بقايا العابر

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

نسمة طارق

صغيرة بجديلة شعر جميلة تضاهي جسدها طولًا، وحيدة دائمًا، تخشى الغرباء كما يخشونها، تتشبث بجلباب أمها المشغولة بتقديم القهوة، والماء للجميع، حتى لفت انتباهها تمييزها لامرأة غريبة بشاي ثقيل .. سكر كثير، سُحرت الصغيرة بتلك المرأة التي استطاعت كلماتها أن تذيب قلب جدتها حد البكاء، فجلست مرددة خلفها ما تقول، مقلدة صوتها الباكي رغم أن عينيها لا يسكنهما دمع، انتهت أيام الحداد سريعًا، فاختفت المرأة، وعادت الصغيرة وحيدة .
كانت تقضي أيامها بين جدران مدرسةٍ قبيحة، ومنزلٍ كئيب يخشى الضحك، لا أخوة، فقط أبناء عمومة لا يحبونها.
                                        


ذات يوم أطلقت المدرسة سراح التلاميذ مبكرًا استعدادًا لأحد الأعياد، قابلت في طريق العودة عجوزًا يحمل كتبًا قديمة للبيع  ـ كما كان يهمس ـ أعطته ساندوتش البيض الذي لا تطيق تناوله، فأخذه مبتسمًا، وأعطاها  كتابًا صغيرًا بغلافٍ مبتور هو كل ما في جعبته، قرأت عنوانه بتلعثم “مطرب الأخبار” ، مثّل الكتاب، والورقة المطوية بداخله الونس الذي تحتاجه، لم تكن تفعل شيئًا سوى رسم رموز الورقة على جدران غرفتها، و قراءة كتاب الكاريكاتير المضحك الذي يحكي قصة شخص يحاول أن يصبح مطرب شهير رغم صوته السيء، بدأت تتسائل كيف يعلم المرء أن صوته جميل؟؟ هي لاتحفظ أي أغنية، فقط  تستمع أحيانًا لكلماتٍ يصحبها عزف من مذياع المقهى البعيد، أو أثناء إقامة الأفراح المجاورة، فالغناء محرم في منزلهم مذ توقف قلب عمتها الصغيرة فجأة ليلة عُرسها قبل ولادتها بيومين ،لذا حرمت جدتها الغناء، ومشاهدة التلفزيون حدادًا دائمًا علي أبنتها الوحيدة، ثم أعطتها اسمها الذي لن تحبه أبدًا، وهنا توصلت لإجابة.
استيقظت قبل الجميع لتجري الاختبار، جلست أرضًا جوارغرفة والديها، غنت نشيدًا أحبته، يوم التقت بالمرأة ذات الصوت الشجي، أعادت أنشودتها بضع مرات، أطالت بعض الكلمات تارة، متصنعة البكاء في مواضع بعينها تارة أخرى، حتى تستيقظ أمها، وتشيد بصوت فتاتها العذب، لكنها خرجت من الغرفة تصرخ بفزع، لتجتمع العائلة الكبيرة مرة ثانية، كادت الأم أن تفقد عقلها حين قصت كيف أيقظها زوجها قائلًا “القبر بيانديني” ثم أسلم روحه، بينما هز صوت العديد الغرفة لحظة احتضاره الخاطفة، لم يصدقنها، لكنهن أظهرن الاقتناع لربما تهدأ، بينما الصغيرة لم تنبس بكلمة إلا عندما جاءت المرأة، فتهلل وجهها، ورددت خلفها بحماس، لكن أحدًا لم يُشد بصوتها!
مرت ست سنوات بعد ذلك اليوم، لم تفكر خلالهم في الغناء ليقينها بأن صوتها سيء كبطل كتابها الأول الذي لم يفارقها أبدًا، ثم انتقلت إلى المرحلة الإعدادية، فارتدت بشكل روتيني حجاب أبيض صغير بدبوس عريض اسفل الذقن، ليختفي الشيء المبهر الوحيد بها، وأصبحت فتاة لا تمتلك أدنى حظ من الجمال، ملامح غليظة لرجل بالغ مركبة على قامة قصيرة لجسد ينمو به ثدي واحد، بينما الآخر ضامر في مكان لا تعلمه.
ــ اسمك ؟
ــ سِلباية
تضحك المعلمة، فتتبرع إحدى التلميذات بالنطق الصحيح (شِلباية) يرتفع صوتهن “عينى عليها.. بين غواسلها، شلباية البحر.. والصياد قابلها ” يضحكن، فتكرههن.
 ثم اصطحبتهن المعلمة لغرفة الموسيقى الجديدة، دخلت الفتاة خلف زميلاتها تلك الغرفة لأول مرة يوم الاثنين الأول من أكتوبر لعام 1990 ، حيث جدران دُهنت حديثًا بالأخضر، تتوسطها كراسي كثيرة رُتبت في صفين على شكل نصف دائري، ويمثل الأستاذ محتضنًا عوده مركز دائرة لن تكتمل، سألهن باسمًا عن اسمائهن، حتى جاء دورها، فأبعدت عينيها عنه أخيرًا ناظرة للأرض دون إجابة، ثار غضب الأستاذ لضحك التلميذات المبالغ، قائلًا أنه يحب هذا الاسم كثيرًا، وأن الشلباية هي “سمكة نيلية رشيقة فضية اللون”، أكسبها كلامه شيئًا من ثقة لم تعرفها يومًا بنفسها .. في الأسابيع التالية حاول أن يعلمهن العزف على العود، لكنهن فضلن حصص الإقتصاد المنزلي عن الموسيقي ، إلّاها .
 ذات اثنين، بعد أن خرجن من الغرفة، عادت راكضة تدعي أنها نسيت نقودها، فقط لتخبره قصة الكتاب، متسائلة كيف تعرف أن لها صوت حلو .. أجابها بود ” فلتجربين إذًا يا شوشو ” .
انتفضت من جمال اسمها الذي تُنادى به لأول مرة ، أنشدت كلماتها القديمة ، قاطعها فزعًا ” يا ساتر يارب ”  خرجت تركض كما دخلت غير مكترثة بنداءه، أثناء الحصة التالية سمعت حركة غير عادية، بمجرد أن فتحت المعلمة الباب دوى نبأ وفاة مدرس الموسيقى فجأة.
ربطت خيوط ذاكرتها معًا، فابتسمت!
جلست مساءًا جوار غرفة جدتها، تلت أنشودتها بصوت هادئ، ثم ذهبت للنوم بأمل في رحيل تلك العجوز، في الصباح ذهبت لغرفتها، لتجدها صلبة كما هي بملاحها الدميمة التي ورثتها عنها للأسف ، وقفت أمامها، اعادت ما تلته في الليل بصوت مسموع، حتى صرخت في وجهها “اخرجي يا بومة ” ، دقائق مرت حتى جاءت صرخة البشارة، اجتمعت العائلة، لكن المرأة لم تأتِ، ربما منعها عمها الذي عاد مؤخرًا من السعودية بشرائط كاسيت لدعاه سلفيين يحرمون العَديد لأنه يحرق المتوفي في قبره، فشربت شاي ثقيل .. سكر كثير، وجلست تندب جدتها وحدها.
أصبحت تلك الكلمات قنينة سم تلقي بعض منها في أذن كل من يضايقها فترتاح منه راحة أبدية، تطير الجميع منها، المتبقي من زميلاتها أصبحن يرتعدن منها ولا تجرؤ واحدة منهن أن تضحك إن نطقت حرف الشين كالسين،  لن يستطعن محو يوم الزلزال الشهير من ذاكرتهن حين سقط جدار غرفة الموسيقى على فريقًا كان يسخر منها بعديد الشِلباية، حتى أمها فيما بعد حينما حاولت إجبارها على الزواج من عجوز ضرير .. قائلة بوضوح ” من يرضى بكِ  سواه ؟ ” .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــ ألم تتألم لموت أمها؟
ــ أتألمت أمها لإنجاب دميمة ؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

اليوم ستبلغ الأربعين، تفتت العائلة الكبيرة أمام الموت.. حتى أن آخرها لم يُدفن إلا في اليوم الرابع لوفاته حينما تصاعدت رائحته، كان شابًا حقيرًا للغاية ، تصور أنه كان قد سجل رقم هاتفها باسم ” البومة ” !
على كل حال لم يعد أحد يضايقها سوى طبيب وسيم يسكن في العمارة المقابلة لعملها، تراه من بعيد مبتسمًا، لكن بمجرد أن تلتقي عينيهما صدفة تتبخر إبتسامته.
وإلى الآن لا جديد في القصة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــ أنتظري . ماذا ستفعل مع الطبيب ؟
ـــ “القبر قال له.. يا مرحبا يازين .. انت صغير.. وأنا ضلامى شين
القبر قال له .. يا مرحبا يا حر .. أنت صغير .. و أنا ضلامي مر ” .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 قاصّة مصريّة          

مقالات من نفس القسم