مما لا شك فيه أن من يقرأ الديوان يرى أن معاناة الذات الشاعرة، ورؤيتها لهذه الذات، ولما يقع لها، وما تتفاعل معه نفسا وروحا وجسدا، يلقي بظله على جل النصوص، بل إن العتبة الأولى في الديوان تنص على جمع الشاعرة بين الجسدي والروحي في اشتغالها الشعري. إن الديوان مهدى إليهما معا: “إلى روحي وجسدي”، ولعل تقديم الروح على الجسد في هذا الإهداء لم يكن عبثا، أو لم يكن صدفة، لأن الشاعرة، قصدت إن بوعي أو بغير وعي، الإفصاح عن تجربة معاناتها الروحية الوجدانية، حتى إن كان “حمل” تبعات الجسد، لا يجرح سوى الروح، ويدمي النفس في مجتمع لا يقيم اعتبارا لكليهما.
هكذا نرى أن تجربة الشاعرة بقدر ما تشي بتضييق أفق اشتغالها بتركيزها على الجسدي/المادي، إلا أن النص الشذري يكشف عن اتساع ذلك الأفق وامتداده إلى عوالم قصية من عوالم التجربة الإنسانية، وعوالم متنوعة في الكتابة الإبداعية. يطالعنا أول نص في الديوان بمنطوقه التالي:
“لا أمت لدمي
إلا بصلة الألم،
ومع هذا أواظب
على مشقة الانتماء” (حمالة الجسد، ص.7)
هل الألم جسدي أم روحي؟ وهل الانتماء العرقي والإنساني انتماء روحي/ثقافي/مجرد أو هو انتماء جسدي مادي ملموس؟
هذان سؤالان تثيرهما هذه الشذرة الشعرية، وتجعلنا نشك في فهمنا للأشياء. فهل الشذرة تبوح، هنا، بما تعانيه الذات المبدعة، أم أنها تستثير ذهن المتلقي ومشاعره ورؤاه ليسائل نفسه، وما يحيط به؟
تكمن قوة هذه الشذرة في تعدد الرؤى التي تحملها، وفي طرحها إشكالا إنسانيا وجوديا في صيغة شذرية تقريرية، وفي لغة نثرية جلية، لكنهما استطاعتا أن تثيرا لدى القارئ شغف السؤال وشغب النظر المتأني/الشاك في الآن ذاته إلى علاقته بجسده، وبروحه. وبذلك، فإن الشذرة، هنا، لا تبوح بتجربة الذات الشاعرة، فحسب، وإنما تصور معاناة ذوات أخرى أمام ثنائية الروحي/الجسدي. وبهذه الشاكلة تبوح الشذرة بما يتجاوز الانشغال بالجانب الجسدي من الإنسان إلى الغوص في الروحي، والفكري. ولعل إثارة الانتباه إلى معنى الألم في بعده الثنائي: الجسدي والروحي، وربطه بمفهوم الانتماء، يخرج الشذرة من دائرة التصوير المشهدي والتقرير النثري لتصير شاعرية التكوين، جامعة بين إثارة السؤال وبلاغة البوح.
وفي نفس السياق يندرج النص التالي الذي يتوسل إلى الحزن، وهو إحساس جواني، قد تكون له بواعث جسدية، ولكن مثيراته النفسية الباطنية أشمل وأكثر، تقول الشاعرة:
“أيها الحزن الكافر
لا تفتك بي
مثلما فعل فرح كذاب،
لا تتربص بي عند منعطفات الضعف
وتسلبني الضحكات الجديدة
وأنا متسللة إلى النسيان
وحيدة وخائفة” (ص.16)
هكذا تخاطب الشاعرة الحزن وتشخصه، كما تشخص الفرح الكاذب، راجية أن لا يسلبها ضحكاتها الجديدة، وهي تسعى إلى السلو والنسيان وحيدة خائفة. إن لغة البوح الشفيفة الآسية تطغى على النص، وتكشف عن روح ملتاعة خائفة، تخشى ضعفها وتوجل من ضياع روحها المرحة المنطلقة في زمن صار فرحه كذابا وحزنه كافرا قتالا. ألا يقول هذا النص الشديد التكثيف معاني شتى في إهاب تصريح شذري خاطف؟ بهذه الشاكلة يمضي هذا النص معبرا عن لواعج الذات وآهات الروح، وهو يتحدث عن علامات الحزن الجسدية، وشارات الفرح الظاهرة (الضحكات)، وبهذه الكيفية يكون الحديث عن الجسدي معبرا نحو الغوص في معاناة النفس ولوعة الروح.
وتقول الشاعرة في نص “بياض” الذي ينتقل بنا إلى أفق آخر من آفاق كينونة الإنسان، وهو الحلم:
“لم أحلم الليلة بشيء
دهمني صباح قاتم
فنفضت هواجس الرؤى
وطاردت البوم التي
أعدت سريرها
وغفت بجواري” (ص. 25)
لا تحكي الشاعرة عن مشاهد حلمها، ولا تصرح بأنها حلمت بشيء، لكن نفضها هواجس رؤاها التي علقت بها، وشعورها بقتامة الصباح، ومطاردتها للبوم التي غفت بجانبها، تكشف عن آثار ما رأته –في حلمها- وما خلفته في نفسها من إحساس كئيب وشعور متشائم بإقبال صباحها الجديد. عبر هذه الإشارات السريعة تبوح الشذرة بلوعة الروح، ومعاناة النفس، من مشهد، أو مشاهد خلفت إحساسا جوانيا فادحا بالكآبة والتشاؤم. وبهذه الكيفية تنتقل الشذرة من عناصر خارجية: الصباح القاتم، البوم، إلى غور الروح لتكشف عن اضطراب النفس وجراحات الروح، في سياق بلاغي قوامه البوح الموارب وراء إشارات دالة، على القارئ أن يقف عندها ليميط اللثام عن أبعادها. وعلى هذا المنوال تصنع الشذرة بلاغة بوحها في جل نصوص ديوان “حمالة الجسد”.
وفي نص آخر تكشف الشاعرة عن رؤيتها للروح والجسد معا، يقول محتوى الشذرة:
“الروح سكنى
والضلوع مخابئ،
فتحت الصدر
لأغير الهواء قليلا” (ص.33)
هكذا تكون الروح سكنى، ويكون الجسد مخابئ، وهكذا يُفتح الصدر ليتغير هواء السكنى (الروح)، والمخابئ (الضلوع)، وتتجدد الحياة في البيت (الروح) برمته. بهذه الكيفية تصور هذه الشذرة رغبة الروح في التغيير وتطلعها إلى تنفس هواء جديد، هواء غير آسن. وبهذه الإشارات التصويرية الدالة تبوح الشذرة برؤية الشاعرة إلى ذاتها وإلى واقعها، وبهذه البلاغة الشذرية اللماحة تتمكن المبدعة من التعبير عن معاناتها، وهي معاناة إنسانية شاملة، لكن الكتابة الشذرية تجعل منها حالة شبه فردية، لكن المتأمل فيها يجد أنها تبوح بمعاناة الناس وإحساسهم بوطأة معاناة الروح، ووقر ما يصيب الجسد معا. وبهذه الكيفية تختزن الشذرة نوعا من الحكمة التي هي عنصر من عناصر بلاغة الشذرة الخفية والمعلنة.
والمتأمل في نص “حمالة الجسد”، الذي حمل الديوان اسمه، يجد أنه نص لوعة الروح ومكابداتها بامتياز: مكابدة روح عطشى إلى الحرية، والعدل، والحق، والحب.. وغيرها من القيم العليا، والمعاني السامية. وهل الجسد إلا وعاء الروح، وبوابتها نحو فهم العالم والتفاعل معه؟ وهل الجسد سوى معبر نحو الشعور بقيمة المعاني والقيم السابق ذكرها؟
تقول الشاعرة في نص “حمالة الجسد”:
“حمالة جسد أنا،
أرعاه وأحرسه
ولا أملك ناصية روحه.
حراس على روحي،
وجسدي خارج الروح
رهينة.
حراس على جسدي،
وروحي داخل الجسد
سجينة.” (ص.47)
هكذا يتم تأكيد معاناة الروح داخل الجسد السجين الذي وضعوا عليه حراسا يمنعونه من الحرية، ومن ثم لم يتبق للذات الشاعرة/ الإنسان سوى جسد تتم رعايته، والعناية به، بينما لا تُمتلك الروح الآسية السجينة، لأن الجسد لا سلطة له عليها، وهي الأسيرة حقا وفعلا، أما الجسد فتابع للروح. والمعاناة الإنسانية ودراميتها تكمن في أسر الروح وإعاقة انطلاقتها، والجسد عنوان هذه الروح وبوابتها، ومن ثم فهو سجين، أو أُخذ كرهينة، ولا يمكن تحريره، إلا بتحرر الروح وانعتاقها.
هكذا كان المدار في نص “حمالة الجسد” الطويل الذي يتشكل من عدد من المقاطع الشذرية المكثفة، كما لمسنا في الشذرات الثلاث التي استشهدنا بها، حول لوعة الروح ومعاناتها، وسقوطها أسيرة أوضاع وأعراف جعلت منها، ومن الجسد عنصرين معاقين غير قادرين على الفعل. وبهذه الشاكلة صنعت نصوص النص- في تواشجها- عالمها المتخيل الخاص بها لتصرح بلوعة الذات الشاعرة ومعاناتها، وبهذه الطريقة كانت الكتابة الشذرية وسيلة بوح، ودعوة إلى التأمل العميق في علاقة الروح بالجسد، وعلاقتهما بالوجود، وبالوضع الإنساني في واقعه المعاصر.
وينبع الشعور بلوعة الروح ومكابداتها أمام الانغماس في تجربة الحياة وتبعاتها، ومن هنا نجد الشاعرة قد عنيت بتفاصيل هذه المعاناة وتجلياتها، مركزة على أثرها الروحي والجسدي. وفي هذا الحيز سنقف عند نصوص تجلي هذا البعد بوضوح، تقول الشاعرة في مقطع من نص “لحن يجرح الكمان”:
“أبوان طيبان هما ما ينقص طفلا
بعينين خائفتين وقلب حذر،
يدان تشدان الأزر
ليستقيم ظهر الحياة الأحدب.
ولأن ظهر الحياة لا يستقيم أبدا
فإننا نفاضل بين العاهات”. (ص.59)
يقف النص عند معطى حياتي وواقع إنساني يتمثل في الإحساس الفادح باليتم، إنه شعور روحي ممض بثقل الفقدان ولوعته. وما يحتاجه الطفل الحذر الخائف، الذي يسير في طريق الحياة المحدودب، هو طيبوبة أبوين يعملان على تخفيف وطأة الإحساس باعوجاج الحياة، وعاهاتها، أو يسعفانه على اختيار أيسر العاهات لتحقيق شرط وجوده واستمراره. هكذا تقف هذه الشذرة عند واقع الإنسان، وهي تنطلق من لحظة مخصوصة، لتصور مأساة الإنسان الوجودية، وقد وقفت عند نموذج اليتيم وإحساساته الروحية، ومعاناته الحياتية. وبهذه الكيفية تتجاوز الشذرة بعد التصوير المشهدي لتصير طاقة بلاغية قوامها البوح والإفصاح عن مكنون الذات، وهي تتماهى مع تجربة الطفل/ اليتيم. والملاحظ أن الجسدي والروحي يمتزجان في وسائل التصوير ليمسكا باللحظة، وينقلا إحساس الذات المبدعة، وشعور اليتيم. إن الصبي لا يحتاج إلا إلى يدي أبوين طيبين يربتان عليه، ويساعدانه على المضي في درب الحياة، حتى يتخلص من شكه وحذره، ومن خشيته وقلقه. وبهذه الشاكلة يجمع النص بين عناصر فنية متعددة ليتمكن من ترجمة رؤية الشاعرة ونظرتها إلى الحياة، والواقع، والذات الفردية والغيرية. وقد كانت الشذرة وسيلتها إلى إبلاغ رؤياها الشعرية الشفيفة.
انطلاقا من كل ما سبق نتبين أن أهم سمات البوح الشذري في ديوان “حمالة الجسد” التعبير عن لوعة الروح ومعاناتها من وقر الجسد وتبعاته الاجتماعية والوجودية، وثقل متطلبات الروح وتداعياتها. وقد تعددت أشكال اشتغال الشاعرة بموضوعة الروح والجسد، لتشكل منها عوالمها الشعرية الشذرية الدالة. وقد تمكنت من تنويع أفق الشذرة، واهتمامها بالبوح الذاتي في بلاغة إشارية مكثفة. وبذلك كان مشرب هذا الاشتغال ومداره يختلف عما وجدناه لدى كتاب الشذرة السابقين الذين اشتغلنا بنصوصهم في هذا الكتاب. وبهذا وجب الإعلام.