بودا بار وثقافة المزج… هل تقدم د.لنا عبد الرحمن حلا حضاريا أم ترصد أزمة هوية؟

بودا بار
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

علي قطب

في رواية “بودا بار” لـ د.لنا عبد الرحمن يجد القارئ نفسه في إطار ثلاث دوائر ثقافية لكل منها هويته الحضارية ذات الجذور التاريخية والطابع المميز لبنية خاصة من المعرفة والخبرة والتفاهم لأننا نرى دائرة آسيوية ذات مرجعية مذهبية في كلمة بودا ومرجعية غربية في بار ثم اللغة العربية التي جمعت الروحية الشرقية والمادية الغربية في تعبير رمزي نحتي واحد، هذه المغامرة الثقافية التي أعلنت بها لنا عبد الرحمن عنوانها الروائي تستحضرها المؤلفة بشكل عام في استهلال خطابها حين تفتتح الرواية بقولها:

“هذه المدينة محكومة بعتمة مغوية تؤدي بكل من يحيا على أرضها إلى إدراك أنها مدينة “البقع” المتجاورة.” لنا عبد الرحمن: بودا بار، منشورات ضفاف – منشورات الاختلاف، طـ 2020، صـ7.   

من الواضح أن التوجه إلى المزج الثقافي نسق تعبيري وفكري وجمالي في آن واحد، ليس على مستوى العنوان أو الاستهلال فقط وإنما طوال المتوالية الدرامية الجامعة بحكايات لشخصيات مختلفة ومصائرها المتعددة ما بين القتل بيد مجهول حاضر في الخطاب أو الإصرار على أداء الدور الأخلاقي والمهني كما في حالة الطبيب يوسف أو الخطر المنذر بمسخ هوية المكان وتحويل “قهوة بيتنا” إلى مول تحتشد البضائع القادمة من السواحل المختلفة في حين أن شخصية “إيمان” تتشبث بمحلها الصغير كمستقر جمالي إشعاعي لثقافة المقاومة وفي الوقت نفسه يأتي محل الموسيقى الجديد “بودا بار” ليضع صورة مركبة جامعة للشرق والغرب تمنح الثقافة الآسيوية جمالا يزاحم النمط الغربي الذي فرض نفسه على المنطقة منذ نحو قرنين، فهل يمكن أن يحدث التناغم والاتساق والتعايش السلمي في هذا المزج الحضاري أم أن الهويات المتصارعة داخل هذا المزج تمثل قوى عالمية وأقليمية ومحلية مازالت تتصارع لامتلاك هوية بيروت المدينة الكونية بطابعها التاريخي والجغرافي وتقتل الرمز المانح للجمال والتعدد باللفظ الثري الذي أطلقته لنا على البطلة المغدورة جمانا وكأن قتل جمانا المطروح من أول الرواية والذي لا نعرف قاتله حتى مع اعترافه في آخر الرواية هو بناء درامي يدل على كيفية النيل من جمال تلك المدينة من زوايا وجهات نظر متعددة ما بين من يريد الاستيلاء عليها أو يغار منها أو يمسخ تاريخها بحاضر يفقدها الذاكرة.

في هذا التكوين الجمالي للرواية مزجت لنا عبد الرحمن بين أصوات مختلفة ولم تضع راويها في مكانة العارف ببواطن الأمور ولا ظاهرها فهو يتحدث مثل الشخصيات بل بعض الشخصيات تعرف أكثر منه وكلا منها لا يعرف ما بداخل الآخر بدرجة كافية باستثناء حالة الحب الرصينة الهادئة بين يوسف وإيمان التي لا يستطيع الجيل الجديد تكرارها فيبحث عن فرحه في الهجرة من خلال قصة حب جديدة بين يوسف الصغير وفرح الشريدة.

تدور الأحداث في رواية بودا بار مرتكزة على جريمة سرعان ما تتحول إلى حدث غير محوري لترصد الكاتبة بعد ذلك معاناة لبنان… تلك الأرض الشبيهة بمحطة حافلات للعالم كله فتلتقي بها المذاهب والاتجاهات المختلفة، كلا منهم يرغب في تحقيق هدف ما، حتى ولو كان هذا الهدف غير مادي، لكننا أمام صراع واضح في كل سطر من الرواية… صراع معلن يقاوم فيه الأبطال الموت، وصراع آخر غير ظاهر في مواجهة اليأس الذي هو الموت الحقيقي لكل إنسان.        

مقالات من نفس القسم