بريد السماء الافتراضي: حوار مع الشاعر السوري نزار قباني

نزار قباني
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

كتابة وحوار: أسعد الجبوري

ليس من أثر للرفاهية عليه في مكان إقامته. رجل يملؤه الصمت، ويكاد حزنه يرفرف فوق رأسه من خلال المصابيح الحمراء التي كانت تطوف في أعالي ذلك المكان الشبيه بمكتب عقاري. وعلى الرغم من الوجوم الذي يغلف الرجل، إلا أنه كان يحاول الخروج من تلك الشرنقة، القُبل والغناء، وكأنها من آخر مبتكرات عالم التكنولوجيا البارع في الخلق وفي المخلوقات.

لم نُخبر بأن الشاعر نزار قباني 1923 – 1998 كان في شبه إقامة جبرية أول الأمر، لكننا عرفنا ذلك من خلال السياق الذي تم فيه الحوار، كما غمزت بذلك شيخة المحظيات من دماه الرقيقات البيضاوات المائلات بعض الشيء إلى السمنة.

فالشاعر يقيم بين أقوام نسائية من الدمى ليس إلا، وحوله بعض الأتباع من مخلوقات لم نرَ لها شبيهاً على الأرض. أغلبهم بوجوه حزينة، ويحملون رماحاً كأنهم ذاهبون إلى حرب وشيكة.

تلبستنا الحيرة من ذلك الوضع قليلاً، إلا أن الشاعر نزار قباني سرعان ما خرق جدار الصمت قائلاً: “ها أنت مثل عاصفة تطارد أيلاً في أعالي الجبال!”

كأنك تقدمت بالعمر مليون عام في هذه الدار الجديدة.. ما الأمر؟

  • لا أشك بأنك صائب فيما ذهبت إليه. فالابتعاد عن الشام يصيب المرء بخريف مبكر. ونزار قباني ما زال يعتبر نفسه أكبر شجرة ياسمين معمّرة من تلك الأرض. هكذا أظن نفسي على الدوام، وأحتفل لذةً بذلك المعنى.

ولكن دمشق، كما تشهد الآن، تعيش ربيعاً لا يبدو عليك شيء منه!!

  • لم أكتب قصيدة دون أن تكون الشام محفورة بكل فصولها: ورداً ونساءً وطيراً وسيوفاً وعطراً ودانتيلّا وخيلاً وخوفاً ونبيذاً وتفاحاً. دمشق ليست امرأة وحسب، بل هي القاموس الشهواني لكل العاشقين من فرسان اللغة والحلم والسرير. لذلك يهاجمها البرابرة بسيوفهم ولحاهم الشبيهة بالأسلاك الشائكة من أجل قطف رأسها الأموي العالي. إني لأشم من هنا رائحة أطنان الديناميت والسي فور والقواذف المرعبة، حتى إن الله رأى دمعي نهراً، وأنا أتدهور فيه غرقاً، من الغوطة حتى المزة ومروراً بكل دالية عنب. ربيع دمشق لحية شائكة وضباع تهيم بالأفئدة والحطام.

هل يعتقد الشاعر نزار قباني بأن للخوف ربيعاً هو الآخر؟

  • الخوف في العالم العربي فيروس كالسعال والرشح، بل ويكاد أن يكون العمود الفقري لكل مواطن من سكان مقاطعات الجاهلية والديكتاتورية. أتذكر أنني عشت بين طبقات كل البربريات هناك، ومع ذلك صرخت وكتبت وتدرّبت على مختلف تمارين الموت والإرهاب. ونجوت دون أن أقوم بعقد صفقة مع نظام أو مع تاجر سلاح أو مع عابر سبيل في الطريق الإيديولوجي. كنت حزباً للذات العظيمة التي تخترع الشعر، وتنام في حضنه مع كواكب من اللحوم والياقوت والنار الحاملة لبذور الثورات.

ألم تكن مشغولاً بالنساء فقط كما يقال؟

  • الانشغال بالنساء لا يعطل الثورة في داخل الإنسان، بل يعجّل بها. وخلوّ الثورة من النساء يعني خلوها من الوقود.

أهذا يقين أم تنبؤ؟

  • هذا يقين قاطع على امتداد تاريخي الشخصي، وإلا لما ناضلت مع النساء منذ ((قالت لي السمراء))، مثلما أفعل الآن في هذه البلاد.

ولكن لا نساء هنا كما نرى سوى الدمى. كيف يعيش نزار دون تلك المخلوقات؟!!

  • أنا في إجازة الآن. وثمة من يحاول قتل فيروسات الأنوثة في أعماقي، لأستبدلها بعبادة إناث الطير، والسقوط في تخت الدجاج البلدي.

هل هذا كل ما يمكن أن تجيبنا عليه، أم وراء الإجازة ما يدعو للقلق؟

  • إذا أردت أن تفتح باباً في رأسي بحثاً عن الحقائق، فسأفتح عليك باب الجحيم. لذلك سأختصر القول بأنني أمر بمرحلة صعبة من العزل، وممنوع من النساء. هنا أهدوني قطعاناً من الدمى الجميلة، لأتسلى بأحاديثها وأقضي بها على حالات الترمل العام في هذا المكان. لكن هذا لا يمنع من التلصص على اللحوم البضة من وراء تلك الأسيجة.

لكن هذا الحظر قد لا يكون حاداً ومؤثراً عليك، كونك شاعر مارس العمل الدبلوماسي قديماً، ويقدر على التنقل ما بين المناطق والقارات بسهولة. كذلك فأنت حقوقي وتقدر على مقاومة الأحكام من خلال المرور في ثغراتها لو ذهنياً!

  • عندما كتبت ((هوامش على دفتر النكسة)) كنت حاضراً في مهرجان الموت العربي على السرير الإسرائيلي، بينما وأنا أنظر من هنا الآن، فلا أرى غير سيوف لبدو من سلالات التتار، وهي تهجم لقطع رؤوس ألجوري ودحرجتها تحت أقدام الوكيل الحصري للجنرال غور ولجندرمة الغرب الجدد. الكثير من العرب الآن، ليسوا قبائل كما كنا نظن في الماضي، بل هم بكتيريا متجددة.

أنت كتبت ضدهم الشعر السياسي: “متى يعلنون وفاة العرب؟” و”أم كلثوم على قائمة التطبيع”، ولكن لم يرتدع أحد منهم. هل تعتقد بأن الصوت الشعري يضيع في البراري وينسى؟

  • لقد أدمى العرب قلبي حتى أسقطوه تفاحة من دم خام. لا تذكرني بأحد منهم. فهم سيصلون إلى هنا، وسيُصلّون بنار من نفط خاص يليق بهم.

كيف تمضي أوقاتك في هذا الفضاء اللازوردي؟

  • عادة ما أقوم بتجميع الحطب من النساء، لاستخلاص بعض العطور، وكذلك فأنا أقوم بتنسيق كوابيس الشعراء الضالين، بهدف صناعة المزيد من الأغاني الخاصة بالقضاء على الوحشة.

كالأغاني التي لحنها كاظم الساهر من شعرك مثلاً؟

  • لا. إنه نوع خاص من العمل، غير ما قام به كاظم الساهر الذي يكاد لا يبقي شيئاً مني، بعد أن قارب على تلحين حتى أغلفة كتبي!!

لو كتبت قصيدة النثر، ربما لم يتجرأ أحد، ويقوم بتلحين أي نص إلا بصعوبة، لأن تلحين قصائد النثر مغامرة.

  • لا تذكرني بقصيدة النثر، لئلا أسقط في موت آخر. ولا أجد من يحيي لي رميم العظام.

إلى هذا الحد تذعّرك قصيدة النثر؟

  • قصيدة النثر قصيدة بلا شاعر، كما أحس. وهي أرض دون تراب. قطيع ماعز دون راعٍ. هكذا كنت أراها على تلك الأرض الخراب، مثلما هي بالنسبة لي الآن: طائرات يقودها أبالسة دون وعي مقنّن، أو دون خوف من ارتطام بجدار أو بشيء قاتل.

ولم يحصل طارئ على معتقداتك بشأنها حتى فيما بعد الموت؟

  • الموت يا صديقي ليس غير فعل مجاز بيولوجي، يمكن للشاعر الرومانتيكي تجاوزه إلى حاضنة مثالية من حياة تعتمد على وقود شعري يحرر الجسد من التعفن. فيما قصيدة النثر خزائن خيال مستفحل الطاقات، وعصيّ على كل رتابة.
    ربما يسقط الشاعر العمودي ميتاً، ولا يعثر على باب واحد من تلك الأبواب المؤدية إلى تلك الخزائن السحرية. شعراء قصيدة النثر كما أرى: (كاميكازيون) وعابرون للقارات، وأنا أضيق من كل هؤلاء الذين يحاولون النوم في أسرة سواهم. أنا تعلمت النوم والقيلولة في البيوت أو الأبيات القائمة على عمد. فالأعمدة تجلب لي الطمأنينة، وتُجعل النعاس حريراً تحت أجفاني.

هل أنت في هذه الدرجة من الانحسار الآن؟

  • الشاعر العظيم في هذه البلاد الثانية، الثالثة، السابعة… قاصة بنك، الجميع يريد التمتع بمدخراتها، والجميع يحاول السطو عليها، بما في ذلك الملائكة.

والشياطين.. كيف ينظرون إلى الشاعر؟ هل يرون فيه شقيقاً أم صندوق بنك؟

  • لا ينظر الشيطانيون إلى الشعراء إلا كشركاء عمل في كل التجارب التي يخوضونها أرضاً وسماء على حد سواء. لأننا كشعراء جزء من اللعبة الإلهية. وكذلك فثمة اعتقاد بأن الشيطان والشاعر هما الثنائي الذي يتناوب على فرض السيطرة على العالم، دون اقتباس لأثر ما، أو التوكل على مرجعيات حكم سبقت التاريخ الأرضي أو السماوي للشعر ذاته، باعتباره المصدر الرباني الذي نبعت منه الكتب فيما بعد.

ونزار قباني أين هو من كل ما يجري؟

  • أنا ما زلت حائراً في ((طفولة نهد)) حتى الآن. ذلك لأنه كان التفجير الأول الذي أعقبته التفجيرات الأخرى.

تفجيرات الموت المتتالية التي حفرت في سيرة نزار: انتحار الشقيقة، ومقتل الزوجة بلقيس، ووفاة الابن “الأمير الخرافي توفيق” قباني. كيف اختصرتها في حياتك الأولى؟

  • منذ طفولتي كنت أحس بأن الموت صديقي الأقرب إليّ من جميع أفراد العائلة. كان الموت بالنسبة لي مثل دالية عنب تتسلق فمي. وكم كنت ثملاً بما كانت تمنحني من طاقة، عادة ما كان يسرقها مني الشعر ليتغذى بها هو واللغة، فينمو ويكبر ويشب شاباً مراهقاً، تطارده البنات، ولو من أجل قبلة صالحة لإشعال النار في قرى القلب الضآلة. الموت لم يختصرني في نقطة واحدة من الحياة لأتألم بسببها، بل كان مرادفاً أو ظلاً لكل قصيدة كتبتها، حتى لو كانت بخصوص مومس.

■ هل كان سجلُّ الشاعر نزار قباني حافلًا بانتصارات لصالح بيولوجية الجسد جنسيًا؟

  • لا يصدق أحدٌ بأنني حققتُ ذات يوم انتصارًا في الجنس. كنتُ فقط أقتحم السرير اللغوي، وألعب بأثداء الكلمات. كل ذلك حدث من أجل أن تنتقل حرارة تلك المشاهد إلى النساء، فيسقطنَ قرابينَ للشهوة التي تفرزها القصائد في لحومهن وفساتينهن وعطرهن وآهاتهن.
    كنت لاعبًا ماهرًا في تجنيس اللغة، ووضعها تحت تصرّف المشاعر الثملة المستعجلة لممارسة الحب بشكل لا بأس به. بعبارة أدق، أنا أول من ألبست القصيدة بنطال الجينز، وكسرتُ لها القمقم لتنطلق هائمة على وجهها في الشوارع.

■ أنت تُمسرحُ شهوة الشعر، فتمزجها بقدراتٍ ربما تنقل النصَّ من مكان إلى آخر. هل أدخلك عمُّك أبو خليل القباني في الحزن العميق، لتستغل طاقاته المسرحية فيما بعد، ليصبح شعرك مشحونًا بدراماتيكية وظّفتها لخدمة القصيدة؟

  • قد يكون ذلك صحيحًا. لكن حزني الشعري لم يكن نصًا مسرحيًا قابلًا لتمثيل ضحل عابر، بقدر ما كان تربة تملؤها فلزات، عادةً ما يتشكّل منها الأنين الداخلي للأرواح، مصحوبًا بالدمع.

■ هل ما زال دمع نزار ساري المفعول؟

  • لقد ابيضّت عيناي من كثرة الدمع، ولذا فقد فرغت محاجري من شدة تساقط تلك اللآلئ. ومثلما أنا صاحب قافلة من الراحلين يوم كنت على الأرض هناك، مثلما أنا تائه في هذه البلاد بحثًا عنهم.

■ هل أخذتَ دور جلجامش بين طبقات السموات تعني؟

  • أنا التقيت بجلجامش هنا أكثر من مرة، وعرّفني على أنكيدو الذي أصبح قائدًا لقطيع من النجوم. تحدثنا طويلًا دون أن يُقنع أحدُنا الآخر بما كان يكتب أو يفكّر أو ينتمي!

■ هل كان ذلك بخصوص نبتة الخلود مثلًا؟

  • كلا. فجلجامش يستنكر أن يكون أسطورة تقوم على حزمة من الأعشاب. ضحك طويلًا عندما عَلِم بأننا ألّفنا من أجله مئات الكتب التي تتحدث عن رحلته الخاصة بالبحث عن نبتة الخلود. أجل، ضحك كثيرًا، لأنه لم يذهب إلى البراري بحثًا عن عشبة، ولا عن نخلة ولا عن شجرة موز. لأن الرجل كان ذاهبًا للبحث عن صيدلية من أجل شراء أقراص لعلاج القرحة التي كان يعاني منها.

■ هل كنت تتوقع شيئًا من ذلك القبيل؟

  • أبدًا. ولكنه طلب مني أسماء المؤلفات التي كتبت عنه فقط. سلّمته قائمة بعناوين بعضها، وأرشدته إلى الاستهداء على بقية العناوين من خلال غوغل. وذهب الرجل للتنقيب عنها في جهاز كان يحمله على كتفه.

■ ما الذي بقي عندك من شعرك حتى الآن؟

  • أنا أصطاد نفسي في شعري في كل زمان وكل مكان. لقد رصّعت جسدي بقطع فسيفسائية من كل ما كُتب قديمًا وحديثًا. ومن غير اللائق بشاعر من وزن نزار قباني أن يُهمل قطعة من جسده، أو أن يتركها على الرفّ لحساب الغبار أو الفئران ممّن يتراكمون على الشمال أصفارًا.

■ قد يأتي ردّك هذا مشحونًا بإعجاب نساء مراهقات بشعرك، ولكن ألا تجد فيه مبالغة؟

  • لقد وجدتُ قصائدي نساءً هنا. وعلى الرغم من ذلك، فثمة حالات تأتيني وتمنعني من التعويل على أغلب قصائدي.

■ ما حجم اللبيدو فيما تكتب الآن؟

  • كل نص شعري هنا له دلالة ضخمة من اللبيدو الفني، لذا فعادة ما يشتبك الشاعر من أجل توضيح تلك الدلالة، ليضيء ما كان مظلمًا في جسد من يُحب. صحيح أنني في حالة منع الآن، إلا أن الأمور لن تمضي هكذا… كما أخبروني.

■ ألا يقودك اعتقاد كهذا إلى عقاب؟

  • الربّ في هذا الفضاء عرشُ حبٍّ ونور ورحمة. هو الأب الراعي، لا قاطع أخشاب الغابة. كما إنه ليس في صورة ما يرسمه ذو اللحى المسحورون بنيران جهنم وبأس المصير.

■ كنتَ كتبت “خبز وحشيش وقمر”، وأعدها الكثيرون من المعاصي:
(القصيدة كما هي دون تعديل، فالنص الشعري لا يُمسّ.)

· لا يمكن أن يُلقى تفسير المعاصي التي تُسجّل على الأرض، مع ما هو معمول به في السماء من تفسيرات. هنا الله لا يقيمُ وزنًا لظنون وكلاء طابو العقاب والثواب على الأرض، ولا للفتاوى المتدلّية من عقولهم كما اللحى المغسولة بالصمغ.
الله ممحاة عظمى لأخطاء البشر الصغرى، يمحو ولا يأخذ بما يؤوّله مرضى الديانات، ممَّن لا وظيفة لديهم في العالم السفلي غير الترويج لعذاب القبر وسرد الروايات عن مجازر الجحيم.

■ كأنك بلغت مرتبة الطمأنينة من ظلال الضلالات القديمة، فاسترخيت هنا دون تحفظ. ألا يوجد نقاد يدفعون بك إلى النار كوجبة سريعة؟
· ليس كل شعر من عمل الشيطان كما يذهب في ذلك المفسّرون الخائبون. الشعرُ تحفةٌ في الفراديس كلها على تعددها وتنوعها، ولولا ذلك لكتب الله على اللغة الموت، وأهلكنا بين حروفها كما الخراف. لذا تراني وأنا في هذا المكان من الشجر الجمالي الذي لا يقربه الحطّابون بأمره تعالى.

مقالات من نفس القسم