بليغ.. كل الأشياء تعمل معًا للحب
دعونا نحب.. دعونا نغرز السكاكين في صدورنا مرارا وتكرارا
...
الرواية عن الحب. ببساطة ودون أي اتهام بالاختزال. كل الأشياء تعمل فقط للحب. لا أدري هل استخدم الروائي كل مكونات العالم لصناعة وجبة من الحب، أم أن الحب لفرط صدقه ومأساويته قد صهر كل شيء آخر في الحكاية.
لكن الحكاية عن الحب. الناس تسافر وراء الحب، أو هربا من الحب، يدخلون المستشفيات بسبب الحب، يضبطهم القانون وهم يلقون بأنفسهم عراة من الشرفات أو يخبطون على أبواب موصدة بسبب الحب، الأغنيات تتحول إلى رسائل عاطفية، الجنس يتحول إلى محاولات تعسة للإمساك بلحظة من الأمان بأننا سنظل معا وأحيانا مجرد إبداء للامتنان لأننا معا. حتى الموسيقى، اللغة التي حاول بها الإنسان أن يستخدم الزمن في صنع وسيلة تمكنه من الهروب من أسره، على طريقة "داوني بالتي كانت هي الداء". الموسيقى أصبحت لغة العاشقين السرية، طريقتهم في التخاطر وحبرهم السري الذي يتبادلون به المعرفة، وسط عالم أصم.
...
لا تمنحني قلبك، بل علمني كيف أصطاده كلما فر مني
...
القصة واحدة تقريبا، العاشق يمنح نفسه كباقة ورد لمجرد أنها فتحت شرفة الغواية. لا تهم الأسماء، يعبد الناس آلهة بأسماء كثيرة لكنهم جميعا يصلون، وجميعا لهم شهداء. لا يهم إن كانت وردة أو مارييل موران أو إيما دوران. لكن شيئا ما قد استوقفني في جنسياتهم، العاشقون الثلاثة أحدهم مغربي والآخران مصريان، والمعشوقات إحداهن جزائرية والأخريان فرنسيتان. لا أدري كيف يمكن أن يؤثر ذلك في مسار الحكاية، وبأي قدر.
انظر: مصري-فرنسية، مصري-جزائرية، مغربي-فرنسية. دائما شرق وغرب، نركض خلف كرة أرضية نظن أن لها نهاية، هل نحن أبناء هذه الضفة المحكوم عليهم بالزحف على بطونهم خلف سراب يلتمع على الضفة الأخرى، هل نمت مشاعرنا وقصرت أطرافنا أكثر مما يجب، هل الحب هو موردنا الذي حاول الغرب احتلالنا من أجله، أم وباؤنا الذي أغلق الغرب أبوابه في وجوهنا خوفا من تسلله إليه. دائما شرق وغرب، دائما يسعى الشرقي حاملا ظله إلى حيث تشرق الشمس على الضفة الأخرى. لا يتغير ذلك بميل ميزان الثقافة إلى الشرق، أو الموهبة، أو الشهرة. دائما يمتلك الغرب تلك القدرة على كسر القلوب ببساطة، بما فيها قلبه هو. الجزائر بلد الصحراء والجبال، وفرنسا تسمح للمعشوقات بأن يستدعين الشرطة لإبعاد الحب، فأين نذهب نحن بقلوبنا التي تدفق كالنيل بلا توقف.
نمد الخط على استقامته، شرق وغرب، نحب بقلوبنا فيستمتعون بنا، نورق كالورد على نوافذهم فيسدلون ستائرهم تاركين إيانا للعدم. يحب الغرب بطريقته، مثلما يؤلف الموسيقى بطريقته. تقول الرواية:
"إن الموسيقى الشرقية في جوهرها نقيض تام للموسيقى الغربية، حيث البناء الهارموني هو الأصل والأساس. حيث الزمن، أو العمل، قيمة أصيلة لها كل قدسية واحترام، بينما على العكس في الموسيقى الشرقية، سواء تلاوة أو طرب أو حتى مزيكا رقص، فالقاعدة هي الجلوس خارج الزمن، تجاهله، الاستعلاء عليه ونسيانه. نحن المؤمنون بالغيب، كيف لنا أن نحترم أو أن نهتم بالحياة الدنيا، بالعمل أو بالزمن. إن سماع الموسيقى، أو الطرب -متضمنا تلاوة القرآن بطبيعة الحال- يتحول هنا لطقس أشبه بشرب الحشيش."
هكذا إذن، تركنا لكم الواقع فاستعملتم قلوبنا طعما لاصطيادنا، تركنا لكم الزمن فجعلتمونا نغمة في نوتة هائلة، هربنا منكم إلى سراديب الوهم لنجدكم في كل الأوهام. ما الذي أتى بكم إلى هنا، لماذا لا تخترعون شيئا أو تقيمون بناية، لماذا تخطف فرنسية قلبي كبولة آيس كريم من يد بائع السخي، ألا تدري أن هذا البائع لم يكن يملك سوى ما أعطى.
هكذا تبدو الرواية جرحا مفتوحا بين ضفتين، جرحا حاول الكثيرون مداواته أو مداراته، ليظهروا بدون عقد هنا وبدون اغتراب هناك. لكنه يطل من داخلنا كمشهد، يحيط بنا إحاطة البحر بالسفينة، هل يمكن للسفينة أن تهرب من البحر.
...
ومثل العلاقات المرتجلة التي لا تفلح لحظاتها السعيدة في إخفاء مراراتها، ومثل الفنانين الحقيقيين الذين لا تفلح موهبتهم في علاج علوقيتهم، ومثل الثوار الذين لا تفلح شجاعتهم في تقليل تعاسة أخطائهم، كذلك تقع الرواية في الأخطاء. فنلمح بها بعضا من المط، وبعضا من التكرار غير المبرر، وبعضا من ادعاء العمق، وبعضا من القصدية الزائدة، التي أثنيت عليها في "سرور"، لكنها هنا تتحول إلى ما يشبه "الطبخة الأدبية"، يمكنني أن أتوقع في أثناء القراءة من سيحكي، وماذا سيحكي، وكيف سيقتل نفسه، بل وكم صفحة ستكون رواية طلال القادمة. هل مللت؟ لا يمكنني ادعاء ذلك. كنت أسير كالمنوم خلف العاشقين وهم يكررون حكاية يعرفون نهايتها، وكنت أعرف أنني إذا توقفت للحظة سأجد نفسي جالسا إلى جوار الشيوخ البكائين، ننعي فقد النعمة والطرد من الجنة. هل عدم الملل يعد نجاحا كاملا للحكاية؟ لا أعرف. لكنني بالتأكيد لا أرغب أن يكرر الكاتب نفسه، حتى إن احتفظ بي بواسطة سحر ما.
...
في النهاية سيمكنني فهم الكثير إذا علمت لماذا يبدأ طلال فصوله بالأمر "اعلم"، ولماذا ينهيها بالأمر "تدبر". ربما يعني أن العلم لا يقينا من التجربة. ربما يقول لنا "اقرؤوا لطلال، واستمعوا إلى بليغ، وابحثوا عن سليمان العطار، أو لا تفعلوا، فالنتيجة واحدة، ومن لا يقرأ الدراما يقرأه الناس كدراما. وألقوا بأنفسكم في الحب، أو تجنبوه، فالنتيجة واحدة، وأينما تكونوا تدرككم التجربة".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شاعر وقاص مصري