بي دي إف| ديوان “أبحث عن الشعر” للشاعر العراقي مروان ياسين الدليمي

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ينشر موقع الكتابة الثقافي نسخة إلكترونية من ديوان “أبحث عن الشعر” للشاعر العراقي مروان ياسين الدليمي، والذي صدر أخيراً، ويتألف من نص شعري طويل يضم 116 مقطعًا، يسبقه تمهيد نقدي كتبه الشاعر الناقد العراقي بولص آدم.

ويقول آدم في تقديمه ” في هذا النص، نقرأ الشاعر لا كمنظّر، بل ككائن جريح يلتقط أنفاسه بالحبر. لا نستقبل من نصه الملحمي هذا أجوبة، بل نتلقى أسئلة متعبة تمشي على عكاز الحروف. لم يدّع خلاصًا، بل قدّم لنا ورطة: ورطة الجمال وسط البشاعة، ورطة المعنى وسط التكرار”.

لتحميل نسخة إلكترونية من الديوان.. 

                اضغط هنا

.

.

لقراءة نص الديوان:

marwan yasseen

أَبحَثُ عَنِ الشِّعر

مروان ياسين الدليمي

(1 )

أبحث عن الشعر،

كما يبحثُ الماءُ عن ملامحهِ في كأسٍ مكسور،

أو كما تتذكّر الريحُ شكلَ الغصن الذي لم تلمسهُ قط.

كلما وضعتُ يدي على كلمة،

انكمشتْ،

صارتْ صَدَفةً،

وأصدرتْ أنينًا خافتًا،

كأنها تتألّم من المعنى.

الليلُ،

ذاك العاطل عن الضوء،

يمشي أمامي

بقدمين من قَطِران

وعينين مملوءتين بخيبةِ العشّاقِ الذين كتبوا قصائدهم

على الرمل.

(2)

رأيتُ جملةً تتسلّقُ جذعَ شجرة،

تشمّ الأغصان،

وتذوبُ في لحاءِ الكلمات،

كأنّها تبحث عن شتائمها الأولى

في الكتب المقدّسة.

السماءُ لم تكن زرقاء.

كانت رائحةَ حبرٍ بائد،

كلّما فتحتُ نافذة،

انتشرَ عبيرُ الورق المحترق،

وانهارتْ المجازاتُ مثل سلالمَ من طين.

(3)

المنطقُ

كذبةٌ تصلحُ لجدول الضرب،

لكنها تفشلُ في تبرير لماذا تبكي المرآةُ

حين لا يقفُ أحدٌ أمامها.

في هذا الصباح،

شربتُ فنجانَ قهوةٍ

بطعمِ صوتٍ قديم،

وأدركتُ أن السمعَ أحيانا

يخرج من فمك.

(4)

الشعرُ ليس طائرًا.

بل جناحًا يرفضُ العودةَ إلى الطائر.

رأيته مرّةً،

يمشي على عكّازين

صُنِعا من أنفاسِ جدّتي

حين كانت تمضغُ القصائدَ على شرفة الليل،

وتبصقُ على الأرضِ أسئلةً لا تموت.

(5)

أنا لا أكتبُ الشعر.

أنا أمدّدُ جثّة اللغة

وأنتظرُ أن يرتعشَ إصبعُها الصغير.

أحيانًا،

أسمعُ الأحرفَ تشهقُ في القصيدة،

تسعلُ،

تطلبُ ماءً،

ثم تقول لي بصوتٍ محشوٍّ بالصدى:

“لا تكتبني، دعني أعيش كغموض” .

(6)

ذات مساء،

تسللتُ إلى المعنى

كما يتسلل لصٌّ إلى بيتٍ خالٍ من الأثاث،

فوجدتُ الشعر نائمًا في دُرجٍ صدئ،

يحلمُ بأنه برتقالة

تتنفّس من قشرها.

كان الظلُّ يحرسه،

يعضُّ على أقدامه،

ويبتسم كما يبتسم الحزنُ

عندما يعجزُ عن البكاء.

قلتُ له:

هل أنتَ الكلمات التي لم تُكتَب؟

أم الصمت الذي لا يسكت؟

فأدارَ وجهه إلى الحائط،

ورسمَ عليّ جملةً لا يفهمها سوى الغبار.

(7)

كلُّ شيءٍ يشيخ،

حتى المعاني.

مررتُ أمس بشارعٍ تعفّن فيه التشبيه،

ورأيتُ مجازًا

يتسوّل تحت شجرة برقوق.

الطيور

كانت ترتدي قبّعاتِ سخرية،

وتغنّي قصائدَ عن النسيان،

بلحنٍ يُشبه ضحكةَ طفلٍ

لا يؤمن بوجود الغيوم.

(8)

في رأسي حديقة،

أزهارُها مكسوّة بالحبر،

ونحلُها يلسعُ الصمتَ

حتى يسيلَ منه الكلام.

الماء هناك لا يُشرب،

إنه يُقرأ،

كل قطرةٍ صفحة،

كل ارتعاشةٍ سطر،

وكلّ ما لا يُقال،

يسقط في التربة كشظايا سؤال.

(9)

أنا لا أبحث عن الشعر،

أنا أبحث عن السبب الذي يجعلُ الحجر

يريد أن يرقص،

وعن الكلمة التي توقظُ الريح من نومها.

لماذا يخاف الباب من الغياب؟

ولماذا تنامُ الحروفُ عاريةً

حين نغلقُ الدفاتر؟

أنا مجردُ شُرفة،

يمرُّ منها الوقتُ

متنكّرًا في هيئةِ ديكٍ مبلّل،

يصيح

ولا أحد يستيقظ.

(10)

في النهاية،

الشعر لا يسكن الورق،

ولا في فم الشاعر،

بل في اللحظةِ التي يعجزُ فيها الإنسان

عن قول “أنا”

فيقول “هو”…

ويشيرُ إلى ظلّه

كما لو أنه

القصيدة الوحيدة التي كتبها دون أن يدري.

(11)

في فمي حفرة،

كلما نطقتُ،

سقطَ منها معنى،

وتكسّر كما تتكسّر المرايا

حين تحاول أن تعكس شيئًا لا يُرى.

كنتُ أظن أنّ الشعر طريق،

فاكتشفتُ أنه قافلة،

تسير في العكس،

تُقلّك من بيتك إلى طفولتك،

ثم تتركك هناك،

عارياً،

تلهو بألعابٍ مكسورة

صُنِعت من صمتِ أمّك

حين كانت تبكي ولا تريد أن تُفسّر.

(12)

العينُ تسمع أحياناً،

والأذن ترى،

حين يضيع المعنى في الزحام.

كتبتُ سطراً بطعم النارنج،

وآخرَ بملمس صوتٍ مبلّل،

وامتدت يدي لأقطفَ من القصيدة

رائحةَ نهارٍ لم يأتِ بعد.

ما أدهشَني:

أنّ الليلَ حين يتثاءب،

ينبعث منهُ عطرٌ يُشبهُ ذاكرةَ الأرصفة،

حين تغفو بعد المطر.

(13)

الشعرُ

ربّما هو حيوانٌ بريّ،

يسكنُ في قبو اللغة،

ولا يظهرُ

إلا عندما تشمُّ الكلمةُ

رائحةَ فزعِك.

هو ليس غامضًا،

بل نحن الذين نفتّش عنهُ بمصابيحَ عمياء،

ونغضبُ حين يُضيءُ أماكنَ لا نحبّها فينا.

(14)

أكتبُ القصيدة كما يكتب المجنونُ

وصيّتَه على الحائط:

كلماتٌ مجرّدة من العقل،

لكنها مبلّلة بدم القلب.

أترك علاماتٍ لا ترشد،

وخرائطَ بلا شمال،

وأمنحُ لكلّ قارئٍ حقّ التيه،

فمن لم يضِع في المعنى،

لن يعرف أن الشعر هو نوعٌ آخر من الخراب،

خرابٌ

يجعلُك تحبّ العالم أكثر،

لأنه لا يفهمك.

(15)

الشعرُ لا يُولد من العقل،

بل من عطبٍ صغير في آلة الفَهم.

هو جرحٌ يتقنُ التخفي،

يضحكُ حين نُحاول تضميده بالكلمات،

ثم يفتحُ فمهُ ليلتهمَ الصياغة.

في تلك اللحظة،

أدركتُ أنّ البيت الشعري ليس بيتًا،

بل زقاقٌ ضيّق تضيع فيه خطواتي،

وأصواتُ المارّة كلُّها تقول لي:

“ارجع إلى الخلف،

فلا أحد هنا يعرفُ لماذا البكاءُ يبدو موسيقًى

حين لا يسمعه أحد”.

(16)

حين كنتُ صغيرًا،

كنت أظن أن الشعر هو ما تقولهُ جدّتي وهي تطهو.

الآن،

أفهم أنها كانت تكتبُه بالبصل،

وتنقّطهُ بالملح،

وترتّله بصوتٍ مُبحوح،

في صحنٍ من الخوف

وأصابعَ من ذهبٍ مكسور.

(17)

أحيانًا،

يمرُّ أمامي ظلٌّ أشعر أنه يشبهني،

لكنه لا يسلّم.

أتبعه،

أدخّن خطواته،

أسأله: هل الشعرُ أنت؟

فيضحك كمن وجد مزحةً في جنازة،

ويرد:

“أنا فقط

الفكرة التي نسيتها على السطر الرابع،

حين خفتَ من نفسك”.

(18)

أكتب لأني لا أجيدُ الحديث.

أحبُّ المجاز،

لأنه لا يطلبُ إثباتًا

ولا يردّ على الهاتف.

الصورةُ عندي لا تُوصف،

بل تُشمّ،

تُذاق،

تُغنّى بين الأسنان،

كأنها خُدعة

أُتقنتْ لا لتُفهم،

بل لتوقظَ فيك إحساسًا بأنك نسيت شيئًا…

ولا تعرف ماذا.

(19)

حين أنتهي من كتابة القصيدة،

أشعر أنها لم تبدأ بعد.

كأنني

تركتُ فيها فوضاي،

وتركتني في الخارج،

أطرقُ الباب على جملةٍ

لا تفتح.

في اللحظة الأخيرة،

يهمس لي الحبر:

“ربما

الشعرُ ليس ما كتبته،

بل ما فشلتَ في محوه”.

(20)

الشعرُ لا يقول الحقيقة،

بل يبتسمُ لها كأنها نكتةٌ سيئةُ الإعداد،

ويعبرُ عنها بصوتِ قِطٍّ يموءُ

داخلَ صندوقٍ مغلق.

هو لا يشرح،

بل يلمّح،

يترك نصف الباب مواربًا،

كي يتسلّل الشكُّ بهيئةِ يقينٍ قديم.

أحيانًا أراه واقفًا عند ممرّات الذاكرة،

يمسكُ بيدِ نسيانٍ يرتدي معطف أمي،

ويقول لي:

“كُفَّ عن التنقيب،

من يعرفُ أكثر، يكتبُ أقل.”

(21)

في القصيدة،

ينبحُ الزجاج،

وتنزفُ الأشجارُ طينًا،

وتضعُ الأسماءُ حذاءً جديدًا لا يناسب مقاسها.

الصمتُ فيها ليس غيابًا،

بل حضورٌ ضاجّ،

يصرخُ بلا صوت،

ويربتُ على كتف الجملة كما لو أنه أبٌ

يواسي أبناءهُ بعد الحريق.

(22)

لماذا أكتب؟

أكتب لأمنحَ الغيومَ أسماءً

لا تخافُ من الشروق.

لأربّي نملةً في جيبي تعرفُ الطريق إلى بيتِ العدم،

وتعود كلّ مساء محملةً بجملةٍ ناقصة وحرفٍ مذعور.

أكتبُ لأنّ الحياة كائنٌ هشّ،

يحتاجُ إلى من يشير إليه ويقول:

“ها هو المعنى، خائفٌ ، لكنه يتنفّس” .

(23)

في رأسي متحفٌ للعباراتِ المعطوبة،

قصائدُ شُفيتْ من أصحابها،

ونصوصٌ تمشي على عكّازات الأسى.

كلّما قرأتُ واحدة،

انبعث منها صوتٌ يشبه وقعَ المطر

على صفحةِ دفترٍ مبلّل،

وكلّما اقتربتُ،

همستْ لي بشراسةٍ شاعرٍ ميت:

“لا تفسّرني،

أنا لستُ لك،

أنا فقط صدى لما لم يحدث بعد.”

(24)

وإن سألتني من جديد:

أين أجدُ الشعر؟

أقول:

في الغرفِ التي يعلو فيها الغبارُ على الكتب،

في نظراتِ المجانين حين يرون ما لا نراه،

في الجملةِ التي كتبتها ثم شطبتها

لأنها بدتْ صادقة أكثر مما ينبغي.

(25)

أكتبُ الشعر

حين يعجزُ الهواء عن المرور من رئتي،

حين تصبحُ اللغة ضيّقةً كقميصٍ في العزاء،

وحين يُطْفأُ النورُ في الغرفة،

فأشعلُ القصيدة.

ليس لأنّها تضيء،

بل لأنها تهمسُ في العتمة:

“كلّ شيءٍ سيتكسّر، فلماذا لا تغنّي؟”

(26)

جلستُ مرةً أمام جملة،

كانت ترتجف،

تخشى أن تُكتَب،

كأنها شاهدةُ زورٍ في محكمة الحياة.

تركتها،

لكنني لم أقدر على نسيان ارتعاشها،

فحملتها معي كجثةٍ لم تجد اسمها  في سجلِّ الموتى،

ولا في دفاتر الشعراء.

(27)

في داخلي أرشيفٌ من الصور الممزقة،

أطفالٌ يركضون بين الأحرف،

نساءٌ يضحكنَ

كأنّ الضحك لم يُخترع بعد،

ورجالٌ يدفنون مفاتيحهم في جيوبِ القصائد،

ويغادرون.

كل هؤلاء

عادوا إليّ في سطرٍ واحد،

فامتلأتُ بالحنين كما تمتلئ السُحُبُ

باسمٍ لم يُنطق.

(28)

الشعرُ

لعله الخطأ الجميل الوحيد الذي نرتكبه عن وعي،

ثم ندّعي

أنّ شيئًا فينا تغيّر.

هو الممرّ الجانبي

لمن لم يُسمح لهم بالحديث في العلن،

وهو المائدة الوحيدة

التي تجلس حولها الكلماتُ

دون أن تُؤمر بالغسل

أو الطاعة.

(29)

أحيانًا

أكتبُ قصيدةً كاملة

لأُبرّرَ لحظةً واحدةً من حياتي،

لحظةً خرساء لم أفهمها آنذاك،

لكنها الآن تهمس لي من بين الحروف:

“كنتُ أنت، قبل أن تصير أنت.”

(30)

الآن،

أضع القلم،

وأمشي خلف ظلّي،

لا أسأل،

لا أجيب،

فقد تعلّمتُ أنّ الشعر ليس سؤالًا،

ولا جوابًا،

بل الغيمة التي تمرُّ فوق الاثنين،

وهي تضحك،

ثم تختفي.

(31)

كلما أوشكتُ على الإمساك بالقصيدة،

انسلّتْ من يدي

كعطرٍ قديم نسيَ شكلهُ في الزجاجة.

أعرفُ أنها كانت هنا،

تركتْ أثرَ أصابعها على حافة الليل،

وتركت لي هذا الصوت،

هذا التشويش الحنون

الذي يجعلُ من اليقين أكثر الأوهام هشاشةً.

(32)

أحيانًا

أفكّر أنّ القصيدة

تشبهُ بابًا في جدارٍ لا جدار فيه،

بابٌ يتدلّى من الهواء،

وكلّ من عبره سقط في ذاته.

أكتبُ كي أهبط،

كي أتذكّر أنّ للهاوية صوتًا

يشبهُ ضحكة الأم حين تخفي خوفها

في جيب مريول المدرسة.

(33)

الأشياء التي لا تُقال،

هي التي تكتبني.

صوتُ صحنٍ ينكسر في الغرفة المجاورة،

صورةُ جدي وهو يسكب الشاي

كما لو كان يقدّم صلاةً.

رائحةُ الخبز،

حين يتسلل من نافذةٍ مغلقة،

كأنه يريد أن يقول:

“ما زلتُ هنا، في التفاصيل الصغيرة،

أغني لكم بصوتٍ لا تسمعونه”.

(34)

الشعر

ربما هو انتقام الصمت من الفصاحة،

أو انتقام المعنى من نفسه.

ليس حقيقة،

ولا كذبة،

بل منطقةٌ رماديّة

يرتعش فيها كلُّ شيء بلا سبب،

ثم يعود إلى سكونه كأنّه لم يكن.

(35)

إن سألتني الآن:

هل وجدتَ معنى الشعر؟

أقول: لم أجده،

لكنني صرتُ أعرف كيف أنظر إلى الأشياء

دون أن أطرد ظلّها،

كيف أترك الحروف تُخطئ،

وتنطق باسمي دون أن تطلب المغفرة.

أقول:

لم أجده، لكنني صرتُ أعيش بقربه،

كجارٍ للغموض،

نُسلّم كل صباح،

ولا نعرف أسماء بعضنا.

(36)

أنا لا أكتب القصيدة،

بل أُعدّ لها

مكانًا فارغًا،

كرسيًا مكسورًا،

ونافذةً تطلّ على جدارٍ يُشبه السؤال.

أحيانًا تأتي،

تجلسُ دون أن تنظر إليّ،

وتتركُ على الطاولة رمادًا يشبه المعنى

حين يتعب من احتراقه.

ثم تمضي،

وتبقى رائحتها في الورق،

كأنها مرّت من هنا لتقول لي:

“كلُّ ما لم يُفهم، قد فُهِم”.

(37)

هناك قصائد لا تكتب بالحبر،

بل تخرج من العَرَق،

من فمِ الجهد،

من رعشةِ اليد

وهي تفتّش عن نبضٍ في جثةِ اللغة.

كلّ استعارةٍ ولدت ميتة،

نفختُ فيها من خوفي،

وحملتها إلى الحديقة التي لا تنبت شيئًا

سوى أخطاء الشعراء.

(38)

الشعر ليس طريقًا إلى الفهم،

بل نفقًا نحفره في اتجاهٍ خاطئ

ونخرج منه بأسماء جديدة لألمٍ قديم.

هو ما لا يساعدك،

لكنّه لا يخونك.

يقفُ هناك،

ككلبٍ على عتبة الحلم،

ينبحُ عليك كي لا تنم،

ولا يدخل.

(39)

حين أقرأ قصيدة جميلة،

أغلق عينيّ،

كي لا أفسدها بالنظر،

فبعض الصور تتكسّر إذا شاهدتها مباشرة،

كحقيقةٍ تقولها أمٌّ ، ثم تندم.

أُصغي لها بأنفي،

أتذوّقها بأصابعي،

وأدعُها تمرّ في دمي كما تمرّ ذكرى لا تملك قدميها،

لكنها تعرف أين تسير.

(40)

في النهاية،

أنا لم أبحث عن معنى الشعر،

بل عن معنى لوجودي وأنا أبحث عنه.

وجدتُ خيطًا، فشدَدْته،

وانهارت القصيدة.

وفي الركام، لم أجد إلا قلبي،

ينبضُ خافتًا، كأنه يقول:

“الشعر ليس ما تُمسكه، بل ما يفلت منك،

ويظلُّ يذكّرك بأنك كنتَ

ذات مساءٍ تحاول أن تقول شيئًا

بصوتٍ لم يُخلق بعد.”

(41)

كلّما اقتربتُ من المعنى،

تغيّر شكله،

كأنه يسخر من محاولتي،

كأن الشعر لا يريد أن يُفهم،

بل أن يُعاش،

كحُمّى خفيفة لا نأخذ لها دواء.

مرّ أمامي صوتٌ يعرجُ،

يشبه لحنًا قديمًا نسي أن ينتهي،

فجلستُ بجانبه، وسألته:

هل أنتَ بيتٌ لم يُكتب؟

أم خطأٌ في نطق الصمت؟

فأدار وجهه عني، وقال:

“كلّ ما تفهمه الآن ليس شعرًا،

بل تذكّرٌ مؤلمٌ لِما لم يحدث.”

(42)

دخلتُ القصيدة

كما يدخل الغريبُ إلى بيتٍ هجرهُ الوقت،

حذِرًا،

أتحسسُ الأثاث،

وأسأل الهواء عن سكّانه.

وجدتُ كرسيًا يتنفس،

وساعةً تنزف،

وإناءً من الزجاج يبكي بلا دموع.

هنا،

كلُّ شيءٍ يقول ما لا يستطيع أن يلفظهُ الإنسان،

كلّ تفصيلٍ

يتآمر مع المعنى،

ليجعل من الغموض لغةً ثانيةً للوضوح.

(43)

حين أسأل نفسي: ما الشعر؟

يخرج طفلٌ من فمي،

يحمل وردةً من نار،

ويقفُ أمامي كمرآةٍ ترفض أن تعكس شيئًا

إلا وجهي حين أنكر نفسي.

أتبعه،

يضحكُ،

يركض،

يسقط،

وحين أصل إليه،

يكون قد اختفى في جيب نغمةٍ سمعتها ذات حلم.

(44)

الشعر لا يطمئن،

بل يقلق،

لا يعالج،

بل يفتح جراحًا من نوعٍ آخر،

جراحًا لها أصابع،

تكتبُنا حين ننسى،

وتربّت على أكتاف جُملنا

حين تفقد إيقاعها.

هو المِرآة التي كلّما نظرتَ فيها رأيتَ شخصًا لم تكنهُ من قبل،

لكنه يبتسم لك

كأنك كذبتَ يومًا وصَدّقك.

(45)

في الأخير،

لا أعلم إن كنتُ وجدت الشعر،

أم أن الشعر هو من وجدني يوماً،

في الزاوية البعيدة من الغرفة .

أضعُ يدي على قلبي كأنني أقرأ قصيدةً

بلا حبر،

بلا صوت،

بلا أملٍ أن تُفهم،

لكنها،

رغم ذلك ، حيّة.

(46)

حين أُمسك بالقلم،

أشعر أنني أحفر قبري في الهواء،

لا لأموت،

بل لأدفن صوتًا لم يُتح له أن يُولد.

تأتيني الجملة،

عاريةً،

ترتجف كعصفورٍ سقط من مجاز،

فأغطيها بورقة وأنتظر أن تنام.

لكنها لا تنام، بل تبدأ بالأسئلة:

من أين أتيت ؟

مَن الذي كَتَبني أو نَسيني؟

هل أنا الحقيقة،

أم أنا ما تبقّى منها بعد أن بكت؟

(47)

في بعض الليالي،

أسمع القصيدة تمشي فوق السقف، حافيةً،

ترتّل أسماءً لا أعرفها،

وتترك فوق رأسي غبارَ أفكارٍ لم تكتمل.

أمدّ لها يدي كما يمدّ الغريقُ إصبعه لسماءٍ مكسورة،

فتسحبني إلى الأسفل،

إلى اللغة التي تحت اللغة،

حيث لا توجد جمل،

بل أصواتٌ تئنّ

كأسرارٍ لا تجد أذنًا تصدّقها.

(48)

الشعر ليس زينة،

إنه الحفرة التي نرمي فيها الحقائق الثقيلة،

حين تعجزُ قلوبنا عن حملها.

هو الضحكة التي تفلت في جنازةٍ عاطفية،

التنهيدة التي تخرج حين تقرأ خبرًا لا يعنيك

لكنّ شيئًا داخلك ينكسر بصمت.

هو كل ما لا يليق أن يُقال،

لكنّنا نقوله لأنّ السكوت سيكون خيانةً أخرى.

(49)

أحيانًا،

أكتب جملةً فأشعر أنها لا تخصّني،

كأن أحدهم مات قبلي بقليل، ووضعها في فمي.

أحملها كما تُحمل الوصايا،

وأتجوّل بها بين رفوف الذاكرة،

أبحث لها عن قارئٍ فقدَ الإيمان،

لكنّه ما زال ينتظر رسالةً في قاع القصيدة.

(50)

الآن،

وقد مررتُ بكل هذه الأجزاء،

لا أقول إنني وجدت المعنى،

بل وجدتُ طريقًا يتكرّر،

ووجوهًا للحيرة،

وأصواتًا كانت تظنّ أنّ أحدًا ما سيصغي.

الشعر،

هو أن تمشي في ليلك وتسمع خطواتك تهمس لك:

“لست وحدك،

ثمة ظلّ آخر،

يبحث عنك منذ الكلمة الأولى” .

(51)

أكتبُ الآن

كما لو أنّي أترك أثرًا في الطين قبل أن تأتي العاصفة.

كل كلمةٍ أضعها أشعرُ أنها ليست لي،

أنها بُذرتْ في ليلٍ لا أعرفه،

وتركتْ لي فقط واجب السقيا،

وهَمُّ الانتظار.

وأحيانًا،

أنظر إلى الصفحة كمن ينظر إلى قبرٍ مفتوح،

ولا يعرف لمن سيكون.

(52)

في داخلي قصائدُ لم تُولد،

تمشي في دمي كأجنّةٍ تتنفّس بالمجاز،

تتقلّبُ في الغموض،

وتركلُ الصمتَ كي لا أنام.

إنها لا تريد الخروج،

تخافُ من الضوء،

تقول إن الورق ساحةُ إعدام،

وإنّ الحبر لا يرحم الارتباك.

لذلك،

أحتفظ بها

كما تحتفظ المدينة بقصائدها المهجورة

على جدران الحمّامات العامة.

(53)

الشعر ليس وثيقة،

ولا إعلانًا،

هو تلك الجملة التي تقرؤها وتتغيّر بعدها

كما لو أن أحدهم أزاح عنك جلدًا قديمًا

لم تكن تدري أنك ترتديه.

إنه ليس ما يُقال،

بل ما يُوجِع حين لا يُقال.

كأنك ترى أمّك تبكي، ولا تسأل.

كأنك تعبرُ فوق دمعةٍ وتظنها ماء.

(54)

كلما طالت إقامتي في اللغة،

صرتُ أشكّ في حدودها.

هل تكفي؟

هل تقدر أن تقول حقًا ما لا يُقال؟

ثم أضحك،

كما يضحك الغريق حين يرى قاربًا من ورق.

فأنا أعرف أنها لن تُنقذني،

لكنني سأظلّ أكتب بها.

أصرخُ بها.

أكسرها إن لزم الأمر،

فربما،

بين شظاياها،

أعثر على نفسي.

(55)

وها أنا،

بعد ستين بابًا وخمسةٍ،

أجلسُ أمام المعنى كما يجلس تلميذٌ

أمام طاولةٍ فارغة في امتحان الوجود.

لا قلم،

لا سؤال،

فقط جدارٌ أبيض وصوتٌ داخلي يقول:

“ربما الشعر، هو أن تستمرّ، حتى لو لم يُفهم شيء.”

(56)

في كلِّ مرةٍ أكتب،

كأنني أحاول أن أزرع ظلاً لشجرةٍ لم تنبت بعد.

القصيدةُ لا تأتي حين أطلبها،

بل حين أنسى لماذا كتبتُ أصلًا.

تطلُّ من فجوة في الجدار،

تضحكُ ساخرةً وتقترح عليّ مفردة لم أستخدمها من قبل،

لكنها تشبهني أكثر مما يشبهني اسمي.

(57)

أحيانًا

تكون القصيدة بقعةً على قميصي،

لم أنتبه لها عند الغسيل،

تلتصق بي كخطيئةٍ لا تُغفر

ولا تُنسى،

تخرج معي إلى الشارع،

وتجلس بجانبي في الباص،

تأكل معي،

وتنام على وسادتي كأنها قطة من لغةٍ قديمة.

(58)

هناك جُمَل كُتبت كي لا تُفهَم،

كي تبقى معلقةً في الهواء كعطرٍ لم يسبق أن شُمّ،

أو كصوتِ امرأةٍ تبكي خلف جدار وتظن أن أحدًا لن يسمع.

أنا أهوى هذه الجمل،

أعثر عليها كما يُعثر على عظمةٍ في جيب معطفٍ قديم،

أحملها بلطف، وأقول:

“هنا يسكن الشعر، في ما لا يُقال.”

(59)

الشعرُ ليس مرآة،

بل سطحٌ مكسور يعيد لك وجهك كما ينبغي أن يكون،

بما فيه من شقوق،

وارتباك،

وأسئلة بلا عيون.

أحيانًا أكتب لأرى نفسي،

وأحيانًا لأتخلّى عنها.

وفي الحالتين،

تكون القصيدة هي اليد التي تحملني

من وهمٍ إلى آخر،

دون أن تَعِد بشيء.

(60)

ها أنا

أعود إلى الصفحة،

لا كمنتصر،

ولا كمهزوم،

بل كمن نجا من الحبر،

وبقي فيه القليل من العطش.

أجلس قرب كلماتي

كما يجلس الأب قرب سرير ابنه النائم،

لا ليوقظه،

بل ليحرس حلمًا يعجز عن فهمه.

وأفكّر:

ربما الشعر هو أن تحرس ما لا تفهم،

وتحبّه كما لو أنك كتبته ليُشبهك في الغياب.

(61)

كلّما صمتُّ،

سمعتُ القصيدة تتنفّس داخلي،

كأنّها مخلوقٌ صغير ينمو في التجاويف

ويخاف من الضوء.

ليست فكرة،

ولا شعورًا،

بل رعشة خفيفة تمرُّ في العظام

حين تلمس الريحُ جلدَ الذاكرة.

أنا لا أكتبها،

بل أفتح لها الطريق بين صخرتين،

وأجلس بعيدًا ، أصغي إلى زحفها البطيء نحو الظهور.

(62)

القصيدة لا تعرف التوقيت،

تأتيك وأنت تغسل الصحون،

أو حين تمشي في شارعٍ منسيّ،

وتفكّر في أشياء لا علاقة لها بالشعر.

وفجأة، يخدشك صوتُها كإبرةٍ في قميصك،

فتقفُ ساكنًا، كأنك تذكّرتَ موتًا لم يحدث بعد.

تخرج من قلب التفاصيل،

من صوت السلم،

من رائحة العشاء،

وتقول لك  :  ” أنا هنا ، اكتبني ، أو اختفِ معي.”

(63)

اللغةُ ليست وسيلتي،

بل مرضي.

أحملها كحمّى،

تخفت حين أنام وتشتعل حين أفتح النافذة.

كلّ مفردةٍ ندبة،

كل تركيبٍ إعادةُ تجميعٍ لكسور الروح.

أنا لا أكتبُ لأُعبّر،

بل لأُخفي،

أستعير الأصوات كي لا يُعرف وجهي،

وأضعُ المرآة في آخر السطر كي أنجو من نظري إليّ.

(64)

حين أسأل نفسي  :  هل انتهيت ؟

يضحك الحرف في فمي،

ويذوب مثل سكرٍ مالح،

ويتركني أتذوّق المفارقة.

لا نهاية للقصيدة،

بل انقطاع في التيار،

ارتباك مؤقّت في جهاز النَفَس،

ثم استئنافٌ بجملة لا نعرف إن كانت تكملةً أم بداية.

(65)

والآن،

أقف على حافة هذا النص كما يقف النائم على حلمٍ متصدّع،

لا يعرف إن كان عليه أن يقفز،

أم أن يعود إلى السرير.

فكلّ ما كُتب،

ليس إجابة،

بل دورانٌ طويل حول سؤالٍ لا يريد أن يُسأل.

وكلّ ما بقي،

هو هذا الصوت الصغير في داخلي،

يهمس  : ” تابع ، فربما القصيدة القادمة هي التي ستخونك بأجمل طريقة.”

(66)

أحيانًا،

أشعر أن القصيدة تكتبني بخطٍّ مائل،

كأنها لا تثق بي تمامًا،

تتردّد،

تمحو،

ثم تعيدني بصيغةٍ أخرى.

تجعل من عيوبي استعارات،

ومن نسياني وزنًا داخليًّا لا يُقاس بالعَروض،

بل بنبضٍ مكسور في منتصف الجملة.

القصيدة تعرفني أكثر مما أعرفني،

ولهذا أخشاها،

أخشاها كمن يخاف

 من رسالةٍ

كُتبت له بخطِّ يد من ماتوا.

(67)

القصيدة لا تعترف بالقواعد،

تخرج من الحنظل كأنه عسل،

وتجعل من السعال أغنية.

تقول لي :

 “لا تصدّقهم ، البلاغةُ فخٌّ نصبه العاجزون عن الحيرة،

أمّا أنت، فاختر لنفسك طريقًا من الطين ، وسمِّه المعنى.”

فأكتبُ كما يشهق الناجون،

مرتبكًا،

مقطوعَ النفس،

وأخبّئ كلّ فرحي في مجازٍ متوحّش،

ينبح على المعنى ولا يعضّه.

(68)

إن كان عليّ أن أشرح الشعر، سأقول :

هو ما يحدث في اللحظة التي ينكسر فيها شيء بداخلك

ولا تسمع له صوتًا.

هو الفراغ الذي تتركه جملة

مرّت عليك ذات مساء

في كتابٍ لم تقرأه كاملًا،

لكنك ما زلت تتذكّر أنها غيّرت طريقةَ وقوفك في المطبخ.

هو أثرٌ لا يُرى،

لكنّه يبقى.

(69)

أحبّ الكلمات التي تخاف من الضوء،

التي تحتمي بالهامش،

وترتجف حين نُشير إليها.

أدعوها إلى النصّ كما يُدعى الغريب إلى المائدة:

بخجل،

وبنيِّة أن يبقى طويلًا.

ففي تلك الكلمات المكسورة،

يسكن الشعر الحقيقي،

كائنٌ لا يجيد الرقص

لكنه يترك خلفه ظلًّا راقصًا،

ولا أحد يصدّق الفرق.

(70)

سبعون جزءًا وأشعر أنني لم أبدأ بعد.

كلّ ما فعلته أنني رفعتُ الغطاء عن صندوقٍ لا قاع له،

وكلّ جملةٍ كانت سلّمًا نزلتُ به إلى منطقةٍ لا يعرفها الضوء.

لكنني سعيد،

بهذا التيه،

بهذا الحفر في اللاجدوى،

بهذا السعي وراء شيءٍ ربما لا يُمسك،

لكنّه يمنحني شكلاً حين تضيع وجوه الأشياء.

(71)

القصيدة التي أبحث عنها،

لا تشبه أيّ قصيدة،

هي وجهٌ لا يتكرر، يظهرُ بين ضبابِ الكلمات،

ثم يختفي كما تختفي الغيوم، دون أن تترك أثرًا،

إلا إحساسًا بالخفة،

كأنّ الحياة نفسها تطلب مني أن أُعيد التفكير في معنى الوجود.

(72)

أكتبُ لأجد في كل كلمةِ غابةً لا تهدأ،

تتحرّك فيها الحروف كحيواناتٍ برية،

تتنفسُ بين أوراقِ المعنى،

وترقصُ تحت أضواءِ القمرِ الخافت.

القصيدة ليست مكانًا بل رحلةً متاهة،

حيث تتشابكُ الأرواحُ مع الصمت،

وتتحوّلُ المشاعرُ إلى ظلالٍ تتناثرُ في الهواء كحباتِ المطرِ الأولى.

(73)

القصيدةُ لا تقبلُ القواعد،

تُحاربُها كما يحاربُ البحرُ السّفن،

تُبحرُ بعكس التيار،

وتُشرقُ من ظلامٍ لا ينتهي.

هي طائرٌ جريح،

ينفثُ ألحانًا لا يفهمها إلا الصمت،

وتحت جناحيه

تنبضُ الكلماتُ ،

كما ينبضُ قلبُ طفلٍ يحلمُ بأن يُصبحَ سرًا لا يُقال.

(74)

الشعرُ يسكن في الأشياء الصغيرة،

في طقطقة حبات المطر على النوافذ،

في خفقة أجنحة الطير الذي لا يصل إلى العش،

في همس الغصون حين تلامسها الريح،

وفي صمت المدينة بعد أن ينام الجميع.

هو حياةُ الأشياء الجامدة،

تتنفسُ وتتحركُ كما لو كانت تعرف أنّها ليست وحدها في هذا الكون،

وأنّها تحكي قصةً لا يفهمها إلا من يتوقف عن السؤال.

(75)

في قصيدتي،

الزمنُ يشبهُ ساعةً مكسورة،

لا تدورُ،

لكنه يصرخُ بصوتِ صدى بعيد،

يروي حكايةَ انتظارٍ لا يكتبُ له الانتهاء.

والحروفُ تتراقصُ حول هذا الصمت،

تلبسُ ثوبَ الغموض،

وتضحكُ بسخريةٍ مريرة،

لأنها تعرفُ أن المعنى هو طيفٌ يهربُ من كل محاولةٍ للإمساك به.

( 76 )

أنا أسير في بُركان الكلمات،

حيث الصخور تنبضُ كقلوبٍ خائفة،

والأشجارُ تتنفسُ عبر الجذوع،

تطلقُ رائحةَ الأرضِ القديمةِ

كما لو أن التراب يُمسكُ بأيدي الحكاياتِ المهجورة.

الظلُّ يصرخُ  بصمتٍ مسموع،

والنهرُ لا يجري،

بل يسيرُ متثاقلاً،

يحملُ معهُ همسَ أسماكٍ نائمةٍ في عينيه الواسعتين،

يبحثُ عن معنى الشعر،

في مرآةٍ تُعانقُ العتمةَ بعيون مفتوحةٍ على الخوف.

 (77 )

أحيانًا،

أشعرُ أنَّ الكلماتِ كأوراقِ الخريف،

تتساقطُ ببطءٍ حزين،

لكنها تُصدرُ رائحةَ كآبةٍ تُشبهُ الفجرَ القاسي،

رائحةَ حديدٍ مسكوبٍ في سقيعِ الصمت،

وكأنّ الألوانَ اختنقتْ في عبقِ شيءٍ لم يولد.

الحجرُ يهمسُ لي،

يحكي عن زمنٍ كان فيه ثابتًا،

والآن يتلوى،

يتلوى كما تتلوى الأشباحُ حين تُكشِفُ عن وجوهها،

هو يبحثُ مثلي عن معنى الشعر،

لكنّه لا يجدُ سوى صدى غريبٍ بين ضلوعه.

(78 )

الزمنُ في هذه الحياة لا يمرُّ،

بل يتنفسُ على شكل رياحٍ تداعبُ أصدافَ السكون،

تلمسُ وجهي،

تتركُ على خدي رائحةَ ورقٍ محروق،

كأنّ الذكريات  تلتهمُ نفسها،

وتولدُ من رمادها أسئلةً بلا أجوبة.

في عينيّ،

تتراقصُ جثثُ الكلماتِ الهاربة،

تبحثُ عن موطئ قدمٍ في قلبي،

أنا أكتب،

لكنّي كمن يحاولُ الإمساكَ بظلٍ يهربُ بعيدًا،

أبحث عن معنى الشعر،

في مكانٍ لا يعرفُ أحدٌ فيه أين يبدأُ الألمُ،

وأين ينتهي الحلم.

( 79 )

الشعرُ،

ليس سوى نافذةٍ مفتوحةٍ على ظلالِ الأشياء،

حيثُ الجدرانُ تهمسُ بأسرارٍ قديمةٍ،

والهواءُ يحملُ نكهةَ الحزنِ والخبزِ المحترقِ،

تتحركُ الأحجارُ كأنها قلوبٌ مجروحة،

تتنفسُ بصمتٍ ثقيلٍ،

وأنا،

أمسكُ هذه اللحظاتِ بأطراف أصابعي،

أبحثُ عن معنى الشعر،

في تداخلِ الضوءِ والظلِّ،

في لقاءِ الغيابِ والحضورِ،

بينَ الصمتِ والكلامِ الذي لا يُقال.

( 80 )

القصيدةُ لا تُكتبُ،

إنها تنبعثُ من داخلِ الأشياء،

كأنّ الحجرَ يتحوّلُ إلى دمٍ نابضٍ،

والنهرَ يضحكُ بصوتِ رائحةِ الياسمينِ في الصباحِ البارد،

والظلُّ يمدُّ يدهِ ليُمسكَ بالهواءِ،

في رقصةٍ متناقضةٍ بينَ الثباتِ والحركةِ،

أنا هناك،

أراقبُ هذه الحياةِ التي لا تَسكنُ،

وأبحثُ عن معنى الشعر،

في كلِّ نفسٍ تلتقطهُ عينيّ،

وفي كلِّ صوتٍ ينبعثُ من صمتٍ مُضحكٍ،

يرى الغموضَ كحكايةٍ لا تنتهي.

( 81 )

في هدأة الليل،

تغني الصخورُ بأصواتٍ لا يسمعها إلا القلبُ المجروح،

تنبضُ كأنها أجنحةُ فراشاتٍ مكسورة،

تستنشقُ رائحةَ الحزنِ والحنين،

تخلطُ بين ضوءِ القمرِ ودموعِ الأرضِ،

وأنا أُحاولُ أن أقرأ في هذه الأغنية،

كأنها شفرةٌ قديمةٌ

تخبرني بأسرارِ معنى الشعر،

ذلك الذي لا يُقال،

بل يُحسُّ في تدفقِ الظلال،

وفي صمتِ الأشياءِ

التي تتحركُ بلا صوت.

(82 )

الريحُ تهمسُ لي،

كأنها تعرفُ عن خيباتي أكثر مما أعرفها،

تغسلُ وجهي برائحةِ غبارِ المدنِ المهجورة،

وترسمُ على نافذتي خطوطًا من ضوءٍ مُشتّت،

الضوءُ الذي يصرخُ بصمت،

يختلطُ بالظلالِ حتى تفقدَ الكلماتُ معناها،

وأنا أجلسُ هناك،

أحاول أن أفكّ شيفرة هذا الصمت،

أبحثُ عن معنى الشعر،

في تلك اللحظاتِ التي يتحولُ فيها اللامعنى

إلى نبضٍ يتسلّلُ إلى العروقِ،

كأنه سرٌّ مكتومٌ في جسدِ الوجود.

(83 )

أحيانًا،

تبدو الكلماتُ كأنها أوراقُ شجرٍ تُسرقُ من خريفِ الذاكرة،

تسقطُ بهدوءٍ،

لكنها تحملُ رائحةَ خبزٍ محروق،

رائحةَ انتظارٍ لا ينتهي،

والأحجارُ هناك،

ترقصُ على إيقاعِ صمتٍ قديم،

تنفتحُ كعيونٍ لا ترى،

وتتنفسُ كأنها قلبٌ ينبضُ بلا دماء.

أنا هنا،

أمسكُ بيدِ هذا الغموض،

أحاولُ أن أقرأَ ما بين السطور،

أبحثُ عن معنى الشعر،

في لعبةِ الضوء والظل،

في الحواسِ التي تخلطُ ما بين الرؤية والشم،

بينَ السكونِ والضجيج،

وأحيانًا،

في السخرية التي تبتسمُ للحياة حتى وإن كانت تمزّقُها.

(84 )

القصيدةُ ليست سوى نافذةٍ تفتّحُها الريح،

تُطلُّ على عالمٍ لا يُرى،

حيثُ تتحولُ الأشياءُ الجامدةُ إلى كائناتٍ تعانقُ الألمَ،

والظلُّ ينسجُ حولي عباءةً من أسئلةٍ بلا أجوبة،

الهواءُ يحملُ رائحةَ صدأِ الذكرياتِ،

تُسكنُ بينَ أصابعي كما تسكنُ الذكرى بينَ القلوبِ المنكسرة.

أنا أبحثُ عن معنى الشعر،

في تلك اللحظةِ التي تلتقي فيها البصرُ بالشمِّ،

حين تتداخلُ الحواسُّ،

ويرقصُ الغموضُ مع الوضوح،

كأنهما عشيقانِ لا يُفترقان،

يرسمانِ على جدارِ الوجودِ لوحةً لا يُفهمُ معناها،

لكنَّها تهمسُ لنا بصمتٍ جميل.

(85 )

الشعرُ ليس كلامًا يُقال،

بل هو الخيطُ الرفيعُ الذي يربطُ بين الألمِ والفرح،

بينَ صمتِ الحجرِ وهمسِ الريح،

هو الحلمُ الذي يولدُ في فمِ الظلام،

رائحةُ الأرضِ حين تبللها دموعُ السماء،

هو الضوءُ الذي يُشرقُ في عتمةِ الكلمات،

ويُحيلُ المعنى إلى نغمةٍ تتردّدُ في صدورنا،

كأنّها سرُّ الحياةِ الذي لا يُقال.

أنا أسيرُ في هذه المسافة،

أبحثُ عن معنى الشعر،

بينَ الخطأِ والصوابِ،

بينَ الحقيقةِ والوهم،

بينَ ما يُرى وما يُشم،

في رقصةٍ لا تنتهي،

بينَ الضوءِ والظلّ،

بينَ الحياةِ والموت.

(86 )

أنا أسيرُ في حقلٍ من الظلال،

حيثُ تتحوّلُ الحجارةُ إلى عيونٍ ترى الغيب،

وتتنفّسُ الأشجارُ بأعصابِ الريح،

كلّ ورقةٍ تهمسُ لي برائحةِ الخريفِ والخراب،

كما لو أن الموتَ يُعانقُ الحياةَ في رقصةٍ بطيئةٍ ومخيفة.

الزمنُ هنا يتلوّى،

كثعبانٍ يحاولُ أن يلدَ أفعى،

والصمتُ يزحفُ كطفلٍ جائع،

يلامسُ أقدامي بيدٍ باردةٍ،

وأنا،

أبحثُ عن معنى الشعر،

في قلبِ الأشياءِ الجامدةِ التي تئنّ،

وفي جسدِ الليلِ الذي يشبهُ خيالَ امرأةٍ عارية.

(87 )

الأشياءُ هنا ليست كما تبدو،

الحجرُ ينبضُ برائحةِ الدمِ القديم،

والظلُّ يشبهُ ورقةَ خبزٍ يذوبُ في فمِ الصمت،

الهواءُ يحملُ نغمةَ حزنٍ تختلطُ برائحةِ القهوةِ الباردة،

كأنّ المكانَ كلهُ مستودعٌ لأسرارٍ لا تجرؤُ على الفصح عنها.

أنا،

أسيرُ بين هذه الأحاسيسِ المتشابكةِ،

ألمسُ وجوهَ الحروفِ وأشمُّ رائحةَ المعنى،

أبحثُ عن الشعرِ،

ليس في الكلماتِ التي تُقال،

بل في الفراغِ الذي تحفرهُ بين جملةٍ وأخرى،

في الصوتِ الذي لا يُسمع،

وفي النظرةِ التي تخونُها العيون.

(88 )

الليلُ هنا لا ينامُ،

بل يتحركُ ككائنٍ حيٍّ يحتفظُ بأسرارِ العتمة،

يتنفسُ رائحةَ الحبرِ اليابسِ على صفحاتِ الماضي،

تتلوى الظلالُ كأنها أفاعٍ تحرسُ الأحلامَ المدفونة،

وأنا أراقبُ هذا الركامِ الصامت،

أحاولُ أن أقرأَ بينَ طيّاتهِ معنى الشعر،

كسرابٍ يظهرُ في الصحراءِ

لا يُلامسُهُ أحدٌ،

لكنّه يُشعلُ ظمأ الروحِ ويغرقها في الماءِ.

(89 )

الكلماتُ هنا ليست مجرد حروفٍ،

بل أشباحٌ تبتلعُ الضوءَ وتعيدهُ مشتعلاً،

تنتشرُ كعطرٍ مُختلطٍ برائحةِ البخورِ والرماد،

تصنعُ من الصمتِ قصيدةً تعانقُ وجهي،

والأرضُ تحت أقدامي تتنفسُ،

كأنها قلبٌ ينبضُ بحكايا ملوّنةٍ لا تُقال .

أنا أبحثُ عن معنى الشعر،

في لعبةِ الضوءِ والظلِّ،

في التقاء الحواسِّ حين تذوبُ الحواسُّ،

وترتشفُ الروحُ من كأسِ الغموض،

لا من كأسِ الوضوحِ المملّ.

(90 )

أنا أتنفسُ في ثنايا الحجر،

أسمعُ صوتَ الصمتِ يُرتّلُ صلاةَ الغياب،

الريحُ تلمسُ وجهي برائحةِ الذاكرةِ الحادّة،

والأشجارُ تتحركُ كأرواحٍ تُصارعُ نسيانها ،

وأنا أبحثُ عن معنى الشعر،

ليس في الكلمات،

بل في الفجواتِ التي تتركها،

في الأثرِ الذي لا يُمحى،

في الذكرى التي لا تذبل،

وفي سخريةِ الحياةِ التي تسكنُ بين السطورِ،

تضحكُ بصوتٍ مكتومٍ،

كأنّها تعرفُ أنّنا نكتبُ لكي نفهمَ،

وأننا نفهمُ لكي نكتبَ.

(91 )

أحيانًا،

تتكسرُ الكلماتُ في فمي،

تُصبحُ أشياءً لا تشبهني،

كأنها عواصفُ صامتةٌ،

تهبُّ على حديقةِ روحي،

تزرعُ فيها حبرَ الألمِ والفرحِ،

ترسمُ على جدران قلبي لوحاتٍ من الضياعِ والحنينِ،

وأنا أبحثُ عن معنى الشعر،

في ضوءٍ يتراقصُ بين دموعِ الظلال،

وفي نغمةٍ تئنُّ كعزفِ قيثارةٍ مكسورةٍ،

بينَ الصمتِ والصراخ،

بينَ الحقيقةِ والوهم،

بينَ ما يُقالُ وما يُخفي.

(92 )

القصيدةُ

ليست سوى حقلٍ من النارِ الباردة،

تشتعلُ بصمتٍ لا يُرى،

تُشعلُ في داخلي ثورةَ ضوءٍ وألم،

تتراقصُ على أطراف أصابعي كأشباحٍ لا تموت،

تنبضُ في كل حجرٍ، في كل ورقةٍ،

تتنفسُ رائحةَ الفصولِ الممزقة،

وتحكي قصةَ الليلِ الذي لا ينام،

وأنا،

أسيرُ بين هذه الرموزِ المتشابكة،

أبحثُ عن معنى الشعر،

في فراغٍ

يلتهمُ الكلامَ،

وفي صمتٍ يصرخُ بالحقيقةِ المخفية.

(93 )

الظلالُ تهمسُ بأسماءٍ نسيتُها،

تنسجُ في الهواءِ لحنًا بلا لحن،

رائحةُ الترابِ تغسلُ وجهي،

كأنّ الأرضَ تُعيدُ ترتيبَ الألمِ والفرحِ،

والأشجارُ ترقصُ بخجلٍ على إيقاعِ الريحِ الغامضة،

تتلوّى كأنّها حكايةٌ لا تُروى،

أنا هناك،

أمسكُ بخيوطِ هذا الغموض،

أبحثُ عن معنى الشعر،

في تقاطعِ الحواس،

حين يلتقي البصرُ بالشمِّ،

وتتناغمُ الأصواتُ مع الصمتِ،

ويصبحُ الغموضُ لغةَ القلبِ الوحيدة.

(94 )

القصيدةُ زهرةٌ سوداءُ،

تنمو في صحراء الرؤى المهجورة،

تستنشقُ رائحةَ دموعِ الليل،

تتنفسُ أنفاسَ الغيابِ والحضورِ المتشابكين،

تتحركُ كأنها حلمٌ لا يهدأ،

كصدى خطواتي في ممراتِ النسيان،

وأنا أبحثُ عن معنى الشعر،

في ظلالِ الكلماتِ التي تتشظى،

في فراغٍ يُضاءُ بأنينِ الغموض،

في حكايةٍ تُروى بصمتٍ ساخر،

حيثُ تتلاقى المتناقضاتُ،

وترقصُ الأضدادُ معًا على مسرحِ الذاكرةِ المكسورة.

(95 )

الشعرُ ليسَ كلمةً تُقال،

بل هو نبضُ الأشياءِ التي لا تُرى،

هو رائحةُ المطرِ في صمتِ المدينة،

هو ظلُّ الوردةِ التي لم تُزهر بعد،

هو صوتُ الحجرِ حينَ يضحكُ في وجهِ الريح،

هو غموضٌ ينسجُ بينَ الحواسِّ حكايةً لا تنتهي،

وأنا،

أبحثُ عن معنى الشعر،

في لحظةِ الصمتِ التي تسبقُ الفجر،

في تناغمِ الضوءِ مع العتمة،

في فراغٍ تُحيطُ به الكلماتُ

كما يُحيطُ الليلُ بالنجومِ المتعبة.

(96 )

القصيدةُ، بالنسبة لي،

ليست إلا مِرآةً مكسرّةً تعكسُ وجوهًا لا أملكُها،

ترتجفُ بينَ أصابعي،

تُشبهُ الماءَ في كفّ طفلٍ خائف،

تتلوّى كالحقيقةِ التي لا يُجرؤُ أحدٌ على اعترافها،

تغني بلغةِ الظلالِ والهمساتِ،

تُسافرُ عبرَ الزمنِ والفراغ،

وأنا،

أعانقُها كما يعانقُ العاشقُ نسيانَه،

أبحثُ عن معنى الشعر،

في ثنايا هذه الكسورِ،

في سُكوتٍ يُصوّرُ الفوضى،

وفي ضحكةٍ تخفي وراءها دموعًا لا تُقال.

(97 )

القصيدةُ ليستُ طيفًا ثابتًا،

بل نهرٌ يتلوّى في صدري،

يجري بينَ جُدران الألمِ والفرح،

يحملُ رائحةَ الأرضِ المحروقةِ،

وصوتَ الحجارةِ التي تئنُّ تحت وطأة الزمن،

كلُّ كلمةٍ فيها شبحٌ يتسللُ من بينِ السطور،

يرقصُ بينَ الغموضِ والوضوح،

كأنها تتحدى صمتَ الوجود،

وأنا،

أمشي في هذا التيه،

أبحثُ عن معنى الشعر،

في لحظةِ انفجارٍ صامت،

في خيطِ نورٍ يكسرُ ظلمةَ الغياب.

(98 )

الظلالُ تذوبُ في صمتِ الغرفة،

تتنفسُ ببطءٍ كأنها تنوحُ على ذاكرةٍ مُفقودة،

تلمسُ جدارَ الحكايةِ برقةِ ابتسامةٍ قاسية،

وفي الزاوية،

يهمسُ الضوءُ برائحةِ خبزٍ محروقٍ،

يُخبرُني أن الشعرَ ليس كلماتٍ تُقال،

بل أنفاسٌ تُختنقُ بينَ الضلوع،

وغموضٌ يقتربُ من القلب،

في لعبةِ تناقضاتٍ لا تُفهم،

تُتركُ لتُحكى بصمتٍ ثريٍ، كما تُحكى الأسرارُ للريحِ المندفعة.

(99 )

في هذا الصمتِ،

تتراقصُ الذكرياتُ كدمى مكسورة،

تحملُ رائحةَ المطرِ على جبينها،

تُهمسُ بأسماء لم تُكتب بعد،

تتلوّنُ بين شقوقِ الحجرِ الذي يحكي عن موتٍ لا يُشفى،

والريحُ تعزفُ لحنَ الغموضِ على أوتارِ السكون،

أنا هناك،

أحاولُ أن أقرأَ ما بينَ النَفَسِ والظلِّ،

أبحثُ عن معنى الشعر،

في شقّةِ الضوءِ الذي لا يصلُ إلى النهاية،

وفي ابتسامةٍ ترفضُ أن تُفسر،

كمَن يختبئُ وراءَ قناعٍ من ألوانٍ باهتة.

(100 )

القصيدةُ ليست ماضياً ولا حاضرًا،

هي لحظةٌ متمردةٌ،

تنتفضُ في فمي مثل جمرةٍ تُذيبُ الصمت،

تتنفسُ من خلالِ الضحكاتِ الساخرة،

تختبئُ خلفَ عيونِ الحجرِ المتعب،

تسيرُ مع خفقاتِ أوراقٍ لا تهدأ،

وأنا أبحثُ عن معنى الشعر،

في تفاصيلِ اليومِ العادي،

في نكهةِ القهوةِ المُرةِ التي تَلدُ الأحلام،

في السخرية التي تُسكبُ بينَ السطور،

كزيتٍ يشتعلُ دون أن يُحرقَ شيئًا.

(101 )

في كلِّ حرفٍ أكتبهُ،

يرتجفُ صوتُ الموتِ والحياةِ،

ينفجرُ كبركانٍ يخفي وراءهُ ثورةَ الهدوء،

الحجرُ يغني بألمِ الريح،

والريحُ تَشمُّ رائحةَ ظِلٍّ بعيد،

أنا أتنفسُ بينَ الفصولِ المتناقضة،

أبحثُ عن معنى الشعر،

في لحظةِ التقاءِ الظلامِ بالنور،

في رقصةِ الأحاسيسِ التي لا تُرى،

لكنها تُحسُّ

كما يُحسُّ القلبُ

بحركةِ موجةٍ عميقة.

(102 )

الشعرُ هو الكائنُ الذي يولدُ من صمتِ الأشياء،

ينمو في عروقِ الحجرِ والهواء،

يعبثُ بألوانِ الظلِّ والنورِ،

يرتدي رائحةَ المطرِ والرماد،

يحملُ نغمةَ الضحكةِ المخفيةِ خلفَ دمعِ الغروب،

هو صدى الأحلامِ التي تتهرّأ،

وحيدًا في متاهةِ الليلِ الطويلةِ،

وأنا أسيرُ خلفهُ،

أبحثُ عن معنى الشعر،

في الزوايا المنسية من الروح،

في لحظةٍ لا تنتمي إلى زمانٍ أو مكان،

حيث يصبحُ الغموضُ الحقيقة الوحيدة.

(103 )

القصيدةُ تمشي على أطرافِ أصابعي،

تُسافرُ بينَ نبضاتِ الألمِ والفرح،

تشمُّ رائحةَ صمتٍ مكتوم،

تتنفسُ من خلالِ رياحٍ تسري في عروقِ الذاكرة،

تتلوى بينَ أضلاعِ الليلِ كالسرّ الذي لا يُقال،

وأنا،

أبحثُ عن معنى الشعر،

في تلك اللحظةِ التي يصبحُ فيها الضوءُ رائحةً،

والظلُّ نغمةً،

والكلماتُ أجسادًا ترتعشُ بينَ الحواس،

في لعبةِ تضادٍ لا تنتهي،

تختلطُ فيها الحقيقةُ بالخيال،

والضحكُ بالبكاء،

كما لو أن الوجودَ كلهُ يختزلُ في قصيدةٍ واحدة.

(104 )

الشعرُ هو اللغزُ الذي يحرسُهُ الصمت،

حيث تتحولُ الأحجارُ إلى وجوهٍ تبكي،

والأشجارُ تهمسُ بسرٍّ لاتبوحُ بهِ الريح،

الرائحةُ هنا لا تُرى،

لكنها تلدغُ كالزيتِ الحارق،

تخلطُ بينَ طعمِ الألمِ ورائحةِ الأمل،

وأنا،

أمسكُ بخيوطِ هذا الضباب،

أبحثُ عن معنى الشعر،

في فراغاتِ الكلامِ التي تفيضُ بالحيرة،

في غموضِ الصمتِ الذي يكشفُ عن أعمقِ الأسرار،

حيثُ يتلاقى الظلُّ مع النورِ،

والكلمةُ مع الصمتِ،

ليولدَ معنىً لا يُقال،

ولكن يُحسُّ،

كالنبضِ الأخيرِ قبل أن يغيبَ النهار.

(105 )

أنا في لحظةٍ تترددُ فيها القطراتُ على زجاجِ الذاكرة،

حيثُ يتلوى الحبرُ بينَ ثنايا النسيان،

وتصرخُ الألوانُ بصمتٍ عميق،

كأنّ الحروفَ ترفضُ أن تُصبحَ كلمات،

تتنفسُ رائحةَ الحديدِ والوردِ،

تُمسكُ بالليلِ كطفلٍ يحتضنُ سرَّهُ الأول،

وأنا،

أبحثُ عن معنى الشعر،

في تقاطعِ الدموعِ والضحك،

في تمازجِ الصمتِ والضجيج،

في ثنائياتِ لا تنتهي،

حيثُ يتحوّلُ الغموضُ

إلى ضوءٍ

يُضيءُ لي الطريقَ

في عتمةِ الكلمات.

(106 )

أنا هنا، في ركنٍ ضائع من المدينة،

أبحث عن معنى الشعر في وجهِ سيجارةٍ تئنُّ تحت أسناني،

في دخانها الذي يشبه رائحةَ المطرِ على رصيفٍ مهجور،

في صوتِ أقدام المارة الذين لا يرونني،

في الحجارة التي تضحكُ بسخريةٍ باردة،

كأنها تعرفُ أسرارَ قلبي،

وتتنفسُ عبقَ قصصٍ لم تُحكَ بعد،

بينَ ضوءِ النيون والظلالِ التي تتهادى كعروسٍ متعبة.

الشعرُ هو تلك اللحظةُ العابرةُ،

حيث يتحولُ الألمُ إلى نغمةٍ،

والكلماتُ إلى رائحةٍ  تُحاكي الحواس،

هو رقصُ الضوءِ والظلامِ  

في زجاجِ كأسٍ نصفه ممتلئٌ،

أنا أتنفسُ هذا الغموضَ،

أضحكُ مع السخريةِ التي ترقصُ في عينيَّ،

وأبحثُ عن معنى الشعر،

في هذا العالمِ

الذي لا يعترفُ إلا بالوجوهِ المكسورة.

( 107 )

الشارعُ يمرُّ كأنّه يهربُ من صمتٍ ثقيل،

تُلامسني رائحةُ البنِّ الممزوجةِ بظلِّ الخيبة،

وأنا،

أراقبُ الكلماتِ تتساقطُ كأوراقِ الخريف،

كلُّ ورقةٍ تحكي قصةَ غيابٍ طويلٍ،

وحين تلتقي العيونُ بالمرآةِ،

تنبعثُ أنفاسٌ من عطرِ الذكرياتِ المُتعبة،

كأنّ الشعرَ هو ذاك اللقاءُ بينَ رؤيةٍ وشمٍّ،

بينَ ضوءٍ يخافُ الظلَّ،

وصوتٍ يصرخُ في صمتِ الليلِ الطويل.

الشعرُ

سكينٌ تجرحُ بلطف،

حيثُ تتناثرُ المعاني بينَ أطيافِ الضحكِ والبكاء،

هو لعبةُ التناقضاتِ التي تعانقُ الغموضَ،

وأنا أسيرُ في أروقةِ هذا اللغزِ،

أبحثُ عن معنى الشعر،

في نغمةٍ لا يسمعها إلا القلب،

في رائحةٍ تُشبهُ دموعَ المطر،

وفي سخريةٍ تتناثرُ كالنجومِ في سماءِ الوجع.

(108 )

في زوايا الليل،

تتحركُ الحروفُ كأشباحٍ متعبة،

تتنفسُ برائحةِ الخبزِ القديم،

تُداعبُ جدارَ القلبِ الذي لا ينكسر،

كلُّ كلمةٍ تنكسرُ لتولدَ من جديد،

كأنها حجرٌ يُقلّبهُ الزمنُ بيديهِ المتمردتين،

والشعرُ يختبئُ في هذه الحركةِ الهادئة،

في تقاطعِ البصرِ بالشمِّ،

حيثُ تذوبُ الحواسُّ وتُولدُ الرؤى،

وأنا أبحثُ عن معنى الشعر،

في صمتٍ يُشبهُ ضحكةَ المقهى الفارغ،

وفي غموضٍ يختبئُ خلفَ ستارِ الظلال.

(109 )

القصيدةُ تمشي على أطرافِ الحلمِ المُكسَّر،

ترتدي عباءةَ العدمِ برائحةِ البحرِ البعيد،

تتنفسُ نغمةَ المطرِ في صمتِ المدينة،

تلمسُني كيدٍ خفيةٍ تتركُ آثارَها على جلدي،

الحجرُ يغني بلحنِ الألمِ المطمور،

والظلُّ يرقصُ مع الذكرياتِ المكسورة،

وأنا هناك،

أمسكُ بيدِ الغموض،

أبحثُ عن معنى الشعر،

في التقاءِ الضدِّ بالضوء،

في لحظةٍ يختلطُ فيها الواقعُ بالخيالِ،

حيثُ تصبحُ الكلماتُ نبضًا،

والسخريةُ

لحنًا يُحيي الصمتَ العميق.

(110 )

أنا أتنفسُ بينَ جدرانِ المدينة،

حيثُ تحكي الحجارةُ أسرارَ الأيامِ المهجورة،

والنوافذُ تنظرُ إليّ بعينينِ لا تعترفان بي،

رائحةُ القهوةِ الباردةِ تملأُ الفراغَ بينَ أصابعي،

والظلالُ تتمايلُ كراقصاتٍ على نغمةِ الغموض،

أنا أبحثُ عن معنى الشعر،

ليس في الكلماتِ الباهتة،

بل في اللحظاتِ التي تُختصرُ فيها الحياةُ،

في صمتِ السخريةِ الذي يبتسمُ للحقيقةِ المُرة،

وفي ضوءٍ يختبئُ خلفَ ستارِ العتمةِ،

كأنّ الشعرَ هو تلكَ النافذةُ التي لا تُغلقُ أبدًا.

(111 )

الريحُ تهمسُ بأسرارٍ لا يفهمها إلا قلبُ المدينة،

تُغسِلُ وجهي برائحةِ الخبزِ المحروقِ والآمالِ المكسورة،

الشمسُ تغربُ كأنها تختلسُ لحظةَ وداعٍ أخير،

والحجارةُ تُعيدُ ترتيبَ الألمِ في صمتٍ ثقيل،

أنا هنا،

أبحثُ عن معنى الشعر،

في تداخلِ الحواس،

حين يتحولُ البصرُ إلى لمسةِ رائحةٍ،

والسمعُ إلى لونٍ يتراقصُ على نغمةِ الحزن،

بينَ ضوءِ المدينةِ وظلالِ الغموضِ،

حيثُ يولدُ الشعرُ

من رحمِ الحياةِ والسخريةِ.

(112 )

القصيدةُ، بالنسبة لي،

هي حكايةُ طائرٍ مكسور الجناح،

يحاولُ الطيرانَ وسطَ عاصفةِ ألوانٍ لا معنى لها،

تتنفسُ رائحةَ الحبرِ على أوراقِ الأيامِ الباردة،

تُهمسُ بألحانِ السخريةِ والحنينِ،

تتراقصُ بينَ أنينِ الظلِّ وضحكةِ الضوء،

وأنا، أبحثُ عن معنى الشعر،

في تلك اللحظةِ التي تتشابكُ فيها الأضداد،

حيثُ يتحولُ الألمُ إلى نغمةٍ،

والفرحُ إلى صمتٍ مُعلَن،

تُروى القصةُ بلا كلمات،

بواسطةِ العيونِ التي تلمعُ في الظلام.

(113 )

في زقاقِ الذاكرةِ،

تتنفسُ الحروفُ ببطءٍ كأنها رائحةُ خبزٍ محروق،

تُداعبُ وجهي كنسمةٍ تائهةٍ،

والظلُّ يُعيدُ تشكيلَ قصصٍ بلا بدايةٍ أو نهاية،

الأحجارُ هناك تغني صمتها،

ترقصُ على لحنِ الغموضِ الكامن،

وأنا،

أمسكُ بخيوطِ هذا السرِّ،

أبحثُ عن معنى الشعر،

في تقاطعِ الحواس،

حين يُصبحُ البصرُ شمًا،

والسمعُ لونًا،

والرؤيةُ لمسةً من رائحةِ الغياب،

حيثُ تتشابكُ الأضدادُ،

ويُولدُ الغموضُ لغةَ القلبِ الوحيدة.

(114 )

الشعرُ،

كما أراهُ،

هو ذلك الضوءُ الخافتُ تحتَ ركامِ الصمت،

هو الحجارةُ التي تبكي دموعَ الزمردِ،

هو رائحةُ القهوةِ المرةِ التي تتسللُ إلى عروقِ النسيان،

هو صوتُ الليلِ حين يهمسُ برفقٍ إلى وجهي،

يتلوى بينَ أنفاسِ الريحِ والوشوشاتِ الغامضة،

وأنا،

أبحثُ عن معنى الشعر،

في تلك اللحظةِ التي يختلطُ فيها الألمُ بالسخرية،

حيثُ تتحولُ الكلماتُ إلى نبضٍ لا يُرى،

وترقصُ المعاني على أنغامِ الغموضِ الدفين.

(115 )

الشعرُ ليسَ فقط كلماتٍ تُقال،

بل هو رائحةُ المطرِ التي تلتصقُ بالجلدِ والذاكرة،

هو صوتُ الحجرِ حين يهمسُ بأسرارِ الليل،

هو ظلُّ الوردةِ التي لم تُفتح بعد،

هو الضحكةُ المختبئةُ خلفَ دموعِ الغروب،

هو غموضٌ يُنسجُ بينَ الحواسِّ،

وأنا،

أتنفسُ هذا السرَّ،

أبحثُ عن معنى الشعر،

في اللحظةِ التي يصمتُ فيها العالمُ،

حين تلتقي الرؤيةُ بالشمِّ،

ويُصبحُ الضوءُ نغمةً لا تُنسى،

وفي هذا الصمتِ تبدأُ الحكايةُ.

(116 )

القصيدةُ بالنسبة لي،

هي زجاجةُ نبيذٍ قديمةٍ،

تحملُ رائحةَ الأيامِ المنسية،

ترقصُ فيها الأشباحُ بينَ دفّتيها،

تتنفسُ حكاياتِ الفرحِ والخيانةِ،

تُهمسُ بالسخريةِ التي تخفي الألم،

وأنا،

أُداعبُ أطرافَ هذه الزجاجةِ،

أبحثُ عن معنى الشعر،

في لحظةٍ تصبحُ فيها الكلماتُ كالخمر،

تسكنُ الروحَ وتُشعلُها،

تُفرحُ،

وتُوجعُ،

وتُبقي على سرِّها،

كما يفعلُ الليلُ مع النجومِ.

(117 )

أنا أتنفسُ بينَ حوافِ الضوء،

كأنَّ قصيدةً ترقدُ في عروقِ الصمتِ،

الحجرُ هنا لا ينامُ،

يتنفسُ كأنه قلبٌ ينبضُ بألمِ الانتظار،

يرتدي رائحةَ المطرِ القديمِ،

يُهمسُ لي بحكاياتٍ لا تروى إلا في الظلال،

والريحُ تسرقُ ألوانَ الغروبِ،

تُعيدُ ترتيبَ الألمِ في رقصاتٍ بلا موسيقى،

وأنا أبحثُ عن معنى الشعر،

في تلك اللحظةِ التي يصيرُ فيها البصرُ شمًا،

والشمُّ لونًا يتلوى بينَ أصابعِ الفجر،

في تناقضاتٍ تحترقُ وتذوب،

تختبئُ في الغموضِ كطفلٍ لا يريدُ أن يكبر،

في لعبةِ الصمتِ والضحكِ،

حيثُ تُكتبُ الحكايةُ بلا كلمات، لكنها تُحسُّ كالنبضِ الذي لا يتوقف.

(118 )

الضوءُ

يتقاطعُ مع الظلِّ كأنهما عاشقانِ غريبين،

يتبادلانَ الوشوشاتِ برائحةِ الخريفِ الذابلة،

الأشجارُ تتحركُ بلا جذورٍ،

تتنفسُ نغماتِ الحزنِ المخبأةِ بينَ أوراقها،

الحجارةُ تغني بأصواتِ الريحِ الغامضة،

تُداعبُ وجهي بلمسةِ بردٍ تحاكي رائحةَ الماضي،

وأنا،

أسيرُ في متاهةِ الحواسِّ،

أبحثُ عن معنى الشعر،

في تقاطعِ الألوانِ بالأصواتِ،

حين يتحولُ الألمُ إلى عبيرٍ،

والفرحُ إلى صمتٍ يصرخُ بصمت،

في رقصةِ التناقضاتِ التي لا تنتهي،

حيثُ يولدُ الغموضُ لغةَ القلوبِ الساكنةِ.

(119 )

القصيدةُ هنا كأنها نافذةٌ تئنُّ تحت وطأة الريح،

تتنفسُ بين زجاجها ترانيمَ الغموض،

كلُّ كلمةٍ كأنها ورقةُ شجرٍ تتساقطُ برائحةِ ليلٍ ممطر،

تتمايلُ كما لو أن الألمَ يغني بصمت،

والأشياء الجامدةُ ترفضُ أن تبقى ساكنةً،

الحجارةُ تغفو وتتقلب كطفلٍ يحلمُ بالسماء،

والظلُّ ينحني فوق السطور،

يتركُ أثرَ دمعٍ لا يُرى،

وأنا أبحثُ عن معنى الشعر،

في لحظةِ التقاءِ اللمسِ بالرؤية،

حين يصبحُ الصوتُ لونًا،

واللونُ نبضًا،

وحيثُ تُنسجُ الأضدادُ  في رقصةٍ واحدةٍ لا تنتهي.

(120 )

في غرفةِ انتظارٍ بلا أبواب،

تتنفسُ الكلماتُ كأنها نسيمُ البحرِ المشتاق،

تغسلُ وجهي برائحةِ الملحِ والذكرياتِ الغارقة،

الحجرُ هناك يتحركُ ببطءٍ كأنه يعانقُ الزمنَ المفقود،

والظلُّ يرسمُ خطوطًا من نارٍ وثلجٍ متشابكين،

أنا هنا،

أمسكُ بخيوطِ الغموضِ،

أبحثُ عن معنى الشعر،

في رقصةِ الضوءِ والظلِّ،

في صمتٍ يئنُّ تحت وطأةِ الضحكِ والسخرية،

حيثُ تتحولُ الكلماتُ إلى أشباحٍ تُلامسُ القلبَ برفقٍ،

وترسمُ على جدرانِ الروحِ نهرًا لا ينضبُ من الأحلامِ.

(121 )

الشعرُ

هو ذاك الحجرُ الذي يتنفسُ في قلبي،

يتلوى بينَ أنفاسي  كأنه نغمةُ المطرِ على نافذتي،

يحملُ رائحةَ الخبزِ المحروقِ والليلِ البعيد،

هو صمتُ السخريةِ التي تبتسمُ للحياةِ رغم الألم،

وأنا،

أتمشى في زقاقِ الحواسِّ، أبحثُ عن معنى الشعر،

في لحظةِ لقاءٍ بينَ الضوءِ والظلِّ،

حين تُصبحُ الكلماتُ  كلمساتٍ خفيةٍ،

تُحرّكُ وجدانَ الذاكرةِ وتوقظُ أرواحَ الغياب،

في لعبةِ تناقضاتِ لا تنتهي،

حيثُ الغموضُ هو الوعدُ الوحيدُ للحنين.

(122 )

أبحث عن الشعر لا في الكتب،

بل في رفرفة قميصٍ نُسي على الحبل،

في خيط الغبار الذي يمرّ ببطءٍ بين رفّين

في مكتبة مهجورة.

أبحث عنه

في صمتِ الطابق الأرضي،

حين يتأخّر الضوء عن الوصول إلى قلب الغرفة.

الشعر —

ليس ما يُقال،

بل ما يُحسّ على حافة الطاولة،

حين تلمس يدك بقعةً دافئة ولا تعرف من جلس هنا قبلك.

هو الخدش الصغير

على زجاج النافذة،

الذي لا يُرى في الصباح،

ويظهر فجأة في المساء،

حين يعود الظلُّ إلى الكلام.

(123 )

أبحث عن الشعر

في إشارات المرور حين تتردّد،

في المارة الذين يتباطأون فجأة،

كأنهم يسمعون أغنيةً لا تأتي من مكان.

في المدينة،

لا يصير المعنى واضحًا إلا حين يُنسى.

أكتب لأحفظ ارتعاشة الأثر،

وأصغي لما لا يُقال كي لا يصمت إلى الأبد.

أبحث عن الشعر في ما يتبقى من الفجر

بعد أن يُغلق عمال النظافة أعينهم للحظة.

في أصوات النوافذ حين تعتذر عن انغلاقها الطويل.

أبحث عنه

في طَرقِ الأحذية على سلّم المبنى،

في الارتباك الذي تتركهُ الخطى

حين لا يعرف البابُ من دخل ومن خرج.

الشعر —

ربما هو ما يحدث بين اللمسة والشيء،

حين لا تكتمل الحركة،

ويبقى الأثر.

ربما هو

تلك الوردة البلاستيكية المنسيّة على طاولة الانتظار،

التي لم يقترب منها أحد

لكن أحدًا لم يُزِلها.

(124 )

أفتّش عن الشعر في الأشياء التي لا نُسلّم عليها:

المصباح الذي لا يُضيء تمامًا،

الدُرج الذي يُصدر صريرًا لا يُصْلَحُ،

الكرسي الذي نمرّ به دون أن نُجربه.

كل شيءٍ صغير يحمل في طيّاته جملةً مؤجلة.

والقصيدة —

هي ما ينمو في هذه المسافة

بين العاديّ وما يتخفّى خلفه.

أبحث عن الشعر

كما يبحث الضوء عن نفسه

في كأس ماء تُنسى على حافة النافذة.

ليس في الكلمات

بل في ما تُخفيه الكلمات،

في ما يتردّد في الحلق ثم يُعيد نفسه إلى الداخل.

أبحث عنه

في الظلّ الذي يصعد الحائط ببطء،

ولا يعرف إن كان سيصل إلى السقف أم يذوب قبل ذلك.

في ثنايا الستائر،

في طيات القمصان القديمة،

في الحنين الذي يعلّق نفسه على مشجب الباب

ولا يدخل.

(125 )

الشعر —

هو ما يتكشّف حين لا نطلبه،

حين يمرّ شخص غريب في شارع فارغ

ويُشبه أحدًا لم نعد نتذكّره.

هو رائحة المطر في دُرج الخزانة،

هو لحظة نادرة حين تتذكّر روحك أنها نسيتك.

وأنا،

أقف على هامش جملة لم تُكتب،

أنتظر أن يُخطئ الليل

ويدعني أسمع ما لا يُقال.

أبحث عن الشعر

في جيب السترة

التي ارتديتها البارحة،

حيث تكدّست إيصالات النسيان،

وتجوّلت ورقة نعناعٍ يابسة

كأنها خريطة لمكانٍ لم أزره.

(126 )

الشعر

ربما كان الصوت الخافت الذي يصدر عن المصباح

حين ينسى الليلُ اسمه.

أبحث عنه في ارتباك المفتاح حين لا يتطابق مع القفل ولا مع اليد.

في الحرف الذي يهرب من الكلمة

كأنّه أدرك فجأة أن الجملة فخ.

الشعر،

ليس سوى الظلّ الذي يسبقنا

إلى المقعد الفارغ في مطعمٍ لا يقدم شيئًا إلا الذكريات.

أنا لا أكتبه،

بل أجلس إلى طاولته،

أراقب كيف يفتح النافذة ويُلقي بسؤالٍ صغيرٍ

في هواءٍ غارقٍ بالعوادم.

(127 )

الشعر —

تلك اللحظة المائلة التي يتجوّف فيها الصباح

كأنّه حفرة في ذاكرة المكان.

أبحث عنه في شقوق الجدران

حيث ينام صوت الأمس متنكّرًا في هيئةِ برق.

أبحث عن الشعر

في المصعد الذي توقف بين طابقين

وتركنا نعلّق أنفاسنا على حبلٍ لا يُمسك بشيء.

أفتّش عنه

في دفتر الملاحظات الذي يمحو نفسه كل مساء،

في الجملة التي تُكتب وحدها

ثم تُخطئ في تهجئة الألم.

الشعر

قد يكون تلك النقطة التي لم توضع في آخر السطر

لأن الكاتب غفا.

أو الباب الذي لا يُغلق لأنه خائف من أن يسمّي الصمت.

أبحث عنه

في ارتعاش الجفن حين تومض شاشة الهاتف

ولا أحد يكتب.

في الغيمِ

حين يمرُّ فوقَ المدينة

ولا يُرسل رسالة مطر.

في الأصوات المبتورة التي تخرج من الراديو القديم

كأنها تجرّ ذيولَ قصيدة لم تكتمل.

(128 )

الشعر ليس صوتًا،

بل صدىً

يشبه خطأً مطبعيًا في الذاكرة،

يشبه تاريخًا منسيًا حُفِر على كوب شايٍ مكسور.

وأنا

أُسند جمجمتي إلى ظهر الكلمة،

وأراقب كيف تنمو النقاط الثلاث

كغيمةٍ لا تقرر إن كانت ستبكي.

أبحث عن الشعر

في المسافة التي تفصل بين ضوء المصباح وعمقه،

في المسافة التي لا تحملها الكلمات.

الشعر

هو الجسد الذي لا يحتاج إلى عظام لكي يحتفظ بحركته،

هو الطيف الذي يمرّ عبر الجدران وينسى اسمه.

أفتّش عنه في قبلةٍ لم تُعطَ،

في عينٍ ترمشُ بلا سبب،

في صوتٍ يُخفي نصفه، كأنّه يخاف أن يُسمع.

الشعر

هو ما يختفي في اللحظة التي ندركها،

هو الهروب الذي نُلاحقه بلا جدوى.

أبحث عنه في صفحات كتابٍ مُغلق،

في الرسالة التي لم تُرسَل،

في الفنجان الفارغ الذي يحكي حكاية القهوة.

(129 )

الشعر ليس ما نكتب،

إنه ما يكتبنا.

وأنا،

أقف هناك،

بين الصمت والضوء،

أنتظر أن يأتيني.

أبحث عن الشعر

كما يبحث العابر

في منتصف زحامٍ لا يُطاق

عن ظله الذي نسيهُ في الميكروباص،

بين إعلانٍ باهت عن “حياة أفضل”

ورجلٍ يبيع ساعات مكسورة

ويبتسم

كأنّه يعرف النهاية.

الشعر ليس كلمة،

بل شُقَّة في الطابق الرابع لا يعرفها ساعي البريد،

ولا تصعد إليها المصاعد.

الشعر —

صوتٌ يتسلل من مصبغةٍ آلية

في حيٍّ ينام على حافة النسيان،

رائحةُ قميصٍ لم يُغسل منذ أسبوع،

قطرةُ قهوة على ورقةِ إجازةٍ لم تُوقَّع،

نظرةُ عاملٍ يدفن يديه في جيبه

خشية أن تنفجر الحقيقة من أصابعه.

في المدينة،

القصائد تُكتبُ بالممحاة،

والمعاني تتدلّى من مصابيح النيون

مثل جسدِ فكرةٍ انتحرتْ في منتصف الجملة.

(130 )

أبحث عن الشعر

في نباحِ كلبٍ على لا أحد،

في تمثالٍ فقدَ ذراعه الثانية وأكمل يومه بلا اعتذار.

أبحث عنه

كما يبحث القلبُ عن قلبٍ آخر في خزائن الإسمنت،

في الثياب التي لا رائحة لها،

في أصواتِ الخطوات التي لا تترك أثراً.

أبحث عن الشعر

في تلك اللحظة التي يتوقّف فيها المصعد بين طابقين،

حيث لا أحد، لا فوق، لا تحت ، فقط أنت

وصوتٌ ينبضُ كضوءٍ خافت في صدرك

يذكّرك أنك لم تعد تعرف إن كنت تصعد أم تسقط.

أبحث عنه

في ارتباكِ الرجل الذي يُحدث نفسه في محطة الحافلات،

لا لأنّه مجنون،

بل لأنه الوحيد الذي يفهم السؤال

حين لا يسمعه أحد.

(131 )

الشعرُ —

لا يطرق الباب،

يدخل من النافذة الخلفية للروح،

حافيًا،

مبللاً،

يحمل كيسًا من الخبز اليابس

وقصاصةً كتب عليها طفلٌ

“أمي ذهبت ولم تعد”.

أُفتّش عن القصيدة

في أرصفةٍ لا تعرف الحب،

في صناديق القمامة التي تحرسها القطط كأنّها كتبُ نبوءة،

في إشارات المرور التي تغيّر ألوانها بلا معنى،

تمامًا

كما تفعل الحياة.

الشعر ليس ما نكتبه،

بل ما لا نقدر على نسيانه.

هو ما يبقى حين يتبخّر كل شيء.

هو الغبار حين يصبح له اسم.

أبحث عن الشعر

كما يبحث الميّت عن صوته في أرشيفِ المقابر.

الشعر ليس جملة،

بل رعشةٌ تُصيب اللغة حين تخجل من نفسها.

هو هذا الفراغ

بين ضحكتين متباعدتين

في مقهى لا يتذكرك.

هو ارتجاف الكلمة

حين تمرّ بجانب حبٍّ قديم

ولا تسلّم.

أُفتّش عنه

في أعين المراهقين الذين يكتبون أسماءهم

على جدران المدرسة

كأنّهم يطالبون العالم ألا ينسى وجوههم.

أبحث عنه

في المرأة التي تقف طويلاً أمام المرآة

ولا ترى أحداً.

في العامل الذي يُنظّف زجاج البنك

ولا يلمس الذهب.

في القصائد التي لا تُطبع

لأنها تشبه الحقيقة أكثر من اللازم.

(132 )

الشعر —

ما يتسرّب من ثقبٍ صغيرٍ في جدارِ النفس

ويصنع ليلًا لا يُطفأ.

ما لا يُقال ، يبقى يتنفّس فينا ، حتى نصبحه.

أبحث عن الشعر

كمن ينصتُ لصوت الماء حين يهبط على إسفلتٍ ساخن

في شارعٍ لا يذكر اسمه أحد.

الشعر ليس جواباً،

بل ارتيابٌ خفيف يمرّ فوق سطح القلب

مثل طائرٍ فقدَ الريح ولا يزال يُحلق.

كل شيءٍ حولي يبدو واضحاً كفاية كي لا يُفهم،

والكلمات التي تخرج من أفواهِ الناس

كأنها أزرارٌ

تُخاط على عباءة الليل،

ولا تُغلق شيئاً.

أبحث عنه

في ارتعاشِ ظلٍّ خلف نافذة،

في بائع الصحف الذي يوزّع أخبارًا لا يصدقها،

في ملامحِ امرأةٍ تضبطُ ابتسامتها على توقيت المدينة

وتنسى وجهها عند الغروب.

(133 )

الشعر ليس ما يُقال،

بل ما يختبئ في تردّد الجملة،

في تلعثم الطفل الذي نسي اسمه أمام المرآة.

والمعنى كجسدِ برقٍ

لم يصل بعد إلى سمائه.

أبحث عن الشعر

كما يبحث الليل عن ظلّه في زجاج نافذةٍ مضاءة.

ليس مرئيًّا،

لكنّه يغيّر ترتيبَ الخطى،

كأنّ الشارع نفسه يتذكّر كيف كان شجرة.

كلما مررتُ تحت عمود إنارة رأيتُ جملةً تُطاردني،

تنزلق على الأسفلت،

تحاول أن تسبق صمتي.

أبحث عنه

في المقهى المهجور الذي احتفظ بطاولةٍ واحدة

لرجلٍ لم يعد يأتي،

في أثرِ كوبٍ ما زال يحتفظ بحرارةِ يدٍ لم تُغفَرُ.

(134 )

الشعر —

هو انكسارُ اللحظة على نفسها،

هو ما يتبقى من المعنى

بعد أن يخرج الجميع من القصيدة.

تسقط الكلمات كالمفاتيح من جيب المسافر،

لكن ، لا باب في هذا المساء كي تُفتح.

أبحث عن الشعر

في الهواء المعلّق بين نداءين،

في الغيم الذي ينسى اسمه كلما اقترب من المدينة.

كل شيءٍ حولي ينتظر أن يُسمّى،

لكن الأسماء،

هي ما يحجبُ الوجودَ عن نفسه.

أبحث عن الشعر

في تلك اللحظة التي يتوقّف فيها الضوء عن تعريف الأشياء.

حين يصير الكرسيّ مجرّد انتظار،

والباب احتمالًا لم يطرقه أحد.

(135 )

الشعر

ليس اكتشافًا،

بل نسيانًا نختاره بعناية.

هو الحائطُ حين يصغي إلى من يهمس له دون صوت،

هو الفراغُ حين يمنح للخطى معنىً لا يحتاج إلى وصول.

أبحث عنه

في أرقام الطوابق التي لا تشير إلى السماء،

في المصعد الذي يصعد وينزل دون أن يحمل أحدًا.

أبحث عنه

في جسد الليل حين تنكمش الأزمنة

وتصير اليد امتدادًا لغيابٍ لا يُشفى.

(136 )

الشعر —

هو ما لا نكتبه

لأن الورق أضيق من الرعشة،

ولأن المعنى،

حين يُمسَك،

يموت.

أُفتّش عن الشعر لا لأجده،

بل لأتذكّر أن ما يبقى في القلب لا يحتاج إلى شاهد.

المدينة تنام على جمر أسطول من الأضواء،

وأنا أتلمس الشعر كما يتلمس الغريب ثنايا الجدران،

حيث ترقص الظلال بلا أقدام،

وحيث تتسرب الكلمات من شقوق الوجوه،

تتشظى مثل زجاج مكسور تحت قدميّ.

الشعر —

هو الخيط المقطوع بين لحظةٍ وأنينها،

هو شبح الحلم الذي يختبئ في زحمة الحي،

حين يصير الصوت خافتًا حتى في الداخل،

ويغدو الصمت نفَسًا في رقبة الزمن.

أبحث عنه

في عيون المارة،

في الرصيف الذي يأكل أقدام العابرين،

في القهوة التي تبرد على الطاولة ولا يذكرها أحد.

هو نبضٌ خافتٌ داخل صندوق بريد مهجور،

هو ورقة شجرة تُسقطها الريح على نافذة حافلة المدينة.

(137 )

الشعر ليس حرفًا،

بل فجوة تهتز بين الأشياء،

كالحافة التي لا تقع فيها المدينة ولا أحلامها.

أبحث عن الشعر

بين أصوات الأبواب التي تُغلق دون وداع،

في المرايا التي تكسرت من كثرة الانتظار،

في وجوه لا تعرف غير ارتباكها الدائم.

الشعر —

هو الصرخة التي لا تصل،

هو الحلم الذي لا يكف عن التمدّد في سكونٍ مهجور،

هو العربة التي لا تصل إلى محطة النهاية.

أفتّش عنه

في نهر لا يتوقف عن الجريان تحت جسر المدينة،

في خطاب مكتوب بأحبار من دموع،

في هاتف

يُردّد نغمة انتظار

بلا جواب.

هو العطر الذي يختبئ بين صفحات كتاب مفتوح،

هو طيف يلفّ حول زقاق مهجور،

هو الصوت الذي ينام في الغرف المغلقة.

(138 )

الشعر لا يُكتب،

بل يُعاش،

يُختَبر كسراب في الصحارى الداخلية.

أبحث عن الشعر

في الفراغ بين الكلمات،

في اللحظة التي يختفي فيها الصوت خلف صمتٍ ممتد.

الشعر —

هو النبضة التي ترفض أن تروى،

هو الجسد الذي يهرب من ضوء النهار،

هو السرّ المدفون تحت أنقاض الحكايات.

أفتّش عنه

في خطى عابرٍ بلا وجه،

في نافذة لا تُطلّ إلا على اللاشيء،

في ضوء قادم من زقاق لا يعرف الليل.

الشعر

هو ذلك اللاشيء الذي يُحيينا،

هو الزقاق المغلق الذي يحرس مفتاح الزمن.

لا يُكتَب الشعر،

إنه يُحتَمل،

هو الغياب الذي يملأ الفراغ.

وأنا،

أظل أبحث،

كمن يلاحق ظله في مدينة لا تعرف الرحيل.

(139 )

أبحث عن الشعر

كما يبحث الناجون عن دَرجٍ لا يؤدي إلى القبو.

في حيٍّ تقاعدت فيه الأرصفة،

وفي إشارات المرور

التي تضيء لفراغٍ لا يعبُره أحد.

الشعر —

ربما

هو بقعة الضوء

التي تسقط على جدارٍ مخلوع،

فتذكّرك أنك مررت هناك ذات خيبة.

أبحث عنه

بين السلالم المعدنية التي تصدأ من فرط الترقب،

في أصابع المتسوّلين التي تكتب أسماءنا

بأحجارٍ صغيرة على الإسفلت.

كل شيءٍ هنا

ينطق بلغة ما بعد الدخان.

المدينة —

مرآةٌ تنكسر كل صباح

ولا يفكر أحد بلصقها.

وأنا

أدسّ يدي في جيب معطفي

وأتلمّس نُدفًا سوداء

هي كل ما تبقى من القصائد.

أبحث عن الشعر

لأنني خائف

من أن أستيقظ يوماً

وقد اكتمل العالم.

(140 )

أبحث عن الشعر

في محطات الحافلات التي لا تحمل أسماء،

في العناوين التي تمحوها الأمطار

من فوق صناديق البريد.

أبحث عنه

في الجدران التي تكتب بالصدأ،

في النوافذ التي لا تُفتح إلا ليلاً

حين لا أحد يمرّ.

الشعر

هو ما يبقى عالقاً في فم السارد

حين يخونه الهواء.

هو ما يُقال بصوتٍ خفيض لأحدٍ لن يسمع،

وما يُكتب بأصابع مرتعشة على حافة تذكرة قطار

لن يُستخدم.

أفتّش عنه في القصائد التي لم تُطبع

لأن أحدًا لم يرد قراءتها،

في الأغاني التي تغنّيها المدينة للأحياء الخطأ.

(141 )

أبحث عن الشعر

لا لأنني أحتاج لغة،

بل لأن الصمت صار صاخبًا أكثر من اللغات كلها.

أبحث عن الشعر

كمن يبحث عن حذائه في حريق،

كمن يُعيد ترتيب رماد رسائله ليقرأ اسمه.

لا أحلم بالقصيدة،

بل ، بأن يظلّ شيءٌ ما ينتظرني على الرصيف.

الشعر —

هو هذا الارتباك حين لا أعرف

هل عليّ أن أضحك

أم أن أُطفئ المصباح.

هو ما يجعلني أعود دون سبب

إلى المقعد نفسه في المقهى،

وأفتح دفتراً

لا أكتب فيه.

(142 )

أبحث عن الشعر

في هذا اللامعنى المهذّب

الذي نسمّيه الحياة.

في ابتسامة البائع حين لا يبيع شيئاً،

في علبة السجائر الفارغة

التي يحتفظ بها أحدهم لأنه لا يعرف لماذا.

ربما

لا أبحث عن الشعر،

بل عمّا يُشبهه بما يكفي

لأواصل المشي.

وأنا،

أمشي.

وأترك خلفي جملةً غير مكتملة،

كأنها طريقتي لأقول:

كنت هنا…

لكنني

لم أجدكم.

(143 )

أبحث عن الشعر

لا في اللغة،

بل في انكسارها عند المفترق.

أبحث عنه في أثر القدم الثانية

التي لم تطأ بعد الإسفلت.

في الحقيبة التي تُترك قرب المقعد

كأن أحدًا سيعود،

لكنّه لا يعود.

الشعر —

ربّما هو ما يسقط من الجملة حين نقرأها بصوتٍ مكسور،

ما يتبقّى في جيب العابر حين لا يعرف أين يذهب.

المدينة تتثاءب كحيوان عجوز ينسى اسمه على الجدران،

ويُربّي ظلّه في محطات القطارات.

كل نوافذها مفتوحة على نفس الضباب،

وكل الأبواب تنسى أن تُغلق جيدًا.

(144 )

أبحث عن الشعر

في ما لا يُسمع من الأصوات،

في ارتباك العتمة

حين تلمس الضوء ولا تعرفه.

وأنا،

أعيد ترتيب ظلالي على الحائط ذاته،

كما لو أنني أبحث عن شيء لم أضعه بعد.

أبحث عن الشعر

في المصابيح التي تنطفئ بلا سبب،

وفي الطابق الذي لا يسكنه أحد

لكننا نسمع فيه خطواتٍ غريبة كلّ مساء.

أبحث عنه

في الرسائل التي لم تُرسَل

لأنها لم تجد يدًا تكمل الجملة،

في الطاولة المهجورة في آخر المقهى،

حيث جلستُ مرّةً

وتركتُ نظرتي عالقة

في كوبٍ لم أطلبه.

(145 )

الشعر

هو الصوت الذي لم يجرؤ على الخروج،

الصوت الذي بقي في الحلق كأنه شيء لا يُقال.

هو تلك المسافة بين اليد والورقة،

حين تتردّد الأصابع كما لو أنها تُفكّر في خيانةٍ صغيرة.

في المدينة

تسير الجدران إلى الخلف،

والأرصفة تنمو كأنها تحتجّ

على أحذية لا تعرف الإنصات.

الشعر لا يُكتَب،

بل يظلّ ينتظر أن يتعثر به أحدهم

وهو يطارد ظله في الزاوية الخطأ.

(146 )

أبحث عن الشعر

في اللحظة التي تغلق فيها المدينة عينيها،

حين يتحوّل الضجيج إلى رماد يتساقط على كفّ الغياب.

الشعر —

هو الصمت الذي لا يحتمل أن يُقال،

هو الهواء الذي لا يُملأ،

هو القصة التي لا تبدأ،

ولكنها تبقى تحكي.

أفتّش عنه

في القهوة التي تبرد ببطء،

في أصابع المطر التي تطرق النافذة بلا إذن،

في النوافذ التي ترقب الغياب

كما يترقّب طفل أمه.

الشعر ليس فِرارًا،

بل هو الوقوف في وسط المدينة،

مع كل الخيبات والوجوه الغريبة،

هو أن تعرف أن لا شيء يظلّ،

وكل شيءٍ يذهب —

وأنت تبقى.

وأنا،

أقف بين الأنقاض والضوء،

أنتظر أن يخرج الشعر من صمتي،

كما يخرج النسيم في آخر النهار.

(147)

أبحثُ عن الشعر،

حيث يرقص الغبار في ضوء النافذة

كأنه سربٌ من الهمسات

يتنفس

يهمس بأسرار الريح،

ويتعثر في حذائي القديم. 

الشارع يغني

أرصفته تتنهد تحت وقع الأقدام

والأشجار تمد أذرعها كأنها أمهاتٌ عجائز

يتشبثن بحافة السماء

يردن أن يسرقن منها قبسًا من أزرقٍ

يفوح برائحة المطر. 

أرى الزمن يمشي

حذاؤه جلدٌ متشقق

يترك آثارًا على إسفلت الأيام.

أشمُّ رائحة الضحكات القديمة

تتسرب من شقوق الجدران

كأنها عطرٌ مبعثرٌ من زجاجة مكسورة. 

(148 )

أبحثُ عن الشعر

في تناقض الضوء والظل

حيث يصرخ الضوء كطفلٍ مشاكس

ويهمس الظل كحكيمٍ يخفي نصف الحقيقة.

أبحثُ عن الشعر

في جيب معطفي الممزق

حيث تتكدس التفاصيل:

مفتاحٌ صدئ يغني أغنية الأبواب الموصدة

ورقةٌ مطوية

تتنفس بحبرٍ يرقص كالنبض. 

الريح تتكلم

تنفث كلماتٍ مبللة برذاذ النهر

أتذوق ملحها على شفتي،

كأنني أقرأ قصيدة مكتوبة بلغة الغيوم.

الأفق يمد يده

لكنه يتعثر في ضبابٍ يضحك ساخرًا

كأنه يعرف أنني لن أصل. 

أرى الصمت يمشط شعره الأسود

يجلس على عتبة النوافذ

يحتسي فنجان الفراغ.

رائحة القهوة القديمة تتحدث

تحكي عن أيامٍ كانت تنام في حضن الصباح

لكنها الآن تتأرجح  بين الضوء والنسيان. 

(149 )

أبحثُ عن الشعر

حيث يتصادم البرد والنار

النار ترقص كعروسٍ متمردة

والبرد

يهمس كمؤمن  يخفي سرًّا في عباءته.

في هذا الصدام أجد كلمةً تتوهج

ثم تذوب

كالثلج على لساني. 

أبحثُ عن الشعر في عيون الغرباء

حيث تسبح حكاياتٌ لم تُروَ

كأسماكٍ فضية تتلألأ تحت سطح الماء.

كل نظرةٍ رصاصةٌ عطرة تخترق صدري

تترك رائحة الذكريات تتسرب كدخانٍ رقيق. 

الشجرة في زاوية الحديقة

تتثاءب

تتمطى

كأنها امرأةٌ عجوز تحكي للريح أحلامها.

أوراقها تهمس بصوتٍ يشبه رنين الأجراس

لكنني أشمّ في صوتها رائحة الخريف

كأن الزمن يقطّر نفسه في قطراتٍ صفراء. 

(150 )

أبحثُ عن الشعر في تناقض القلب والعقل

القلب يغني كطائرٍ سكران

والعقل يحصي خطواته كجنديٍ متعب.

بينهما،

تتسلل كلمةٌ كالضوء عبر شقّ الباب

لكنها لا تكفي لإضاءة الغرفة. 

الغموض يراقبني

يبتسم كقطٍّ يعرف سرّ المطبخ

وأنا أتبعه

أتعثر في خيوط الضوء

أسمع نبض الشعر يركض بعيدًا

كأنه طفلٌ يضحك في زقاقٍ لا ينتهي. 

(151 )

أبحثُ عن الشعر في ساعة الحائط

حيث العقارب تتسلق الزمن

كمتسلقي جبالٍ يرتجفون تحت ثقل الأبدية.

تكتكتها صوتٌ يرن كالضحك

لكنه يفوح برائحة الغبار

كأن كل ثانيةٍ ورقةٌ تسقط من شجرةٍ لا ترى. 

النافذة تتنهد

زجاجها يرتجف كجلدٍ حي

يحكي عن ليالٍ شاهدت أحلامًا تتسرب كالماء.

ألمس برودتها،

فأسمع همس النجوم. 

أبحثُ عن الشعر

في تناقض الوحدة والصخب

الوحدة ترقص كظلٍ خجول في زاوية الغرفة،

والصخب يصرخ كسوقٍ يتدافع فيه التجار.

بينهما،

كلمةٌ تتأرجح كقاربٍ صغير

على موجةٍ لا تعرف الشاطئ. 

الغموض يضحك

يلبس قناع الوضوح

ثم يهرب

يترك في يدي خيطًا من دخان

أحاول أن أنسج منه قصيدة

لكنه يتلاشى

كأغنيةٍ نسيها المغني في منتصف الليل. 

(152 )

أبحثُ عن الشعر في المرآة المكسورة

حيث وجهي يتنفس

شظاياه عيونٌ ترمقني كالغرباء.

كل شظيةٍ حكاية تتذوق طعم الذكريات

كأنها نبيذٌ قديم يحترق على لسان الزمن. 

الشارع يتململ

كأنه طفلٌ يحلم بأجنحة

مصابيحه عيونٌ تطرف في الظلام

تتوسل ضوءًا من سماءٍ بخيلة.

أسمع رائحة الأسفلت المبلل

كأنها دمعةٌ سقطت من عين المدينة. 

(153 )

أبحثُ عن الشعر

في صراع النور والعتمة

النور يغني ككورالٍ من ملائكةٍ صغار

والعتمة تصمت كقبرٍ يحتضن أسرارًا.

بينهما

كلمةٌ تتسلل كلصٍ في الظل

تحمل في جيبها وميضًا

لكنها لا تعرف إلى أين تسير. 

السخرية تراقبني

كعجوزٍ تمضغ التفاح وتضحك

تعرف أنني أجري وراء سرابٍ يبتسم.

لكنني أستمر

أحفر في الرماد

أجد جمرةً صغيرة

تغني بصوتٍ لا أسمعه

لكنني أشمه

كأنه عطرُ قصيدةٍ لم تُكتب بعد. 

(154 )

أبحثُ عن الشعر

في تفاحةٍ متساقطة على العشب

حيث تتلوى كفكرةٍ عجوز

تتنفس تحت شمسٍ تُغني بلغة الذهب.

قشرتها الحمراء تتذوق طعم الريح

كأنها قصيدةٌ كتبت نفسها

ثم نسيت كيف تُقرأ. 

السماء ترتدي أزرقها كعباءةٍ

متعجرفة تتمشى ببطء

تترك رائحة الغيوم كعطرٍ مبعثر.

أسمع خطواتها في صمت العصافير .

(155 )

أبحثُ عن الشعر

في تناقض الفكرة والشيء

الفكرة تطير كطائرٍ من زجاج

والشيء يقف كصخرةٍ تتمتم بحلمٍ ثقيل.

بينهما

كلمةٌ تتسلق سلّم الخيال

لكنها تتعثر

تسقط في بركةٍ من الواقع

فتصير نجمةً تذوب في النهار. 

السخرية تتكئ على عصا الزمن

تنظر إليّ كما لو كنتُ كتابًا مفتوحًا

لكن صفحاتي بيضاء

ترقص فيها ظلال الكلمات

كأنها أشباحٌ

ترفض أن تُكتب.

وأنا أستمر

أحفر في الهواء

أجد ريشةً تطير

لكنها لا تعرف من أين أتت.

(156 )

أبحثُ عن الشعر

في كوب الشاي المنسي على الطاولة

حيث يتراقص البخار

كأنه روحٌ تحلم بأجنحةٍ من دخان.

ألمس حرارته

فأرى ذكرياتٍ تتساقط كأوراق الشجر

كل ورقةٍ لحنٌ يفوح برائحة الخريف. 

الجدران تتحدث

تهمس بصوتٍ يشبه رنين الزجاج المكسور

كأنها امرأة عجوز

تحكي عن أيامٍ كانت السماء فيها أقرب.

أشم رطوبة الطلاء القديم

كأنني أقرأ صفحةً

من كتابٍ غرق في المطر.

 (157 )

أبحثُ عن الشعر

في صراع الخيال والحقيقة

الخيال يرقص كمهرجٍ في سيركٍ مهجور

والحقيقة تجلس كقاضٍ يحصي الأخطاء.

بينهما،

كلمةٌ تطفو كقاربٍ من ورق

تحمل وعدًا بالبحر

لكنها تتفتت تحت أصابع الريح. 

الغموض يبتسم

كأنه بحارٌ يعرف أن الأفق سراب

لكنه يبحر

يترك لي خريطةً من الضوء

لكنها مرسومة بلغةٍ لا أفهمها.

وأنا أتبعه

أجمع شظايا الكلمات

كأنني أبني قصرًا من الرمل

يضحك المدُّ عليه

لكنه يقاوم

كأنه يعرف أن الشعر هو هذا السقوط. 

(158 )

أبحثُ عن الشعر

في بقعة القهوة على الطاولة

حيث تتمدد كعينٍ تبكي

تنبض بحكايات الصباحات المنسية.

رائحتها ترقص

كأنها أغنيةٌ عتيقة

تتسرب من راديو مكسور. 

الشارع يتململ

كأنه كلبٌ يحلم بمطاردة الريح.

أرصفته تتنفس

تتنهد تحت أحذية المارة

كأنها جلدٌ يتذكر لمسة الشمس.

أسمع ضحكة الإسفلت

لكنني أرى رطوبتها كدمعةٍ متجمدة. 

(159 )

أبحثُ عن الشعر

حيث يتصادم الصمت والضجيج

الصمت يجلس كراهبٍ يحصي حبات السبحة

والضجيج يرقص كمهرجٍ في سوقٍ مهجور.

بينهما

كلمةٌ تتعثر

كأنها طفلٌ يجري في زقاقٍ مليء بالظلال. 

الغموض يبتسم

كقطٍ يختبئ خلف ستارة الضوء

يتركني أحمل ظلًا

أظنه قصيدة

لكنه يذوب بين أصابعي

كسكرٍ في فنجانٍ بارد. 

(160 )

أبحثُ عن الشعر،

في خيط العنكبوت المعلق بين الجدارين،

حيث يرتجف كقلبٍ خائف،

يغني بلغة الريح.

ألمسه

فأشم رائحة الغبار

كأنها ذكرى امرأةٍ نسيتُ اسمها. 

الساعة على الحائط تتكلم بلسانٍ من حديد

عقاربها تتراقص كراقصاتٍ متعبة

تحاولن الإمساك بظل الزمن.

أرى صوتها

كأنه ضوءٌ يتساقط من نافذةٍ مكسورة. 

(161 )

أبحثُ عن الشعر

في تناقض الضوء والظل

الضوء يغني كطائرٍ يظن أنه حر

والظل يصمت كقبرٍ يحتضن سرًا.

بينهما

كلمةٌ تطفو

كورقةٍ على نهرٍ لا يعرف الشاطئ. 

السخرية تراقبني

كأنها نادلٌ يحمل صينيةً من الكلمات الفارغة

يبتسم وهو يعرف أنني جائع.

لكنني أستمر

أحفر في الرماد

أجد شرارةً صغيرة

تتنفس

كأنها بداية قصيدةٍ لم تُولد بعد.

(162 )

أبحثُ عن الشعر

في المظلة المنسية في زاوية الغرفة

حيث تقف مثل امرأة متعبة

تتكئ على عصا الانتظار.

قماشها يهمس

كأنه يحكي عن أمطارٍ لم تسقط

وأشم رائحة الرطوبة

كأنها دمعةٌ محبوسة في عين السماء. 

النوافذ تتنفس

زجاجها يرتجف كجلدٍ حي

يحلم بلمسة الريح.

أسمع برودتها

كأنها أغنيةٌ تتساقط من جبلٍ بعيد.

الشارع يحدق بي

عيونه مصابيحُ تطرف في الظلام

كأنها تبحث عني

لكنها ترى ظلي فقط. 

(163 )

أبحثُ عن الشعر

في صراع النسيان والذاكرة

النسيان يرقص كشبحٍ يضحك في المِرآة

والذاكرة تجلس كحجرٍ يحمل أسماءً محفورة.

بينهما كلمةٌ تتسلل

كلصٍ يسرق ضوءًا من نجمةٍ متعبة. 

الغموض يضحك

كأنه طفلٌ يرسم دوائر في الرمل

ثم يهرب قبل أن يفسرها.

وأنا أتبعه

أجمع شظايا الكلمات

كأنني أبني قاربًا من الضباب

يطفو

لكنه لا يعرف إلى أين. 

(164 )

أبحثُ عن الشعر

في كوبٍ من الطين المتصدع

حيث يتنفس الماء

كأنه قلبٌ يرتجف تحت أصابع الشمس.

رائحته ترقص

كأنها ذكرى امرأةٍ نسيتُ اسمها في المطر. 

الصحراء تتململ

كأنها عجوزٌ تحلم بحكايات الريح.

صبارها يغني

أشواكه أوتارٌ تهمس بلغة الجفاف.

أرى صوتها

كأنه غبارٌ يتساقط من سماءٍ متعبة. 

(165 )

أبحثُ عن الشعر

حيث يتصادم الفراغ والامتلاء

الفراغ يجلس كمتصوف يحصي حبات الرمل،

والامتلاء يرقص كسوقٍ يضج بالألوان.

بينهما كلمةٌ تتعثر

كطائرٍ يحلم بأجنحةٍ من دخان. 

الغموض يضحك

كأنه طفلٌ يرسم دوائر في التراب

يتركني أحمل ظلًا

أظنه قصيدة

لكنه يذوب

كسحابةٍ تهرب من عين الشمس. 

أبحثُ عن الشعر

في حذاءٍ مهترئ على عتبة الباب

حيث يتنهد كجنديٍ عائد من حربٍ خاسرة.

جلده المشقق يحكي

عن طرقاتٍ نسيت أسماءها.

ألمسه

فأرى رائحة الأرض

كأنها دمعةٌ سقطت من جبلٍ بعيد. 

الريح تتكلم

كأنها عازفةٌ تضرب أوتار الغيوم.

أسمع خطواتها

كأنها ضوءٌ يتسرب من شقّ النافذة.

الأفق

يحدق بي

عيناه موجتان تتراقصان في بحرٍ من الغبار. 

( 166 )

أبحثُ عن الشعر

في تناقض الصمت والصخب

الصمت يزحف كثعبانٍ يحلم بالاختباء

والصخب يغني كطائرٍ يظن أنه السماء.

بينهما

كلمةٌ تطفو

كورقةٍ على نهرٍ . 

السخرية تراقبني

كأنها بائعٌ متجول يعرض كلماتٍ فارغة

يبتسم وهو يعرف أنني أشتري الوهم.

لكنني أستمر

أحفر في الرماد

أجد شرارةً

تتنفس كقصيدةٍ تحلم أن تُكتب. 

( 167 )

أبحثُ عن الشعر

في مرآةٍ مغبرة في زاوية الغرفة

حيث تتنفس كعينٍ تراقب نفسها.

شظاياها تحكي

كأنها أصواتٌ تائهة في ليلٍ بلا نجوم.

ألمس برودتها

فأشم رائحة الذكريات

كأنها دخانٌ يتصاعد من نارٍ خمدت. 

المدينة تتمدد

كأنها وحشٌ يحلم بابتلاع السماء.

شوارعها تنبض

كأوردةٍ تحمل دمًا من الإسفلت.

أسمع رائحة المصابيح

كأنها أنفاسٌ متعبة تتسرب من قلب الليل. 

( 168 )

أبحثُ عن الشعر

في صراع النسيان والحضور

النسيان يرقص كشبحٍ يضحك في الظل

والحضور يقف كصخرةٍ تحمل أسماءً محفورة.

بينهما كلمةٌ تتسلل

كلصٍ يسرق ضوءًا من قمرٍ نائم. 

الغموض يبتسم،

كأنه شيخٌ يحكي أسطورةً بلغةٍ مكسورة

يتركني أحمل خريطةً من الرمل

أظنها قصيدة

لكنها تتفتت

كأحلامٍ نسيتها الشمس. 

مقالات من نفس القسم