بدايات

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ياسر جمعة

منذ وجد، أخيرًا، غرفة في منزل مقسم إلى غرف صغيرة مثلها.. كل واحدة تسكنها أسرة، أصبح سبب قلقهم ومصدر ريبتهم.

 البعض أقبل عليه بمبدأ اكتشاف الخطر والعمل على منع شره، والآخرون تجنبوه مباشرة. أما النساء، قليلة الظهور في الحوش، كانت كل منهن عندما تدخل ( الحمام) تصطحب معها زوجها أو أحد أبنائها، والفتيات كذلك، تصاحبها الأم أو أخوها الأصغر.. لينتظرها أمام الباب، المتهالك، جالسًا القرفصاء، أو واقفًا، مصوبًا نظراته النارية نحو غرفته إلى أن تخرج، فيدخل، لعدة ثوان، ليخرج بعد ذلك وهو يعدل من بنطاله متلفتًا هنا وهناك. الكل.. الكل وكأنهم على أتفاق مبرم على فعل ذلك.

 استاء، في البداية، من نفورهم، إنما فكر أن هذا، غالبًا، سيتلاشى عمَ قريب، ولم يتحقق توقعه وقد توالت الأيام والشهور، فناوشته رغبة أن يترك هذا المكان، لكن لوحت له ليالي التشرد والنوم في الشوارع المظلمة قبل عمله ذي المرتب الزهيد.

    - لابد من حل.

قلّل من تواجده، ولم يعد يستعمل الحمام أبدًا، خاصة بعد أن اكتشف مسجدًا قريبًا، صار يذهب إليه ليقضي حاجته، ويستحم، في يوم أجازته من العمل، الذي يستيقظ فيه بعد الظهر بحوالي ساعة. وإن صادف تواجده- الذي تكرر كثيرًا، مما جعله يتعرف على رجل ملتحِ.. أربعيني، بدين- موعدًا للصلاة.. يصلي صامتًا.

 

في مرة، ما إن دخل( الحمام) وتجرد من ثيابه، حتى سمع صوتًا خافتًا يرتل القرآن.. إنزعج وشعر بالخجل، قرر أن يلغي أستحمامه وينصرف.

    - يمكن يكون وقت صلاة.

لف الصابونة في ورقتها ووضعها بجيب بنطال الترننج المعلق في مسمار خلف الباب، وجلس ليقضي حاجته فقط، إنما أنعشته برودة الماء، رفع( الخرطوم ) القصير وتقوص بجسده النحيف.. تقوص أكثر مُستندًا بكفه على الأرض، اللزجة ما تزال، حتى بعد أن وجه إليها الماء المندفع بقوة، ورفع( الخرطوم) الذي وصل بالكاد، رغم إنحنائه لأقصى قدر ممكن، إلى صدره الضيق، ثم راح يحرك يده ليصل الماء إلى كل جسده المتقوقع على بعضه. ثم غسل يديه جيدًا وهو منتعش تمامًا، مع أنه لم يمارس العادة السرية كما إعتاد في كل حموم.

 

خرج وقد أرتدى البنطال، وفي مساحة النصف متر، بين الحمامات الثلاث والميضة أرتدى( التي شرت)، بعد خطوتين وقف مترددًا في الخروج وهو ينظر إلى أقصى المسجد، حيثُ يجلس رجل معتمرًا شالًا أبيض، بين يديه مصحف.

التقت نظراتهما للحظة، دون أن يتوقف الجالس عن القراءة، فأتجه، لا إراديًا، إلى المكتبة.. أخذ مصحفًا وجلس، ليمرر عينيه على الكلمات المتشابكة مرتبكًا، حتى سمع:

    - ما تصلي ركعتين تحية المسجد وبعدين نقرأ سوا.

قام، تاركًا المصحف مكانه، مشي خطوات قليلة إلى ما قبل المنبر الصغير، رفع كفيه هامسًا بالتكبير.. وظل يؤدي حركات الصلاة من ركوع وسجود، بينما كان يحاول جاهدًا أن يتذكر اسم هذا الرجل حتى انتهى.

عاد، جلس بجواره، قابله بابتسامة ودود:

    - كيف حالك يا أخ يوسف؟

    - الحمد لله.

أتسعت ابتسامة الملتحي، ومد كفه مصافحًا:

    - شكلك نسيت اسمي، أخوك قاسم، جارك، ساكن معك في بيت المعلم حمدي الأسيوطي.

واسترسل في الحديث، الذي ذكر فيه أنه يجده ملتزمًا.. يراه دائمًا في المسجد، بخلاف من هم في مثل عمره، وأنه حيي.. يدخل غرفته ويخرج دون أن يرفع نظره إلى أحد، ثم حكى الشيخ قاسم عن نفسه أنه كان ضابطًا في الجيش، ولكنه تركه عندما اكتشف، عن طريق شيخه، أن أموالهم حرام.

بعدها، أمسك كل منهما مصحفه- وقد تكرر هذا فيما بعد كثيرًا- وظل الشيخ قاسم يرتل بصوته المتطابق بأصوات مقرئي الخليج العربي، ويوسف يهمهم وراءه مطأطئ الرأس، حتى داهمهما موعد آذان العصر.

 

في ذلك اليوم عادا، لأول مرة، معًا، لاحظ يوسف.. الذي كان يعاني من ثقل ذراع الشيخ قاسم على عنقه، النظرات التي أستقبلتهما في إندهاش ممزوج بشيء يشي بما يشبه الراحة والقبول.. فإنشرح صدره، وقرر أن يقص شعره البني الطويل، متمنيًا أن تنبت لحيته، ذات الزغب الأصفر، ولكن ما بقى يؤرقه، لمدة طويلة، هو فكرة التخلص من صليب في سلسة فضية، وصورة مهترئة للعذراء.. كان قد وجدهما في جيبه عندما أفاق ذات يوم، وهو دون الرابعة تقريبًا، في إحدى الطرقات...!

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

 قاص مصري 

مقالات من نفس القسم