بطن الكف

بطن الكف
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 

قررنا في لحظة سير عادية أن نمارس هذه التمارين كلما وقع أمامنا شيء يمكن أن يُكتب، وكنتُ أرى أن كل شيء يصلح للكتابة، إذا أحسنّا الاستماع للذات. ربما أن اتفاقنا لم يكن حقيقياً بما يكفي ليُنفذ، أنا أيضاً كنت أظن ذلك، لكني دون وجود أسباب حقيقية تخليّت عن هذا الظن الآن.

المرأة التي تهرول خلف وليدها مفزوعة من جموحه في الجري المفاجيء بين السيارات المسرعة وعلى كتفها وليد آخر، لم تزل تسكن ذاكرتي ونحن نسير معاً على الطرف الآمن من الرصيف، نتحدث أنا وأنت عن أشياء ليس لها علاقة مباشرة بالهرولة ولا الصغار، نقول أشياءاً عظيمة عن الكتابة، ندّعي أن الله مارسها أكثر من مرة في كتبه المُقدسة، وأنه منذ فعل هذا صار فعل الكتابة مُقدس، ولم يعد يمس كل الناس.

قرأت بالأمس قصيدة لآرثر رامبو اسمها “الماكرة” شعرت أنه متغنج جداً وهو يتحدث عن هذه القُبلة المسروقة التي أرادت الفتاة أن تخطفها من خده، يعجبنا الجزء الأنثوي في الرجل، ونقول أنه ليس غرائبياً كما يظن الناس، الذين لم تمسهم الكتابة. الموت أيضاً نراه تجربة طازجة، تصلح للحياة وللكتابة معاً أتدري لمَ. لأنه بعيد عنّا ولأن الذين مارسوه كلهم استغنوا عن وجودهم معنا، امتلئوا به وما عاد يعنيهم الرجوع كي يقصّوه لنا، نحن لن نخون الآخرين مثلهم، سنعود ونقول كل شيء عنه سنقتل الموت بالكتابة كما نقتل كل شيء.

أنا لم أحدثك عن هوية قتلاي، أُداري عيني في الأرض غير المستوية كي أتلافى بصيرتك، نعم كان لي حبيب كلما كتبته ارتحت، وكلما ارتحت عاد، كان يقاصصني بحضوره في الأوقات التي أظن فيها أن غاب كل شيء، أنا لا أعرف لماذا يخيب ظني دائماً، أنت تتحدث عن محبتك للعب التي قتلتها بالكتابة، يسطع بياض أسنانك وفمك يوارب ويمد شفتيّه الورديتين وأنت تحكي عن تعلقك المرضي بلهو الطفولة حتى سن الشباب، حياتنا كلها لعبة وأخشى القول إن سيرنا الآن معاً وهبوب الهواء الذي يحمل أنفاس الآخرين، بلا مبرر مُترباً، نوعاً آخر من اللعب، وأن الكتابة لعب، صدقني هذه التمارين أصلاً لعب، نحن لم نتخلْ عن شيء في طفولتنا سوى إمكانية أن يحملنا الآخرون فوق أكتافهم بلا عناء ولا حرج.

 والموت.. الموت مثلاً يشبه الهبوط من هذا الرصيف العالي الذي يؤلم رُكبتي والسير بأريحية أعظم على الرمال والحصى المُتكسرة، ونحن نهبط أنا أصدرت آهة تلقائية وأنت تموجت خصلات شعرك، وأجفلت عيناك لثانية. نتكلم عن محبتنا للشعر المنفلت بلا قوافي ولا أوزان هذا الذي ينسكب باستثنائية في وجه مَنْ يداعب قارورته. نقول إنك تكتبه بسِن قلم أسود رفيع وبخط مائل يشبه الذي يكتبه الفرنسيون، وأنا أكتبه بسن قلم فارغ ومنتهي كي لا يراه أحد، أعجبني مجازك لكني لست خجولة لهذه الدرجة، أنا أمسكت عن قول إني كثيراً ما كتبت وحذفت كتاباتي، لأنها تبدو دائماً سريعة العطب قصيرة العمر، لا يمكنها أن تسير بمحاذاتي حتى نهاية الرصيف، مع ذلك أنا منتشية لأن الذي نجى منها جعلنا أصدقاء. نصمت وننظر إلى الأفق، إلى هذه الغمامات الثقيلة والضباب المتكاثف؛ نفكر في أشياء مُقبضة لم أعد أذكرها، أنا أذكر فقط أني شعرت بالامتنان تجاه الله لأني لم أكن وحيدة تحت سقف سمائه في هذه اللحظة بالذات.

سنتكلم عن مرضي الأخير لأن الأجواء تناسب ذلك، تقول إني كنت شجاعة جداً كي أنتظر الموت على باب المشفى كما لو أنه زائر متوقع، هذا التُفلت منه أفلته.. ربما، أنا كنت قاربت على بلوغ الجنون مرات وبدا الموت مُخلصّاً، تُعيدك السيرة للتعاريف وأنت ولوع بها فتسألني عن معنى الجنون أتذكر المرأة التي تهرول خلف وليدها تحاول إنقاذه من حضور موت محتمل وأغمض عيني وأنفعل، لماذا يخلق الله لنا الطرق والسيارات لماذا تبدو الارتطامات دائماً جاهزة للإيذاء أو كي تتسبب في الجنون لنا، الموت حلو لكن ليس على المُقربين، هذا الرجل الذي يمر من جانبي ويحك كتفه بكتفي استباحة لأنه يراني أسير معك وهو وحيد، سيحزن كثيراً لو ارتطمت سيارة مسرعة بعزيز لديه.

الطريق الذي لا نعبأ به يقودنا إلى جمع والتفاف حول شيء لا نراه، هذا الغموض يشدنا، يشد الكتابة فينا فنقترب، نتسرب بين ثنايا الجمع ونندهش لأنه يتركنا نمر، كما لو أن ذلك يساعده، كما لو أن ذلك يُلهيه. حين نصل لنقطة النظر نرى سيارة عادية يقولون أنه ثمة عبوة ناسفة تنام أسفلها. نبتسم بغتة ونقول لبعض أن “هذا الموت هنا”، هل كُنا نحييه أم أن الجنون الذي زارني في المشفى كان يلعب بعقولنا إلى هذه الدرجة، أظن أننا لم نعبأ أبداً بالحشود، هكذا سنحثّ الخطى أكثر نحو السيارة العادية الصامتة، على الأقل لم تكن هناك احتمالات ارتطام بأي وليد جامح، ولا حتى بنا. وهذه تجربة الموت تضع جبهتها في رأس جبهتنا، لا تنسَ نحن تعاهدنا أن نعود حين نخبر الموت كاملاً كي نكتبه.

لماذا علينا أن نقتل الموت. لأننا نتصور أن انتصارنا على الأشياء كلها يكمن في مقتلها، نحن لسنا بهذه الهشاشة كي نخاف من حياة الأشياء. نعم.. لكن اسمعْ أنا في طفولتي كنت أنام بنصف جفن لأن الجنون كان يتمثل لي في حياة كل الأشياء من حولي، كان عالمي بدون حدود آمنة، وكان هذا يرعبني. لو انفجرت الآن العبوة الناسفة سنذوق لذة التشيؤ، ارتواء التشظي، يمكن أن تذوب أشلاؤي في أشلائك وسيكون هذا موضوعاً جديراً للكتابة، سنكتبه كي تكتمل نصوننا دون أن تعجب هذه الكتابة أحد. نريد أن نتفرج على هيئة العبوة الناسفة قبل أن تقتلنا، هذا الوصف سيساعدنا في رواية الأمر بأقصى شعرية ممكنة، أصدر آهة أخرى وأنا أهبط برأسي حيث العجلات التي لن تكون هناك بعد الآن.

أنت ملابسك تنثني مع تحركاتك السريعة الاهثة، وخصلات شعرك تتموج أكثر، أنا لم أقل أني أشتهي أنا أضع قبلة على وجهك المتغنج أشتهيت أن أراك تبتعد وتُبعدني، أحب أن أرى هذا الجزء الأنثوي منك. بالأخير يصيح الجمع بنا أن نهرب هم بشكل ما يتفحصوننا يبحثون في جموحنا عن شيء لا أفهمه، هذا الشيء في أعينهم هم وسيسيرون خلفه كل العمر، دون أن يقبضوا عليه. إنهم يتحدثون لأنهم لا يريدون أن يحملوا ذنب ميتتنا، لكنهم يحبون أن يرونا نتشظى يحبون أن يراقبوا الموت من بعيد وهم على الرصيف الآمن. ونحن.. نحن لن نكتفي بقتل الموت حين نكتبه، نحن سنفوّت عليه فرصة أن يرتطم بوليد آخر ويحرق قلب أمه المفزوعة.

متى استدرنا وتركنا النص ينسكب من غير كتابة تُميت الموت. “سنتأخر على الموعد” تصيح وأنت تلهث بشكل متصاعد وتهتز خصلات شعرك وأنا أشعر بالوجل وتندلع في روحي أشياء تشبه تلك التي كانت تُقبضني ونحن نفارق الرصيف. أتضامن مع هروبك وأقرر ألا نتأخر أكثر على الموعد، نتراجع بصعوبة بين الجمع الثائر علينا؛ نحن فوّتنا عليه تجربة مشاهدة الموت من الرصيف الآمن، هكذا سيحاولون سد الثغرات المُهيأة لذهابنا، لكننا رغم ذلك سنذهب. سرنا على الرصيف ذاته عائدين، نتحدث حول الجزء الأنثوي في رامبو عن قصيدته الماكرة، عن هذه القبلة المسروقة.

أنا لم أقل إني كنت أحب كل شيء في رامبو، كنت أحب حتى مثليّته، ماذا لو أني حبيبة له، كان سيضنيني هجرانه الدائم لي، لكني على الأقل لن أكتبه حتى أرتاح، وهكذا لن يُخيب ظني ويعود. أنا تذكرت فجأة أغنية لإيديت بياف عن العاشقين جون ومارتين والخطابات المتبادلة بينهما، كان صوت إيديت يوشك على البكاء كلما كانت تقترب القصة من نهايتها، وكنت أخاف لأني ربما أنا أيضاً بكيت؛ يبدو أني أخاف كثيراً من النهايات..  نحن لم ننفلت من الموت لنُفلته نحن استدرنا ومنحناه ظهورنا؛ ليس بوسعنا قتله ولا قتل هذه الحياة، لو متنا نحن كنّا سنخون الآخرين وسنستغني عن وجودنا معهم، لن نعود لكتابة أي شيء. في المشفى كنت أتمنى أن يأتي الموت وأنا نائمة فلا أراه ولا يراني، كانت مجهوليته تصحّي خوفي الطفولي من حياة الأشياء حولي دون أن يكون لي حدود آمنة، الموت ليس شعرّيا جداً كما نظن، ولا حتى الحياة.. وها أنا الآن أمشي معك بسلام والعبوة البعيدة عنّا جداً لم تزل نائمة دون أن تنسف أحداً. مع ذلك سأضع كل ذلك جانباً وأتركك تُحدثني عن المرأة التي تهرول خلف وليدها الجامح وسط السيارات المسرعة وعلى كتفها وليد آخر، سأتركك تتحدث عن ألعاب طفولتك وكتابتك للشعر بخط مائل كالفرنسيين وعن تمارين الكتابة التي سنمارسها مع بعض ونبوح فيها بكل شيء سأترك عينّي تتأمل خدك العذب وخصلات شعرك الناعمة وهي تطير فوق رأسك المجنون.. في المسير سأسلم يدي تماماً ليدك وأرتعش مرات متتالية ثم أعود ببطن كفك أنت.

 

مقالات من نفس القسم