بقايا من رماد

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 22
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

البشير الأزمي

” انتبه لقلبك يا أوريليانو، فأنت تتعفن وأنت حي”

من رواية” مائة سنة من العزلة”

لغابرييل غارسيا ماركيز

 

إن سوء الحظ لا يُخطِئ..

كنتُ آمل أن تبقى الذكريات حيةً في نفسي لكن الأيام طوت كل شيء. أذبل الزمنُ آمالي وأصبحتْ أحلامي بقايا من رماد. انطفأ البريق الذي كان في نظراتي. كظمتُ غيظي وألمي، احتذيت حذائي الجلدي وخرجتُ أتسكع بين شوارع وأزقة المدينة، سرت في طريق موحل رخو.. أتردد في مشيتي، أسير، أتوقف، ألتفت خلفي وأعاود السير كما لو أن حصاةً عالقةٌ في حذائي.. لم يكن يمر، لحظتئذ، غير سكارى، وقطط تجوس خرائب الحي..

أبحثُ عن قطعة سقطت من قلبي.. أتنشق رائحةَ فراغ تنخره.. تعثرت الكلمات في حلقي وسيطرت عليَّ رغبة جامحة في البكاء.. تنامى في داخلي بكاء صامت.. بكيتُ..

عدتُ إلى البيت، تمددتُ فوق المرتبة.. نمتُ..

 في منامي رأيتُ امرأةً تفيض أنوثة وجمالاً، بعينين تسيلان إغراءً، كلما حضرت ملأتِ المكانَ غنجاً بدلالها، وأنا أُمنّي نفسي بأن أجني أنوثتها، وهي تتمنع. كنت مستعداً لمقايضة حياتي مقابلَ قطف تفاحة الجنة.  لكن أملي تلاشى وسروري انطفأ عندما سمعتُ ما يشبه الهمس. فتحت عيني، أبي قاعد في مكانه لا يريم، يرمقني بنظرات جانبية..

قررت أن أعود إلى النوم وأرفع السقف المحدد للحلم. خشيت أن تفضحني فكرتي ويسخر أبي مني. استيقظت عاطفتي، من جديد، نحو صاحبة التفاحتين وكانت قد غابت لفترة، ظهرت من جديد بشكل أقوى مما كانت عليه من قبل..

أغمضتُ عينيَّ في محاولة لملاحقة طيف المرأة البضة، تمنعت عليَّ.. أخفقتُ في استحضارها. منيت نفسي بأمل كاذب، قلت، أكيد، ستحضر عندما يترك أبي الغرفة.. أغمضتُ عينَيَّ محاولاَ أن أقطف من حلمي نُتَفَ لحظاتٍ جذلة.. في حضورها تصبح الجلسة فواحة بالعشق وهي تنثر أحاديثها، أنتشي وتغيب عني سحابةُ الملل الذي كان يمور داخلي ويجثم على قلبي يعتصره. أحلم أن تحضر وهي تحمل مظلة حُبٍّ تظللني بها وتدرأ عني لهيب شمس العشق والنوى.. أصبح الحلم بالمرأة البضة صوراً باهتة تتلاشى..

فتحت عيني، أبي مازال قاعداً أمامي يلف سيجارة. رفع يده بتذمر.. حاصرتني نظراته.. شعرت بالاختناق. سادتْ لحظةُ سكونٍ بيننا، غرقنا في دوائرها. اقتربتُ من النافذة، أطللتُ، صاحبةُ التفاحتين تَمُرُّ، تعبر الشارع، منثنية البطن، متهدلة النهدين، مرتخية الردفين، تمسك طفلين من يديهما، وتحمل ثالثاً على ظهرها لم يتبق لها من قوة الشباب إلا لسانٌ ينضنض كأفعى تلذع وهي تصرخ في وجه الطفلين اللَّذَيْن تأخرا عن اللحاق بها..

قعدتُ في المنور، في عتمة الفجر أحدق في السماء، لا النجوم تضيء لي ولا القمر يبتسم لي.. وحدي في وهدة ظلمة حالكة. الطيورُ تحلق على منخفض..  تبخرت صورة المرأة البضة من ذاكرتي.. أضحت بقايا نثار.

عدت إلى غرفتي، أطللتُ من النافذة، رأيت المرأة البضة، من جديد، تقترب من المنزل، صرختُ، كتمت صوتي، راجياً ألا تفعل. لم يثمر رجائي.. نفضتُ بَصْوَ الطيور عن ثيابي. اقتربتِ المرأةُ البضة أكثر، طرقت باب المنزل، فتح أبي الباب، تقدمت منه، وقالت:” خذ أحفادك..”.

من يومها، تاه أبي في شعاب الحياة القاسية.. وأنا كلما أغمضتُ عينيَّ أسمع صوتها يهمس لي:

” كأغنية مرحة هي ابتسامتك

تشق المدى..

أنكسر أمام فتنتك

أمُوجُ برغبةٍ…

مفاصلُ كلماتك

عشقٌ اعتراني

وأغرقُ في عينيك

الحسيرتين..”.

النجوم باهتة ولونُ السماء رمادي غامق، لم يعد النومُ يغازل أجفاني.. اليوم غابت الطيورُ التي اعتادتِ التحليق في مثل هذا الوقت، تحسستُ رأسي.. نفضتُ بَصْوَ الطيور. تأكدتُ، بالفعل،  أن سوء الحظ لا يُخطِئ.

 

 

مقالات من نفس القسم