مسالِك
في الغرفة الأبعد ، أغلقت كل المنافذ إلا أن بَصيصَيْن من الضوء تسللا ، بخجلٍ وترددٍ في مبدأ الأمر ثم بإصرارٍ وسخونةٍ بعد ذلك .. تحَفَّزت لديَّ قوى المقاومة القديمة وقمتُ وأطبقت على فتحات الباب التي سابها النمل بكل ما في الغرفة من ملابس وقطع ممزقة .. قاوم الوَهَجُ بضراوة لكنهُ في النهاية ارتضى ألا يترك إلا أثَرَاً لا يكاد يُذكر ومن الممكن تجاهله .. توجهت للسرير متعباً ثم قفزت فجأة عندما لسعتني سخونة بصيص النافذة .. خلعتُ ملابسي كلها وأغلقت المنافذ والمسالك وفي النهاية رضيَ هو الآخر ألا يترك إلا الأثر الذي يضمن الحياة والاستمرار وفي نفس الوقت لا يمكنك من رقبته .. كان الإنهاك قد وصل بي إلى نهايته فأغلقت عيني حتى قبل أن أرتمي على السرير .. لكني قفزت فجأة عندما تذكرت العَدُوَّيْنِ الساخريْنِ الذيْنِ استعمرا الغرفة واستعمراني ..هل سيمارسان اللعبة الحتمية ويكبرانِ رويداً رويداً حتى يحاصران التنفس .. هل سيستمدان حياتهما وتكاثرهما من شهيقي وزفيري … من روحي ؟ كان الحل الوحيد والشريف هو أن أقاوم حتى ولو بجسدي ..قفزت وسندت ظهري على الباب ومددت ذراعي للنافذةِ فلم تصل إلا أطراف الأصابع ..أغمضت عيني واستجلبت كل قوايَ وقوى الأسلاف والآلهة لكنهم خذلوني ولم يزد ذراعي إلا عدة مليمترات .. تفصَّد العَرَق من كل مسام جسدي ثم وأنا وسط هذا الطوفان فقدت الوعي وحلمتُ أني قابعٌ في ركن في الجنة .. أبتهلُ وأبتهلُ وكلما بكيت وصرت أكثر صدقاً وحرارةً في الترجي تطول ذراعي أكثر وأكثر لكن طرف عيني كان مشغولاً ببصيصٍ ملتهبٍ يتبدَّى من بعيد ..
مَدَاخِل
ستُ سنوات كاملة مرت على اقتنائي للوحة وتعليقي إياها في هذا المكان .. وللمرة الأولى جاءت جلستي بزاوية عجيبة تتيح تأملها الذي كان ساعتها غير مقصود وإنما كان هذا التفرس تحويلاً للأمر من ( السرحان ) في أمرٍ مشوش كالعادة إلى الانتباه لها فجأة ثم التركيز فيها وحدها .. اكتشفتُ أن خلف زهور اللوحة ستارة تحتل نصف الخلفية وأن خلف هذه الستارة عينٌ ما .. كيف لم أكتشف هذا إلا الآن .. كيف حدقت فيها في مبتدأ الأمر واخترتها واشتريتها هي بالذات وكيف حملتها وعلقتها ووقفت أمامها ثم رائحاً غادياً لأتأكد من ملاءمتها من كل النواحي .. للحائط وللركن وللممر ..الخ والأدهى أن جلستي لسنواتٍ كانت أمامها .. أين كانت تلك الستارة من قبل وعين من هذه .. عين الفنان الذي رسمها أم عين القدر أم .. ياالله .. إنها تشبه عين أبي الميت ..إذن كان يراقبني من هنا .. ياللفضيحة .. شافني وأنا أجلب المومسات ثم لما اكتسب صوتي الهيبة والعمق وأن أصيغ اتفاقنا الشفوي على تكوين خلية لقلب نظام الحكم ..التدخين بدرجاته وأنواعه وعدم الالتزام في الصلاة بعد وفاته مباشرة ثم هجرها نهائياً وتغطية فتحة الشباك المكسور بسجادته الأثيرة .. كان الأب يرى ويحزن ويخبر زملائه الأموات أنه ساب ولداً عاقاً لا يستحق الحياة ولا التنفس .. عند هذا الجزء قمت من مكاني وتحركت ببطء نحو الخزانة وأخرجت صورته ووقفت أمام المرآة ووضعتها جنب ملامحي ..لاحظت أن الشَعْر الأبيض قرَّب بين ملامحنا وكذلك لاحظت أن عيونه تلمع بالبريق الذي يصل لدرجة التشفي …