – وأنت أعطيتهم هذا : قلب مريض .. زوجة ميتة .. ابن عاطل .. ابنة مجنونة .. صديق مدمن )
لكن من قد يرى ما بداخل هذا المستلقي وما بداخل العيون المتطلعة لفضائح ودماء الأخرين، وأرجلهم المتعطشة للعبث بقطعهم الملقاة فى عرض الطريق، وآذانهم المستمتعة بصوت طفولى غاضب يخرج من شباك لم يكتمل يوماً فعل انفتاحه على آخره، أو على مصراعيه ككلمة مملة .
إنهم منتبهو الحواس ويفعلون كل ذلك كى يشعروا بمدى قوتهم وبأنهم لايزالون بخير وأنهم أقوياء وأنه يجب شكرهم وإعطائهم ميداليات ذهبية من مركز الكون حيث انهم لم يصلوا لهذه المرحلة التى وصل لها آخرون …
)هل جربت الفرح برسالة الترحيب الآلية التى تظهر لك بعد تسجيلك فى منتدى أو عندما يرسل لك المنتدى رسالة تهنئة على الإيميل يوم عيد ميلادك ؟ .. حينما تكون فى أشد الحاجة للتحدث مع أحد وتتصل بصديق؛ هل لاحظت نبرة السخرية في صوت المرأة التي تخبرك بأن ” الهاتف الذى طلبته ربما يكون مغلقاً، من فضلك حاول الاتصال فى وقت أخر ” ؟) ستكون كاذباً لو قلت أنك لم تجرب هذا كله
لم تسعد يوماً باللعب بجمجمة ملقاة فى الطريق قبل أن تدحرجها حتى بالوعة المجاري المفتوحة، هل اختبرت شعور جمجمة تسبح في ماسورة صرف بعد أن لعب بها أحدهم ككرة غير عابيء لمن هي وحتى غير متسائل عن لمن هي و من فصلها ولماذا على الأقل .
مشكلة الكتابة عن رواية كهذه أنها على حجمها الصغير كبيرة مشحونة، وأنني لست بناقد أصلاً، أنا أتحدث عن ما يؤثر في أنا وعن ما يتلاقى معي أنا، وأظن أنه حتى هذه لا يسلم منها ناقد إلا لو كان كمدرس لغة عربية إلزامي بتعبير ممدوح رزق نفسه .
ولكن لو حاولت اللعب بذاكرتي بعد انتهائي من الرواية وحاولت تسجيل الكلمات التي لازالت عالقة بذهني بقوة فستكون هكذا بدون ترتيب مقصود ولكنني أظن أن تذكرها بعينها له معنى ما وأن الترتيب له بداخلي معنى، سأفتح صفحة الورد وسأسجل هذه الكلمات :
يانيس ريتسوس، وودى آلن، كيركيجور، مخدرات، مدمن، عاطل، مستبعد، منتدى إنترنت، شرم الشيخ، الغردقة، باريس، مصحات نفسية، جاز، عازف ترومبيت، فنانه تشكيلية، فلسفة، الكوميديا، دار نشر، مقويات، شيخوخة، رقيق، لن أغضب، نصوص، سلطة، مقاهى، هازيء، متوتر، استمناء، eggs، سبحة، هاكر، خيبة أمل، فضائح، مجنون، ة، نادي القتال …
لا تنتهي الكلمات ولا الأسماء هذه عينة فقط، لكن يتلاقى معي بالطبع المكان؛ فالمنصورة حاضرة وبقوة فهي ليست مجرد موضع إقامة ولا أحداث حياة للكاتب بل هي مكوّن لا يريد أن ينفصل عن الكاتب ولا يريد الكاتب أن ينفصل عنه، إنه المكان يلح دوماً فهناك لقاء بالأب داخل جامع (السنجق) حيث الأب في مركز الكون يصلي بنسخة من نادي القتال، وحيث يدور بينهم حوار وكأنه صلاة متبادلة وليس كحوار عادي يدور بين شخصين،
وكوبري طلخا وكوبري الحديد ومنطقة النوادي هذا الشريط بين المعبرين حيث يتمنى الكاتب العبور لكن يعود مرة أخرى فقد كان يدور حول الهرب ولا يريد الهرب بالفعل، لقد كان يلعب بفكرة الهروب يقتل بها الوقت وستقتل هي بعد عبور الوقت، بل هي مقتولة قبل عبوره .
شارع العباسي وكشري عبده .. لن ينتهي العد لو حاولت التحدث عن ما يتلاقى معي، لكن لا أستطيع أن أتخطى لحظات جلوسه وحيداً على ترابيزة بجوار غرباء بداخل مطعم مشحون بالناس وحركة الأكل لكنه وحيد ولا يختلط بأحد هل لا يريد أو هل اعتاد أو هل يتحصن بما في داخله أم هل يتحصن من ( الخيانات المتنكرة )
أن تلتقي مشاعر لك ومواقف مع مشاعر ومواقف شخصية فى رواية أو مشاعر الراوى نفسه فليس معنى هذا أنه سرق حياتك بل قد يعني ببساطة أنه عاش ما عشته أو أجاد التعبير عن ما تلاقى معك .. ما الذى قد يكون غريبا في هذا ، أن تعيش مع الراوي ومع الرواية؛ فالراوي نفسه يتحدث عن التماثل مع بطل سينمائى بداخل فيلم، بعد أن يتجاوز مضطراً الضرورة التقليدية لوسامة البطل القارة في تصوره كما زج بها في وعيه …
) أحس فجأة أنه التجسيد الواقعي للبطل السينمائي في صورته المعروفة، والذي يحمل دائماً ملامح متجهمة، وينظر إلى أشياء العالم بعمق بينما يرتحل بمفرده فى فيلم ما (
تساؤله هل يجب – فى لحظة وجد فيها نفسه هو وأباه محرومان من تصديق كل شيء – أن يفعلا مثل ( فورست جامب ) .. هو يسير بجانب أبيه وكلاهما فى تعبيره – فى هذه اللحظة عاريين من الحقائق الصغيرة التي يحتاج أن يصدقها كل كائن ليحافظ على يقينه بوجود غاية غيبية كبرى وبالتالي يصدق أنه ليس غافلاً.
الأم المريضة والأخت المهمشة، نظرة للواقع بصورتين صورة حقيقية وصورة متخيلة ولن تعلم أي الصورتين حقيقة .. إبحث عن حقائقك وخيالاتك أنت .
الكتابة والهواجس الشخصية وما وضع بين قوسين كحديث من الراوي لنفسه وللمتلقي ولروائيين آخرين، وأنه ( على الروائي أن ) ؛ خطة طويلة وقد تكون ممارسات حياة الراوي نفسه وقد تكون أمنيات وقد تكون رسالة .
لا أظن أنه يمكن تقديم رواية كهذه من خلال محاولة عرضها لكن شكراً للمتعة التي يروجها ممدوح رزق، رغم أنه قد يبدو من العنوان وغلاف الرواية بلوحة سلفادور دالي أنها كئيبة بالكلية.
…………….
نشر في مجلة المحلاج
5 / 1 / 2013