روان البحيري
رحلتنا كانت أشبه بالدخول إلى “لُعبة المتاهة”. سرنا في ممراتٍ من الرخام الأبيض متداخلة في بعضها، جدران شاهقة الارتفاع، صمت يُضفي هالة من الصفاء على المكان، جوٌّ بارد يمنحك نوعاً من الانتعاش لإكمال الرحلة، رهبة تشعُّ من العمران المتقن والقطع الفنية القوية، خطر لي وأنا أتحرك بتمهلٍ أنَّ للقطع عيوناً تراقب الزوَّار، إنه مكان يجلب شعوراً بالارتباك الجميل داخل كل من يزوره. نحن في “متحف إثراء” بالمنطقة الشرقية، وعلى بُعد لحظات من معرفة مصير البشر في المستقبل.
استقبلنا مرشد الرحلة “بخاري” برداء سعودي أبيض يناسب أروقة وجدران المتحف، تعلو وجهه ابتسامة تناقض كل القطع التي بات يشرحها عن الكوارث الطبيعية التي سبَّبها جشع الإنسان. تلك القطع الفنّية ترمز لكل ما يتجاهله الإنسان ليعيش رفاهية. تعلو الأبخرة السامة وتَعْلقُ في الجو، تتراكم الأبخرة حتى تصير كالجبال، لتؤكد أن المستقبل في خطر، وأن الأجيال التي لم تولد بعد سترث إرثاً من الأنانية، فلن يكون بوسع أطفالنا وأحفادنا أن يستمتعوا بالشجر الأخضر أو يلعبوا في الرمال أو يسبحوا في مسطحات مائية صالحة.
هنا فنانون اجتمعوا من حول العالم ليرسلوا لنا تحذيراتٍ رقيقة كالسلاح الخالي من الذخيرة، لكنني أتوقف أمام عمل هزَّني من أعماقي.
هذا العمل جعلني أعود إليه حتى بعد انتهاء الرحلة، وهو “المحرّقون” لآن جراف وهي فنانّة نرويجية مهتمة بالأحياء الدقيقة والبكتيريا. تستلهم آن أعمالها من علاقة الإنسان بالطبيعة، وأيضاً من علماء الطبيعة، فمثلاً استوحت من العالمة آستريدا نيمانيس بعض الأفكار، إذ قالت في كتابها “أجساد من ماء”: “كلنا أجساد من ماء، ما نفعله بالماء نفعله بكل جسد على هذه الأرض، بما فيه أجسادنا”.
الكوابيس في عمل آن بآستريد “المحرّقون” كانت واضحة جداً، خصوصًا بتلك البقع الحمراء المنسكبة على الأرض والتي تشبه الدم. عندما وقعت عيناي على القطعة الفنِّية لفتت نظري العروق البيضاء المتفرعة التي تشبه عروق الشجر وأعصاب جسم الإنسان على حد سواء، يتوسط هذه العروق شكل مفرَّغ زجاجي شبه دائري يشبه المعدة، وكأنها تهمس لنا بأن الإنسان والطبيعة هما شيء واحد لا ينفصل، وإن أساء الإنسان للطبيعة وقتلها ستعود هي بدورها لتنتقم وتمحو الإنسان من الوجود. كان عملًا فنّيًا معبِّرًا ومخيفًا. تلك العروق المتفرعة المصنوعة من المرجان هي بداخلنا أيضًا، والإنسان لا يتردد في تدميرها لأجل أهوائه. في رأيي لقد نجحت آن جراف في إشعاري بأنني والمحيط والتربة كيان واحد وجسد وحيد.