إبراهيم مشارة
بيروت الغادة التي تقوم من مضجعها فتغسل جدائل شعرها في مياه البحر الأبيض ،شهرزاد التي ما كفت منذ الآزال عن حكاياتها الليلية إلى غبش الفجر ،بيروت النشوة والغفوة التي يستسلم لها العاشق مخدرا بحلاوة الحلم وطلاوته ،ـ رائحة اليود المنتشرة في الجو ورائحة الياسمين مغفيا في عرائشه المتدلية على أسوار فيلاتها الفخمة في الضاحية الغربية ،رائحة النارجيلة المنبعثة في الأجواء والآتية من تلك المقاهي الفخمة التي تذكر بمقاهي الحي اللاتيني في سان جرمان وسان ميشيل وصوت فيروز،لكأن الله حين أراد أن يسمعنا صوت الملائكة خلق صوت فيروز.
حبيتك تنسيت النوم
ويا خوفي تنساني
حابسني برات النوم
وتاركني سهرانة
أنا حبيتك حبيتك
يلاحقك الصوت الملائكي حيث سرت في بيروت وأنت تنزلق باتجاه الجامعة الأمريكية (الكلية اليسوعية الإنجيلية سابقا)وتستقبلك الورود الحمراء فتهيج حواسك بنشوة الحب وبهجة الحياة –على ما في يوميات بيروت من تباريح- هاهنا قريبا عاش خليل حاوي شاعر “بيادر الجوع “و”الناي والريح” و”نهر الرماد” شاعر الوحدة والحلم المجهض والحب الميت كذلك الذي وأده الواقع بمنطقه مع القاصة ديزي الأمير فانزوى أسيرا في قصائد شعرية ونصوص نثرية في شكل رسائل متبادلة فزاد هذا من إحساس الشاعر بقبح العالم فتغنى بجماله كما تغنى بودلير بالزنجية التي خلدها في أزهار شره وقد حضر حاوي إلى العالم بوجهه الحقيقي في حين حضر الآخرون بأقنعة مزيفة كما وسم ذلك الواقع المنقبض الآخر كافكا فلم يجد حاوي غير المسدس يشدخ به رأسه نازفا دما ويأسا بعد أن نزف شعرا :
خلني للبحر ،للريح، لموت
ينشر الأكفان زرقا للغريق
مبحر ماتت بعينيه منارات الطريق
مات في عينيه ذاك الضوء مات
لا البطولات تنجيه ولا ذل الصلاه
يلاحقك صوت فيروز كسنديانة ضخمة تظللك من حر العالم وجحيمه ، كأرزة باذخة تحضنك، شامخة شموخ صنين في صباحياتها وأنت تتأبط ديوانا لأنسي الحاج أو شوقي أبي شقرا أو شوقي بزيغ أو قصائد محمد علي شمس الدين الراحل منذ زمن وجيز أو قصائد كتبت بالمطرقة تقع على رأسك للماغوط فتسويك بوحل الطريق البيروتي ، تشرف على بحر فيروز المتماهي مع البحر الماثل أمام عينيك المتراقصة مياهه على وقع صوتها فيندغم الصوت الخالد في الماء اللازوردي وتلك الأوانس كالمحارات في طراوتهن ونعومتهن وانسيابية حركاتهن على وقع موسيقى هادئة أو الممارسات لرياضتهن الصباحية، تختلس إليهن النظرات وتعانقهن بوجدك ،هل هن الصبايا اللائي غنت وتغنت بهن فيروز؟
على طول الرصيف المواجه للبحر باتجاه الروشة (صخرة الانتحار كما تسمى الآن) في إشارة إلى قبح الواقع ونشازه ولا جدواه وإفلاسه يطوقك صوت فيروز، تحف بك الكلمات، تتماهى عيناها وصوتها مع البحر فيصيران واحدا في العمق والجمال والإغراء والكنوز المخبأة . فكن سندبادا وأشرع شوقك وروح المغامرة فيك لتتيه في هذا المحيط الفني الذي لا تنقضي كنوزه.
من الروشة باتجاه حديقة بيروت كعود على بدء مرورا بشارع الحمراء سان جرمان بيروت حيث مكتبة أنطون الشبيهة بجيبر جوزيف في سان ميشيل هاهنا المقاهي التي يتناثر على كراسيها الصبايا والصبيان كحبات لؤلؤ خرزها الشوق وعلقها الحب في جيده، يدخنون، يوشوشون، يهمسون يتعانقون! تحضر فيروز بهيلمان شخصها وانسيابية صوتها أليست من غنت للحب ولبهجة الأنس ؟ يفرض صوتها نفسه على كل جيل وعلى كل بلد عربي من المحيط إلى الخليج .أليست من غنت للقدس؟ وتغنت بها ؟للحمام، للسلام ،للحق العربي؟ ألم يعانق صوتها المتحدي أسوار القدس وكنائس القدس ومساجد القدس، فالقدس عروس عروبتنا وبكر أمانينا، ومهوى قلوبنا ومكمن أحلامنا ومبعث أشجاننا ومربط أفراسنا ،قدس الإبراهيمية في نسخها الثلاث الموسوية والعيسوية والمحمدية .
البيت لنا والقدس لنا
البيت لنا والقدس لنا
وبأيدينا سنعيد بهاء القدس
بأيدينا للقدس سلام
بأيدينا للقدس سلام
هاهو صوت فيروز ينساب في الأرواح فيمازجها كما يمازج اللفظ المعنى والخمرة الماء، يلاطفها يناغيها ،يناجيها يشف أحيانا فيكون في صفاء البلور ويتطامن إلى العلى فتقصر عنه كل أصوات الدنيا حتى لتخالها تزحف زحفا وهو يمتطي شعاع النور فيسير بسرعته مشعا في أرجاء الدنيا ودياجيرها نور الفن وقدسية الإبداع وسماوية المنزع.
صوت فيروز ماء ومن الماء جعل كل شيء حي
وستغسل يا نهر الأردن وجهي بمياه قدسية
وستمحو يا نهر الأردن آثار القدم الهمجية
هاهي مقاهي شارع الحمراء الأدبية تتناثر على جادته مقاهي الرصيف الشهيرة (1960/1990) الهورس شو، ستار باكس، كافيه دو باري… وهي تشبه تماما فلور ولي دو ماجو وليب ، رحل الكثيرون من الرواد وراد تلك المقاهي توفيق يوسف عواد، صاحب طواحين بيروت، أنسي الحاج، محمد الماغوط، وبقي من الأحياء في المهاجر أدونيس ، غادة السمان فحتى في فلور لم يبق سارتر ولا كامو وفي مقاهي مونبرناس لا أثر لصموئيل بيكيت وفي ليب لا تجد هيمنجواي ولكن يداهمك بأريحية وكرم حاتمي صوت فيروز، يتسلل إلى خياشيم الروح مع نفاثة التبغ في تلك المقاهي ،أو رائحة النبيذ الذي استخلص من كرمة الشعر الحديث فكانت الدواوين الثائرة هي عناقيده جددت وجه الشعر العربي وأعادت إليه شبابه بعد أن غدا مستحاثة قديمة ،فأعادت تلك العناقيد الشعرية إليه الوسامة والشباب والتمرد والحرية وقد سجنه من قبل السجان في ست عشرة غرفة خليلية حارما خلاياه من النور والتجدد وعفونة الواقع وخشونته، هو شعر الحياة لا شعر الأوراق وشعر الإنسان لا شعر السلطات وشعر البوح لا شعر الرياء والتستر وشعر الجسد لا شعر الألفاظ الموات، شعر الألم والنشوة والاغتراب والاقتراب وشعر المتصل المنفصل والمنفصل المتصل، شعر النار والنور ألم يقل أبو شبكة ابن لبنان والمتسكع على أرصفة مقاهي بيروت ذات عمر غارب:
إجرح القلب واسق شعرك منه
فدم القلب خمرة الأقـــــــــلام
وإذا أنت لم تعذب ولـــــم
تغمس قلما في قرارة الآلام
فقوافيك زخرف وبريق
كعظام في مدفن من رخام
هذه بيروت الشدياق والبساتنة وآل اليازجي وآل معلوف وسهيل وسماح إدريس ومنى جبور ويوسف الخال وتوفيق يوسف عواد وقواميس اللغة ومتونها في دار الآداب والمطبعة الكاثوليكية وهاهي طواحينها الفكرية والأدبية تلف فتغمر عقل ووجدان القارئ وعاشق الحرف فتلقنه أصول الفن ومتون اللغة وقدسية الإبداع لا كما لفت في طواحين توفيق يوسف عواد لتنتهي إلى حرب طاحنة في السبعينيات وقد أنذرت الرواية بنارها. تلف الطواحين على وقع صوت فيروز ممثلة لبنان في العالم وأرزه وفكره وأدبه وشعره : يا بيروت يا ست الدنيا ،يا بيروت .
صوت فيروز الذي قال عن صوتها محمود أمين العالم حين أستمع إلى صوت فيروز أحب الحياة أكثر”” .
بيروت الحرية وبيروت الفن وبيروت الغناء وبيروت النشوة وبيروت الناي والغناء رغم كل شيء وقد تغنت فيروز بقصيدة جبران “المواكب”:
أعطني الناي وغن
فالغناء سر الخلود
وأنين النــــاي يبقى
بعد أن يفنى الوجود
وماذا كان ابن الرومي يقول لو أنه استمع إلى فيروز؟ وهو الشاعر المحب للحياة ولطيباتها ،الشره الذي لم ينس اللذات الجسدية وهو يصف الثمار فيدغم هذه في تلك:
أجنت لك الوجد أغصان وكثبان
فيهن نوعان تفاح ورمـــــــــان
وفوق ذينك أعناب مهدلــــــة
سود لهن من الظلماء ألــــوان
ابن الرومي المفتون بالغناء الذي خلد وحيد المغنية بقصيدة خالدة نكاد نرقص من إيقاعها وعذوبة كلماتها ونقلها الأمين لعبقرية المغنية وأصالتها الفنية وانسيابية أدائها وعفويته فتخشع الأسماع لصوتها الآتي من دياجير القرون وسراديب التاريخ:
ياخليلي تيمتني وحيد
ففؤادي بها معنى عميد
تتغنى كأنها لا تغني
من سكون الأوصال وهي تجيد
ماذا كان يقول هذا الشاعر الشره ،المخلص لروح الشعر النائي به عن التكسب والانتهازية ؟والذي أعاد العقاد اكتشاف عبقريته الشعرية في كتابه الكبير “ابن الرومي حياته من شعره” لو أنه استمع إلى صوت فيروز؟
فعلى الرغم من الخراب الذي يحيا فينا ونحيا فيه
وعلى الرغم من اللاجدوى، والموت والسأم الذي يطبع حياتنا
وهذه الغرابيب السود ،غرابيب الفشل الاقتصادي والسياسي والثقافي والاجتماعي
غرابيب الفتنة الطائفية والردة الفكرية والكساح العلمي
على الرغم من زحمة السير ،الهجرة الجماعية ، قوارب الموت
المشاكل الاجتماعية، الإحباط التضخم البطالة ، الحرمان …
يظل صوت فيروز:
البرعم الأخضر الذي يبرعم في أعماق أرواحنا فينشر أفنانه الخضراء في دواخلنا تتدلى منها عناقيد الانتشاء، التيهان، السرحان ،الرعشة الصغرى ،رعشة الروح حين تعرج إلى العلى فتنكشف على سر الوجود والخلق الفني تلك الموهبة التي أودعها الخالق في بعض خلقه ،فنرتد إلى طفولتنا البكر، إلى أحضان أمهاتنا، إلى قهوة الأم إلى وجه الأم ، إلى غفوة الحلم في أصالته وغضاضته ،إلى الحنين في زمن يكاد يغيب فيه حتى الحنين من بلادة الواقع وفولاذيته وقد تصنمنا بلا ماض بلا شوق بلا حنين بلا حبيب بلا مواعيد بلا لهفة بلا دهشة بلا شغف فصوتها يسكن ذواتنا الموحشة كمقبرة مهجورة فيحدو بأرواحنا إلى بلاد الأفراح وعلى صوت فيروز نلتقي.