تاريخ وجدان ترسمه الذكريات الحرة

حسن عبدالموجود فى "ساق وحيدة"
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أحمد الخميسي  

عندنا في مصر عدد من الكتاب لم يحظوا بقدر كاف من الاهتمام مقارنة بحجم ما قدموه، لا لشيء إلا لبعدهم الجغرافي أو النفسي عن بؤر صناعة النجوم. من أولئك الكاتب حسين عبد العليم الذي أصدر ثلاث مجموعات قصصية، وأربع روايات بدءا من عام 1990. روايته “رائحة النعناع” هي روايته الأولى، والخامسة أيضا! فقد سبق له أن نشرها في قصور الثقافة عام 2000، وهو العام الذي وقعت في نهايته أزمة الروايات الثلاث الشهيرة حين صادرت وزارة الثقافة الروايات: أبناء الخطأ الرومانسي لياسر شعبان، وأحلام محرمة لمحمود حامد، وقبل وبعد لتوفيق عبد الرحمن. وحينذاك غطت ضوضاء الأزمة على كل شيء، فلم يلتفت أحد إلى “رائحة النعناع” وإلى غيرها.

الآن تصدر الرواية عن دار ميريت في نحو ثمانين صفحة، وكأنها فعليا تنشر أول مرة. الرواية أقرب ما تكون إلى “تاريخ وجدان” وكيف شكله الحب والموت والحرب. حبه الأول لصافي التي مازالت تنبثق في وعيه مثل “غيمات وردية.. وتقطيرا منمنما للجمال”، وحبه لزينب، ثم منى.

الوجدان الذي شكله موت الوالد، ثم موت الأصدقاء وانتحار بعضهم، بل وموت جمال عبد الناصر، كما شكلته مغامرات الصبا الشجاعة الخرقاء أحيانا، وأحلام الطفولة. إنه وجدان يتبين لنا شيئا فشيئا، قطعة فقطعة عبر دفق من ذكريات حرة مفككة باحثا عن رائحة النعناع الأولى، وسعادته القديمة التي اندثرت برحيل عالم كامل وزواله. تنسال الأحداث والصور على ذهن الراوي فتنتقل من زمن لآخر في تيار حر، من الطفولة والمدرسة والصبا، والشباب في السبعينات والجامعة، وأغنيات مثل “وطني حبيبي الوطن الأكبر” و”قلنا ح نبني وآدي احنا بنينا السد العالي”، وكلية الحقوق، والنكسة، والعمل، وسنوات الاحتلال، ثم حرب أكتوبر، وأخيرا مصاعب الحياة التي تأخذ بخناق الرواي وأسرته الصغيرة وهو يغدو شيئا فشيئا صورة من أبيه الراحل.

وخلال تلك الرحلة الطويلة سيجد الراوي أن صوت عبد الحليم حافظ الذي يشبه “الوجد المذاب” هو وحده الذي ما زال قادرا على أن يعيده إلى ما كان عليه ذات يوم. ولا تحتاج الحياة التي اندثرت لكي تنبعث من جديد إلا لرائحة عابرة، كرائحة صابون كامي التي تسوقه لرؤية وجه تهاني الجميلة شقيقة نسيم فكري، أو رائحة النعناع لكي يرى أسرته الأولى. وخلال ما يبدو أنه تدفق حر للذكريات يختار الكاتب الأحداث التي يرى أنها ذات دلالة في تكوين الشخصية وتحديد مصيرها.

يلجأ حسين عبد العليم لإيقاع المشاهد السينمائية السريعة التي ترتوي من أطراف بعضها البعض، وبها يبني المؤلف الشخصيات والمغزى العام. هذه الطريقة في الكتابة قد تكون قاتلة لو جاءت سردا للذكريات بالمعنى المعروف للسرد. لكن حسين عبد العليم يقدمها في صور وأحداث صغيرة بعضها مشبع بروح الفكاهة، تاركا للقارئ تجميع الصورة العامة. وهو ما فعله الكاتب فيما بعد في روايته “بازل” التي صدرت عام 2005.

و”بازل” هو اسم اللعبة التي يقوم فيها المرء بتجميع أجزاء مبعثرة إلي أن تكتمل اللوحة أمامه. وفيها يغترف حسين عبد العليم نماذجه من قاع المدينة ليقدم لنا شخصيات “تطلب الغفران ولا تطلب التوبة” في ظل قاع من الوحل والنور يجبر البشر رجالا ونساء على بيع أنفسهم من أجل البقاء أحياء. إنه قاع الأزقة الفقيرة حيث ينعدم المنفذ والأمل والضوء، إلا ذلك البصيص من النور الخافت الذي يهتز داخل الأرواح المنهكة.

في “رائحة النعناع” وفي “بازل” وفي رواية “سعدية وعبد الحكم” الصادرة عام 2006 يشكل الواقع نقطة انطلاق الكاتب. وهو واقع بعيد تماما عن التأسي لحال المثقف الفرد ورثاء الذات والماضي. إنه واقع المهمشين والمطحونين بطرق مختلفة في قاع المجتمع، سواء أكان ذلك في الفيوم كما في “رائحة النعناع”، أو في القاهرة كما في “بازل” و”سعدية وعبد الحكم”. حيث يتوقف الكاتب عند ظاهرة البغاء الذي كان عملا مسموحا به قانونا قبل ثورة يوليو. هناك نلتقي بسعدية الشابة التي جاءت من بلدها طنطا إلي القاهرة بعد وفاة زوجها، وبحثت بمحض إرادتها عن شارع كلوت بك حيث تقع بيوت الدعارة، والتحقت بواحد منها، ليس تحت ضغط اقتصادي أو اجتماعي، ولكن لمجرد أنها كانت على حد قولها “عاوزة تجرب” ولأنها” بتحب الجو ده.. وعاوزه تعيش فيه.” وتحفل الرواية بتفاصيل كثيرة عن تاريخ البغاء في مصر، وتطور المضادات الحيوية للأمراض الجنسية والمستشفيات، والقوّادين، والوضع السياسي في مصر والاغتيالات والمظاهرات.

في “رائحة النعناع”، وفي “بازل”، ثم في “سعدية وعبد الحكم” يكاد حسين عبد العليم أن يضع يده على طريقه الخاص، حين يعمل جاهدا على تشتيت بؤرة البناء الروائي التقليدي بتلك الومضات السريعة التي تلوح في أزمنة مختلفة، وينجح بدون شك في تقديم نماذج حية ومقنعة وعلى نحو ممتع. إلا أن حجم العلاقة بين تلك النماذج والمغزى العام يظل موضع تساؤل. إلي أي مدى يرتبط “تاريخ ذلك الوجدان” في رواية رائحة النعناع بمعنى أعم وأشمل؟ أقول “إلى أي مدى” لأن هناك ارتباطا يتضح في إضاءات سريعة بين الرواية وبين قصة جيل بأكمله. لكنني أتساءل: هل أوفى الكاتب الموهوب العلاقة ما بين الخاص والعام حقها؟ أعتقد أن هذا هو السؤال الذي ينبغي للكاتب المبدع حسين عبد العليم أن يوليه أهمية.

 

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم