بطن الحوت

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد حسن الصيفي

حضرت في الموعد المناسب، الواحدة ظهرًا، كان موعد عمل في المعادي قابلت المدير لأمرٍ طارئٍ، لم يستغرق اللقاء دقائق معدودة، لم يكن لي هدف بعدها، لم أضرب أي موعد مع صديقٍ لي رغم أني نادر النزول إلى القاهرة بحكم العمل وبِعد المسافة، وفي الواقع أني جبان، أُحب الونس والصُحبة، أُحب أن يقتادني أحدهم لأي مكان ويأخذنا الحديث دون هدف ودون سبب، أحب أن أتوه في الدنيا الواسعة، لقد حدث ذلك أكثر من مرة....كان شعورًا طيبًا أن يشاركني أحدهم التوهة اللذيذة.

دون أي طلب أو ضرورة مُلحة تركت المعادي الكلاسيكية وركبت المترو متجهًا إلى صخب وسط المدينة، محطة جمال عبد الناصر، أعطيت ظهري للجالسين عند محل العصير الشهير قاصدًا الخندق.

والخندق هذا أوله عند محطة المترو وينتهي بك في طلعت حرب، والخندق هذا نابض بالحياة، والباعة والبشر، تشعر أن أحدهم أخذ عينات دقيقة من مصر ووضعها في تلك المساحة الضيقة.

الخندق يتسع ويضيق ويختنق ويعود فيتنفس، خليط عجيب وحياة عنيفة يدور رحاها بين طيات هذا الخندق.

محلات الطعام وفرق الكوماندوز من الباعة الجالسين بالفرش على الأرض، السيدات والفتيات الأنيقات اللاتي يقفن لالتقاط كل شئ، ملابس، عطور، مساحيق التجميل، جوارب…كل شئ تقريبًا يستوقفهن.

في المنتصف يضيق الخندق حينها لا وقت للوقوف أو الحملقة في فتاة جميلة أو النظر على كتاب يعلوه التراب على فرشة لأحد الباعة، عليك أن تسير بشكلٍ مهيب ومنضبط وكإنك في سرادق للعزاء أو في كتيبة عسكرية.

يضيق الخندق فجأة فإذا برجلٍ أربعيني بلحية كثيفة شديدة السواد يهتف “لا إله إلا أنت سُبحانك إني كُنت من الظالمين” يتوقف المسير لحظات يصبح فيه الملتحي بطلاً للمشهد، ترمقه فتاة بشعرٍ غجري ينتمي لنفس فصيلة اللحية يقترب الكادر ولا يفصل بينهم سوى سنتيمترات قليلة مع تدفق الأدرينالين…..يحمل الوجهان تكشيرتان تزيدان الخندق ظلمة مع حلول المساء، يمر شاب في المنتصف كان يراقب من بعيد: خلاص يا شيخ توكل على الله، يندفع من بينهم بسرعة، تسبه الفتاة: يا حيوان.

يتقابل الشاب وجهًا لوجه مع سيدة تضع الهاتف داخل الطرحة تصفعه على وجهه، يحل الصمت، يختفي الشاب، تسود بعدها ضحكات المارة وتعود الحركة للسيولة والتدفق ويختفي الملتحي وصاحبة الشعر الغجري وصاحبة الصفعة، ويحل مكانهم ملتحٍ آخر وفتاة أُخرى……

لا يزال صوت الرجل الخشن يرن في أُذُني: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين….، تضع فتاة بعض العطور على يدي أثناء المرور أمام محل متوهج من شدة الإضاءة أريد أن أبتسم لها فيضربني الكسل، فتيات دون الثامنة عشر يتوارين تحت المساحيق المفرطة يضحكن ضحكات متقطعة، يرمقهن شاب بنظرة وله، “أنت لي” كان اسم الرواية التي وقعت عيني عليها في تلك اللحظة …

يعود صوت الرجل المزعج في أذُني، ما الذي دفعه على الهتاف على هذا النحو؟

أتذكر قصة يونس وبطن الحوت، لكن الخندق غير الحوت، الحوت كان مظلم بينما الخندق به حيوات متعددة أشعر إنني في بلد سياحي لا ينقصه سوى سينما ومسرح تقام عليه تلك الاسكتشات البديعة.

والباعة الكوماندوز الذين يحتبسون ليل نهار في تلك المساحة الضيقة، يقتاتون ويقتتلون أحيانًا على طلب الرزق، شئ عجيب….أسمع الجملة تتردد في أذني بصوت مصطفى محمود الذي يجلس له على الأرض كتاب “حوار مع صديقي الملحد” ….

لو كان حيا لجاء لتصوير حلقة من العلم والإيمان هنا، في خذا الخندق العجيب، عن الرزق الواسع في تلك المساحة الضيقة.

البحث عن الذات والتجربة والاستفراد بالزبون وإخراج ما في جيبه بمهارة فائقة واستخراج الجنيه من “بوك” موظفة الحكومة التي تضع الهاتف داخل الطرحة وتضع أحمر الشفاه الثقيل وتلوك باللبانة لا يقل بطولة عن تلك التي يعود بها المنتخب من أحراش أفريقيا.

تصعد وتهبط وتشتم روائح وتشاهد أسراب وترى حبات العرق على الجباه والأفكار والابتسامات والانفعالات تشعر أنك في عالم آخر، أو أنك عدت لتوك طفلا صغيرًا داخل قصة عقلة الإصبع تكتفي بالمشاهدة والحضور….!

وصلت لنهاية الخندق ووجدتني أردد : لا إله إلا أنت سبحانك….لكن بصوت منخفض ووجدتني أضحك ضحكة بلهاء لم أفهم لها معنى وأنا أمام تمثال طلعت حرب !

 

 

مقالات من نفس القسم