بين الذاتى والواقعى وتشكُّلات حضور الجسد قراءة فى ديوان غرام افتراضى للشاعر سمير درويش

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد على عزب

1- بين الذاتى والواقعى:

“غرام افتراضى” هو عنوان الديوان العاشر للشاعر المتميز سمير درويش وقد صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، سلسلة الشعر العربى 2012، ويتكون من 76 مقطعًا شعريًّا يبدأ كل مقطع بلازمة شعرية مكونة من كلمتى “قالت لى”، ويمكن أن نعتبر أن هذ الديوان قصيدة واحدة طويلة تتنوع فيها الحالات والتحولات الشعرية وفى نفس الوقت يمكن أن نعتبر كل مقطع شعري يبدأ بلازمة “قالت لى” وينتهى بتاريخ كتابه الشاعر له. قصيدة قصيرة تعبِّر عن حالة شعرية مستقلة تتصل وتنفصل عن سابقتها ولاحقتها، وهذا الشكل الفنى يعكس حالة الجدل التى تمثل بؤرة التوتر الشعرى فى هذا الديوان، جدل بين التماسك والتشظى، والحسي والمعنوي، والافتراضي والمتحقق، والذاتي والموضوعي، والمطلق والمحدد.

المرأة التى استحضرها الشاعر فى ديوانه صاحبة رؤيا “بصر وبصيرة” شبيهة بالكشف الصوفي، والشاعر هو الذى فتح لها نافذة الرؤيا واستنطقها وأصبح مشاركًا لها فى تلك الرؤيا التي نقلها عنها وقام بتجسيدها عبر السرد الشعري المشهدي؛ القائم على الإيماء والإيحاء والتخييل والتصوير، بلغة رامزة مشخَّصة، مفرداتها وتراكيبها لا تغرق فى بحر التصوف لكنها تارة تسبح بين أمواجه وتارة تحلِّق فوق سطحه على مسافات متفاوته فتتبلل برذاذ التصوف، وتؤسس هذه اللغة خصوصيتها الجمالية عبر المزج بشكل شعرى بين الصوفي والعاطفي والوجودي والجسدي والروحي، مع توظيف رموز وإشارات من التراث الديني المشرقي ورموز من الثقافة العالمية، حيث يقول الشاعر فى ص11:

قالتْ لِي: أنتَ فتحتَ لي نافذةَ الرُّؤيَا

الآنَ، فقطْ، أستطيعُ أن أجرِّبَ دونَ وجلٍ.

إنْ لمْ أربحْ بيتًا سأربح صخبًا أحبُّهُ

ودروسًا يتعلَّمُهَا جسدِي

لكنِّي لستُ مجبرةً على المُضَيِّ

في طريقٍ تُؤَدِّي إليكْ!

وكما أن الرؤيا فى الديوان تحيل على البعد الشعري والصوفي لمفهوم الرؤيا فإنها أيضًا تحيل إلى مفهوم الحلم الذى يراه النائم فى منامه كما فى ص19:

قالتْ لِي:

إنِّي رأيتُ في المَنَامِ أنَّكَ تخنقُنِي

وفد افْتَدَتْنِي صدِيقَةٌ بمُخَابَرَةٍ هاتفيَّةٍ!

قالتْ: أحملُ ثلاثَ إناثٍ خائِفَاتٍ

وجسدٍ لمْ يتدرَّبْ عَلَى المُتْعَةِ،

ما إِنْ تَرْضَى واحِدَةٌ حتَّى تَعْصَى أُخْرَى

وقالتْ: هلْ تفرَحُ حزِينَةٌ؟

قُلْتُ: يَا فَتَاتِي سأفعَلُ ما أؤْمَرُ

وسأجِدُكِ إِنْ شَاءَ العِشْقُ

مِنَ الطَّائِعِينْ!

وقد استدعى الشاعر تلك المرأة لتكون رفيقته فى رحلة الغرام الافتراضى، تشاركه الرؤيا والسفر بأجنحة الخيال والشعر والحدس والحلم لكي يتجاوزا منطق الواقع والتاريخ والذاكرة، دون أن يهربا من ذلك الواقع المعيش، بل يحاولان الكشف عن جوهره، وصياغة منطق آخر خاص برؤياهما لذلك الواقع عبر التأمل الذاتى والاستبطان والتساؤل، وتمثِّل تعرية الذات والكشف عن دواخلها خطوة رئيسية فى اتجاه تعرية الواقع والكشف عن تناقضاته الفادحة، حيث يقول الشاعر فى ص21:

قالتْ لِي: وحدَكَ تَسْتَطِيعُ قراءَتِي

: حينَ أصمتُ.. أحلمُ بِكْ؛

دعنِي، مرَّةً، لا أكْتَفِي بالحُلْمِ.

حينَ أحْكِي أتعَرَّى؛

دعنِي، دائمًا، أتعرَّى أمامَكَ!

حينَ ألجأُ إليكَ أهْرُبُ منْ وحدَتِي

وتقوم رفيقة الشاعر بتعرية الواقع الخاص بها وبالفتيات الحالمات عبر تصويرها لتناقضاته الفادحة التى تمسخ الحلم وتحوِّله إلى صورة مشوهة كما في ص40:

ولكلِّ فتاةٍ تتقافَزُ كيمامةٍ، حلمٌ

ينتهِي، غالبًا،

بشحوم، ورجلٍ كئيبٍ، وحقيبةٍ ثقيلةٍ،

وزجاجةٍ بلاستيكيَّةٍ تجمَّدَ ماؤُهَا

ونظراتٍ مقهورةْ!

ورغم ذلك لا تكف رفيقة الشاعر عن صياغة وتشكيل أحلامها الخاصة كما فى ص83:

قالتْ: سأجمعُ قصائدَكَ المنثورةَ

فِي الصحراءِ العربيَّةِ،

أشكِّلُهَا رجلًا يستطيعُ عبورَ حواجزِي

حتَّى إذَا مَا وصلتُ إلَى حيثُ أنتَ،

أكونُ أنَا!

تستدعى رفيقة الشاعر الموروث العاطفى للفتاة العربية التى تنتظر فارس الأحلام وتعيد صياغة وتشكيل ذلك الموروث بطريقتها الخاصة، فهى لا تنتظر فارس الأحلام بل تجمع قصائد رفيقها الشاعر المنثورة فى الصحراء العربية وتنسج منها حلمها بذلك الرجل/ الفارس الذى يستطيع أن يعبر الحواجز التى بينها وبينه، ولا تكتفي رفيقة الشاعر بصياغة الأحلام ذات الطابع الرمزى بل لديها القدرة على تحويل حلمها الخاص إلى واقع عيني ملموس عندما تربط بين الهم الذاتى والهم العام، وتشتبك هى والشاعر بأحداث مظاهرات العباسية سنة 2011، وتربط بين الحاضر الراهن الذى تمثله تلك المظاهرات وبين التاريخ الذى تمثله مظاهرات الطلبة على كوبرى عباس فى عهد الملك فاروق حيث تقول للشاعر عن ذلك فى ص84:

قالتْ لِي:

حينَ مضَى الثوَّارُ ناحيةَ سُكْنَاتِ العسكَرِ فِي “العباسيَّةِ”

كانَ الفتَى الغَضُّ، الذِي يكتُبُ الشعرَ أحيانًا

ويرسُمُ ديوكًا مجرَّدَةً بألوانٍ زاهيةٍ،

يشبُكُ أصابعَهُ فِي أصابِعِ فتاتِهِ التِي تبتسِمُ دائمًا

وانتهتْ لتوِّهَا مِن امتحاناتِ السنةِ النهائيَّةِ،

وكنتُ أسترجِعُ مظاهراتِ الطلابِ علَى “كوبرِي عبَّاسَ”

وتركز رفيقة الشاعر على مشهد الفتاة وهى تقف فى وجه الدبابة والفتى يهمس فى أذنها قائلًا “أحبك”، وتربط بين هذا المشهد وبين رؤيتها للشاعر وإحساسها به، حيث تقول فى ص85:

وحينَ أطلقَ مجنَّدُ الشرطةِ العسكريَّةِ قنبلةً دخانيَّةً

ووابلًا من الرصاصِ المطاطيِّ باتجاهِهَا

متقمِّصًا دورَ الشرطيِّ يومَ “جمعةِ الغضبِ”

كنتُ أعترفُ أنَّنِي رأيتُ النموذجَ المصريَّ البكرَ

حينَ شاهدْتُكَ واقفًا بجوارِ “محمد علي شمس الدين”

وأنَّكَ تصلُحُ لأداءِ دورِ “جمال عبد الناصر”

فِي درامَا حياتِي.

وهكذا ربطت رفيقة الشاعر بين الحاضر والماضي والخاص والعام، واستطاعت أن تعطي لحلمها ملامح محددة ووجودًا عينيًّا لـ”النموذج المصرى البكر” الذي رأته فى الشاعر الذي يصلح لآداء دور الزعيم عبد الناصر فى دراما حياتها.

 

2- تشكّلات حضور الجسد:

تتردد المفردات اللغوية الدالة على حضور الجسد ولوازمه بكثرة فى المعجم الشعرى لديوان “غرام افتراضي”، وتعكس كيفية ودلالات هذا الحضور الرؤيا الشعرية الخاصة للشاعر سمير درويش بخصوص جسد المرأة والجسد بوجه عام، فنجد أن الشاعر ورفيقته لا يسعيان للتخفف من الجسد باعتباره مضادًّا للروح، وكذلك لا يعيشان تجربة حسية خالصة يلعب فيها الجسد دور البطولة المطلقة، لكن تجربة الشاعر والمرأة فى “غرام افتراضي” تجربة روحية جسدية معًا، قائمة على التأمل والاستبطان للكشف عن أسرار الذات روحًا وجسدًا، والبحث عن جوهر العالم والحياة وتحديد موقف الذات من الوجود.

تمتلك رفيقة الشاعر تصوُّرًا خاصًّا بها عن نشأة جسدها وأصل تكوينه وتخبر الشاعر بذلك فى ص29:

قالتْ لِي:

جسدِي ضجيجُ ارتباكاتٍ سماويَّةٍ،

مغلقةٌ آبارُهُ،

ولا يبوحُ بأسرارِهِ لعابرٍ.

جسدِي مسجُونٌ فِي: صورٍ كاذبةٍ

وورودٍ، وابتساماتٍ، وحلْوَى، ومسافاتٍ،

وقصائدَ، وأطفالٍ نبتُوا فِي بطنِي،

وملابسَ صارمةٍ، وأكاذيبْ.

ترى رفيقة الشاعر فى تصورها الخاص أن جسدها سماوى النشأة والتكوين وبه أسرار لا يبوح بها للعابرين، وأنه مسجون فى تصورات وصور وأشكال مرئية كاذبة لا تشكِّل ولا تجسِّد حقيقة هذا الجسد الذي يمكن أن نسميه وفقًا لتصوُّر رفيقة الشاعر جسدًا روحانيًّا يمتزج فيه المعنوي بالروحي، ضجيج الارتباكات السماوية بالحسي المرئي، بآبار الأسرار المغلقة، ثم تربط رفيقة الشاعر بين تصوُّرها لحقيقة جسدها وبين مشاعرها المزدحمة وتشتتها بين المتناقضات، وهى تبحث عن كينونتها وتؤكد أن تلك الكينونة هي الشاعر نفسه حيث تقول له فى نفس الصفحة:

مزدحمةٌ بالأحاسيسِ أنَا

موزعةٌ بينَ متناقضاتٍ

وواقعةٌ في ثلوجِ الصمتِ بحثًا عمَّا أكونُهُ.

فلا تسألِ منهكةً عنْ كينُونتِهَا،

لا تسألْهَا عنكْ.

وفي حالة غيابها أو رغبتها في الغياب عنه تؤكد أن جسدها سيظل حاضرًا ملهمًا لرفيقها الشاعر، كما في ص32:

قالتْ لِي: سأغيبُ، لتربحَ شعرًا

فتِّشْ عنْ رائحةِ شَعْرِي في لغةٍ بكرٍ

عنْ طعمِ لُعَابِي

في الأبيضِ المنثورِ على سطحِ غيمةٍ

وعنْ كبرياءِ ثدييَّ في السيمفونيةِ التاسعةْ.

هي قررت أن تغيب ليربح رفيقها الشاعر شعرًا عندما يفتش ببصر وبصيرة شاعر عن ملامح وتفاصيل جسدها التى تسكن عالم الشاعر وتتماهى بأشيائه وظواهره المجرَّدة والمرئية ويصبح هذا العالم دالًّا عليها معبرًا عن وجودها الطاغى حتى فى حالة غيابها.

وكما أن الشاعر فى حاجة إلى جسدها ليلهمه الشعر، فإن جسدها هو الآخر فى حاجة للشاعر كى يكتشفه ويكمل الناقص، فيه كما في ص50:

قالتْ لِي: جيدُ المرأةِ ناقصٌ

يحتاجُ شفتيْ رجلٍ ترسمانِ الدوائرَ

والمتاهاتِ الشيطانيَّةْ.

ثديَا المرأةِ ناقصانِ

يحتاجانِ أنفَ رجلٍ يلتقطُ العُطرَ

ولسانًا يتلمَّسُ الفجواتِ

ويفصلُ بينَ الأبيضِ والورديِّ.

ولا يكتمل جسد المرأة من وجهة نظر رفيقة الشاعر إلَّا بعد أن يكتب الشاعر قصيدة، ويمتزج الحسي بالمعنوي حيث يقول الشاعر فى نفس الصفحة:

قالتْ: اكتُبْ قصيدَتَكَ

لأكتملْ.

 ولجسد المرأة وفقًا لرؤيا رفيقة الشاعر إيماءات ولغة سرية، وتقول للشاعر بخصوص ذلك في ص70:

قالتْ: الضوءُ الذي يقفزُ من عينيِ امرأَةٍ

لغةٌ سريَّةٌ يتقُنُهَا السائرُونَ علَى الماءِ،

وأحبابُ اللهِ،

وطلابُ البهجةِ.

فلا تصدِّقْ ما يقولُهُ لسانُ امرأةٍ،

إذَا كانتْ ذكيَّةً،

واصغِ لإيماءاتِ جسدِهَا!

للجسد لغة أخرى أصدق من كل ما يقوله لسان المرأة، لغة سرية رامزة متمثلة فى الضوء الذي يشع ويقفز من عيونها وإيماءات جسدها، أصحاب البصيرة المتصوفون والأولياء وأصحاب الكرامات الذين يسيرون على الماء وطلَّاب البهجة هؤلاء الذين عاشوا تجربة روحية وتوصلوا للكشف عن جوهر الذات والعالم هم القادرون على فكِّ اللغة السريَّة لجسد المرأة، وعلى الراغب فى فهم تلك اللغة أن يعيش فى تجربة المتصوفين وأصحاب الرؤيا.

 

3- تحوُّلات المرأة:

المرأة صاحبة الرؤيا رفيقة الشاعر فى رحلة الغرام الافتراضى لا تثبت على حالة روحية فكرية نفسية واحدة، بل تنتابها عدة تحولات وتتقمص أدوارًا متنوعة، تتحدد طبيعتها وفقًا لزاوية الرؤيا والموقف الروحى والفكرى والعوامل النفسية التى تؤثر فيها هي والشاعر في كل مقطع شعري/ قصيدة قصيرة، ويمكن الإشارة إلى أهم وأبرز التحوُّلات التى تنتاب رفيقة الشاعر فى ديوان “غرام افتراضي” على النحو التالي:

أحيانًا تؤدي دور المتصوفة صاحبة الكشف والعليمة بالسر الذى لم يدركه غيرها وتتحدث بالرمز والإشارة كما فى ص46:

قالتْ لِي:

كأنَّ اليمامَ ينقِّرُ سطحَ الغيمِ

ليستوِي مَلَكًا مرسلًا،

كأنَّهُ رسالةٌ لا يفضُّهَا إلا العاشقينْ،

كلُّ يمامةٍ كلمةٌ من اللهِ

وروحٌ منهُ.

قالتْ: كلُّ كلمةٍ أنثَى،

وكلُّ أنثَى كتابُ أساطيرْ.

وأحيانًا تؤدي دور العرَّافة التي تقرأ الطالع وتمتلك نبوءة تخصُّ الشاعر كما في ص13:

قالتْ لِي:

يأتِي من صُلْبِكَ رجالٌ ثلاثةٌ

أولهُمْ: ينحتُ داخلَهُ تمثالًا لكْ.

والثَّانِي: يشقُّ طريقًا بعيدًا عنكْ.

والثَّالثُ: يموتُ دونَ أنْ يَرَاكْ.

وقالتْ: كُنْ ديكتاتورًا عادلًا

ولا تنتظرِ الحبّ.

وأحيانًا تصبح رفيقة الشاعر فيلسوفة لها تصوراتها الذاتية عن ماهية الحياة والجمال، ودائمًا يجد الشاعر عندها إجابة لسؤاله الخاص عن الحب من وجهة نظره، وكيفية الوصول إليه حيث تقول للشاعر فى ص14:

هي الحياةُ لحظةٌ

والجمالُ لحظةٌ.

قلتُ: والحبُّ؟

قالتْ: لحظةُ خفقانِ الأوردةِ والنشوةِ

وبعدَهَا يتحوَّلُ صراعًا للبقاءِ على سطحِ الأرضْ

الحبُّ هو ما بينَ أنفاسِي.

قلتُ: كيفَ أدخلُ بين أنفاسِكِ إذنْ.

قالتْ: بالحُلمِ

نحقِّقُ

المستحيلْ.

وتتحوَّل تلك المرأة التى لعبت دور المتصوفة صاحبة الكشف والفيلسوفة الحكيمة والعرافة إلى دور مضاد لتلك الأدوار، فتظهر فى صورة المرأة المضطربة التي لا تمتلك تفسيرًا لما يحدث، وتخشى من الحاضر والمستقبل، ومن الأمثلة على ذلك فى ص15 حيث تقول:

أيُّ شمسٍ ووقتٍ ونجمٍ،

وأيُّ سماءٍ

تزجُّ بنَا في الغيابِ الحميمْ؟

ويفضي بها هذا الاضطراب إلى إحساس بأنها سجينة فى وحدتها، ولا يوجد من لدية القدرة على قراءة وتلبية احتياجاتها كما فى ص30:

قالتْ لِي:

لا تقلْ لسجينةٍ: “إنَّمَا أنَا رسولُ ربِّكِ

أعطانِي وردةً حمراءَ، وقصيدةً،

وقدرةً علَى قراءةِ حاجاتِ أنثَى

لا يقرأُ حاجاتِهَا أحدٌ،

وبالنسبة للتعبير عن مشاعرها تجاه رفيقها الشاعر فى رحلة الغرام الافتراضى فإنها تبدو أحيانًا مترددة كما فى ص12:

قالتْ:

الزمنُ لم يخطَّ حروفَنَا كما نَهْوَى،

فشمسٌ تغرُبُ، وأخرى ساطعةٌ

تقفُ في منتصفِ وجودِي، أنتَ

لا أبدأُ بكَ..

ولا أنتهِي عندَكَ!

ثم تتحوَّل فى بعض الأحيان من دور المترددة إلى دور المرأة العاشقة التى يؤجج الشوق مشاعرها وتنتابها رغبة عارمة للقاء الشاعر كما في58:

شفتايَ مغلقتانِ على طائرٍ ملوَّنٍ،

يقودُ ثورةً مضادَّةً،

لا تملُّ منَ استدعاءِ اندفاعاتِكَ

كيْ تقطفَ الورودَ التِي تنبتُ غريبةً،

علَى تضاريسِ جسدِي،

وتحرِّرَ الأغانِي.

وفي أحيان أخرى تتحوَّل رفيقة الشاعر من امرأة عاشقة تطارحه الغرام إلى رافضه لهذا الغرام، حيث تقول للشاعر ص22:

لستُ امرأةَ المتأنِّقِ في سهراتِ المودَّةِ.

لستُ امرأةَ الغائبِ خلفَ الرِّمالِ والوديانِ.

ولستُ امرأتَكْ!

وتلك التحوُّلات التى تنتاب رفيقة الشاعر على مستوى الرؤيا والمشاعر من موقف لآخر تظلُّ مسيطرة عليها، بدون حسم حتى نهاية الديوان التى جاءت فى صورة كشف توصلت إليه رفيقة الشاعر صاحبة الرؤيا، وصاغته فى صورة نصيحة، حيث طلبت من الشاعر أن يقف كشجرة ضاربة جذورها فى التربة، على مسافة متساوية من كل النساء لكى تظلَّ حروفه حرة، وتكمل حديثها للشاعر عن ذلك وتقول فى ص92:

حرَّةٌ حروفُكَ التِي تتوغَّلُ مَا شاءَتْ

كيْ تتركَ عسلًا علَى الشِّفاهِ

ربَّمَا تلتقطُهُ قطرةً، قطرةً

حينَ ينشرُ الليلُ كائناتَهُ الغامضةْ.

قالتْ: كلُّ قطرةٍ قصيدةٌ

وكلُّ قصيدةٍ حياةٌ

وكلُّ حياةٍ تقرِّبُكَ من النعيمِ فرسخًا

وتبعدُكَ عنِ الظَّمَأِ الكثيفِ

الذِي احتلَّ سنواتِكَ الخمسينَ

جميعَهَا!

جاءت النهاية هنا بعيدًا عن الحسم التقليدى لتجارب الغرام لتؤكد على أن الغرام الافتراضى المبنى على الرؤيا قرينة الحلم والكشف الصوفي له منطقه الخاص، فرفيقة الشاعر التى فتح لها باب الرؤيا لترى دواخل ذاته ويرى دواخل ذاتها، ويحاولان سويًّا أن يحددا موقفهما من الذات والوجود؛ توصلت في النهاية مع الشاعر إلى الكشف عن السر الذى يقرِّب الشاعر من النعيم ويبعده عن الظمأ الكثيف الذى عانى منه فى سنوات عمره الخمسين.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم