بعد وصول كتاب بيننا سمكة للقائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد قبل ما يزيد عن مائتي كتاب بالرغم من غرابته للفتية والفتيانـ يمكننا أن نقول: إنه طول النفس الذي تتميز به صاحبة التجربة الجادة في مزج الشعر بالفن التشكيلي، تقرأ الديوان وأنت لا تعرف هل تقدم الشاعرة الفن من خلال الشعر؟ أم الشعر من خلال الفن؟ أم أنها وجبة متكاملة لا يمكن فصل مكوناتها عن بعضهما البعض.
عندما أتحدث عن دمج الشعر بالفن فأنا أتحدث حتما عن عبير عبد العزيز التي راهنت ـ ولا زالت تراهن ـ على نجاح التجربة التي بدأتها في ديوانها الأول “عندما قابلت حجازي” للفتية والفتيات أيضا والذي قدمت فيه قصائد موازية لرسوم الفنان الراحل حجازي.
” بيننا سمكة ” بيننا خير وبحر وعطاء تكثر فيه التفاصيل، بيننا تحدي .. بل تحدي كبير، في أن أثير فضولك وعقلك وإحساسك، إنه التحدى الذي يواجه السفينة أمام العواصف والأمواج العالية.. كيف سيقنع الكتاب فتية وفتيات هذا العصر بالقراءة أولا ثم قراءة الشعر الخالي من الأحداث والأكشن؟ هذا هو التحدي
” السمكة ككل الكائنات تعرف الخطر
مثل المغامرة
لا تحيا بقانون واحد
لا تفوز إلا مع بعض الخطر”
تلك هي فلسفة أفلام الأكشن التي تجذب الفتية والفتيات. التنوع لعالم كبير يتكون من مفردات دقيقة: الأسماك.. التي تصبح مثل منمنمات صغيرة متشابهة يصنع منها لوحة كبيرة بل عدة لوحات مختلفة وغير متشابهة في داخلها مفردات وعوالم أخرى متعددة ( ترام البحر/ الحرية / الشمس والسماء/ القمروالنجوم/ مدينة الملاهي/ الافكار /الأصدقاء / ألعاب الأطفال/ الأحلام / المدرسة / الحيوانات / الضباط/الأقلام / الهدايا / الحلوى / الكمبيوتر/ عتبة بيت الجيران/ الموسيقى/ منديل الوداع/ الجوارب / النعناع/ درجات السلم/
يجمع الديوان بين هذه المرادفات في خيط واحد هو السمكة .. هذه السمكة الصغيرة تثير فضول الناشئة فيقبلون التحدي ويقدمون على قراءة الشعر مرة أخرى. ليست هذه السمكة الصغيرة هي المصدر الوحيد للتحدي ، فهناك رسوم أخرى تشارك القصائد نفس الطرح قام برسمها فنان قدير
وهي توازي في إبداعها قصائد الديوان بل هي نصوص موازية للنص في بعض القصائد مثل قصيدة ” قنطرة على حائط ” ومكملة للنص في وقت آخر مثل قصيدة “عتبة بيت الجيران” حيث تقدم في الأولى لوحات منفصلة عن نص القصيدة في رؤية موازية تحمل بعض مرادفات النص مثل القنطرة وصيد السمك يرسمها الفنان بخطوط سميكة وواضحة ليخرج لنا رسوما كاريكاتيرية تأخذ القاريء مباشرة إلى عمق النهر عمق القصيدة عمق الصورة. وتقدم في الثانية لوحات متصلة بالقصيدة شارحة لها عندما تقرأ :
“حفرت حفرة
نظفتها جيدا
ملاتها بالحصى الملون
غطيتها بالماء
وضعت بها سمكة”
يرسم الفنان رجلا يملأ حفرة بالماء. وعندما تقرأ :
” فالأسماك يا صديقي تغرس هي الأخرى” يرسم الفنان جذع شجرة يحمل فوقه سمكة بدلامن أغصان الشجرة.
بتوأمة تليق بمبدعين الفنان سمير عبد الغني وعبير عبد العزيز يتبادل الشعر والرسم الأدوار فتصبح الرسوم لوحات شاعرية بينما القصائد لوحات مرسومة .
إنه الحياة .. لوأردت أن أطلق على الديوان اسم بديل، فالأسماك هي البشر والقصائد هي قصص الحياة التي يتعرضون لها، وبهذه الفلسفة تتضمن القصائد كثيرا من الحكم والمعاني والتجارب التربوية التي لا غنى عنها لهؤلاء الفتية الذين لا زالوا مشدودين إلى عالم الطفولة بأعمارهم الحديثة، ولكن يأتي هذا ضمن سياق القصيدة، بعيدا عن الوصاية والنصح المباشر الذي يدفع بهم للعزوف عن القراءة، يساعدهم على ذلك رسوما تشبه عالم الكرتون. ولنتأمل كيف تتعرض القصائد لبعض القيم دون الوقوع في المباشرة والملل
“السمكة الحقيقية
هي التي تسكن في مكانها
عندما تمر سمكة عجوز”
( الاحترام)
” تحكي لصديقها عن سمكة شجاعة
تحولت لأسد كبير
لا يخاف الريح ولا السمك الكبير
لا يخاف القواقع الضخمة
ذات الحواف المسنونة
لذلك لا تحزن
عندما يناديك أحد قائلا لتكن رجلا”
( الشجاعة)
القصائد ليست من السهولة بحيث تصيب الناشئة بالملل فهي تواجه فتى وفتاة يتعاملون مع جميع معطيات التنولوجيا والديجتال بتحدى واقتدار لذا لن يقبل ما يأتي سهلا.. فتملأ القصائد بصور عديدة مليئة بالفلسفة والدهشة :
” الأسماك الحقيقية لا تحيا خارج الماء
فهل هي الأخرى سجينة؟
نحن البشر لا نحيا خارج الأرض
فهل نحن سجناء؟ “
الديوان يشبه ورشة عمل يتعاون فيها الرسام مع الشاعرة مع القاريء ، ومن خلالها يعمل الفتيان عقلهم ومشاعرهم وربما يثير شهيتهم للكتابة والتساؤل والتفكير، فينمي لديهم القدرة على رؤية الأشياء بمنظور جديد. فالقنطرة التي تعلو النهر ليست سوى صنارة كبيرة بسبب من يقف عليها لصيد السمك .. وتساعدهم رسوم الفنان المبدع سمير عبد الغني اكتشاف صور خفية من وراء الأسطر والكلمات.
في قصائد مهمومة بالتجديد، تأخذك الشاعرة في رحلة خادعة فتجذبك إلى شرك العادية وتتوقع شيئا تجرك الأبيات إليه مثل قصيدة عتبة بيت الجيران :
” الماء يسقيها كل يوم
يلف حولها أطفال الشارع “
سيقول القارئ إنها حتما شجرة لكنه يفاجئ بأنها حفرة تملأها بالماء وتربي فيها السمكة:
” لأن الأسماك يا صديقي
تغرس هي الأخرى”
قصائد تثير في داخل الفتى والفتاة فضولا كافيا لاستكمال قراءة القصيدة بما يتناسب وطبيعة هذا الجيل فتطرح أسئلة تمكنها من الاستحواذ على اهتمامه
” أكتب أمنية في ورقة
أثنيها عدة مرات
لأحكم غلقها
ألقيها فيه
بعد إلقاء ثلاث قواقع
لماذا ثلاث قواقع بالذات؟
وعندما تمنح الإجابه تنمنح معها رومانسية شاعرية مفقوده في حياته حين تمزجها بالخيال المحبب في مثل هذا السن:
“ربما هي طقوسي
ابتكرتها فقط
ليكون لي سر صغير مع البحر”
هي طقوس الكتابة والإبداع لدى عبير عبد العزيز.. دمج الشعر بالفن .. تذكروا هذا عما قريب ستقود هذه الشاعرة جيلا من الشعراء والقنانين في اتجاه جديد.