بالأمس حلمت بالشيف شربيني

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد الفولي*

 

-ورقة وقلم وترجم يا سيد الكل

هكذا أنهى محاضرته الموجزة والوافية وهو يبتسم بعد شهقته التي تردد صداها في قاعة المؤتمرات شبه الخاوية بكلية الآداب بجامعة القاهرة. أقول شبه الخاوية لأنني كنت جمهوره الوحيد ولولا وجودي لأصبح المجهود الذي بذله أمام الموقد وعلى شاشة العرض بلا طائل. ما أقصه في هذه السطور، التي قد تطول أو تقل وفقًا للطريقة التي سأطهو بها فكرة تجليه لي في الليلة الفائتة، مجرد حلم، لأن رجل بمثل قامته التي تقدرها كل الأمهات وربات البيوت يمتلك- بعيدًا عن عالم الأحلام- جمهورًا كبيرًا يشمل أيضًا عددًا لا بأس به من الرجال.

لا أعتقد أنني سبق وأعرت اهتمامي لأحد بمثل هذه الطريقة على أرض الواقع في أي محاضرة طوال السنوات الأربع التي درست فيها اللغة الإسبانية وآدابها بجامعة القاهرة. قد يظن البعض أنني كنت مجبرًا على هذا، على الاستماع لهذا الرجل ومشاهدة الأبخرة وهي تتصاعد من الآنية الموجودة أمامه والصور المختلفة التي أظهرها على شاشة العرض، بصفتي سجين داخل حلمي في هذه القاعة الخاوية، لكن هذا سيعد نوعًا من السذاجة، فهذه ليست واحدة من تلك المرات التقليدية في حياة أي إنسان التي يستمع فيها وهو حبيس مكتب أو قاعة اجتماعات لتأنيب أو تعليمات أو حكايات مديره بينما يومئ برأسه في ملل ليخرج بعدها دون أن يتذكر ولو كلمة واحدة مما قيل.

هذه المحاضرة الليلية التي تسللت إلى أحلامي بغتة كانت تستحق الاهتمام، فقد كان الشيف شربيني يتحدث فيها بحرفية وعبقرية لا غبار عليهما عن نظريته المستحدثة وعنوانها “الملوخية كمدخل نحو الترجمة”. يعرف المقربون مني أهمية هذا الثنائي في حياتي، فأنا أحب الطعام عامًة وأهيم عشقًا في البحر الأخضر لذلك الطبق المصري الأصيل، أما شغفي الأساسي ومصدر رزقي لحسن حظي (أم لسوئه؟) هو الترجمة. لم يكن هناك وقت لأتخيل وأنا داخل الحلم مسألة ولادتي في عهد الحاكم بأمر الله وحرماني من الملوخية فقد أسرني أشهر طهاة مصر وقتها بأطروحته. أتخيل هذه المسألة الآن، وأنا أكتب هذه الكلمات لتسري في جسدي قشعريرة بدأت من هناك، من الداخل، من جدار معدتي الرقيق الذي يعجز عن تصديق أنه كان ليُحرم في يوم من الأيام من معشوقته ذات القوام المثالي، محبوبته المتحررة غير الممانعة التي تؤكل بطرق عدة سواء وردت في كتاب “كاماسوترا الطهي”- هذا إن كان موجودًا- أم لم ترد: مع الأرز أو وحدها، بتفتيت العيش البلدي أحيانا أو تغميسه بطريقة “ودن القطة” في مرات أخرى، بل وأحيانا مع العيش المحمص.

لكن كل هذا لا يهم في الحقيقة فأنا لم أولد في عصره وبالتالي لم أُحرم من الملوخية، فهي موجودة معي على أرض الواقع وظهرت لي في أحلامي على يد الشيف شربيني داخل قاعة المؤتمرات بكلية الآداب بجامعة القاهرة في أطروحة أكاديمية عن أحد المداخل المتعددة نحو الترجمة، التي  أرى أن كل الدراسات فيها دون ممارسة فعلية محض هراء، لكن هذا ليس مربط الفرس (أم العكس صحيح؟)، فالمهم الآن أنه كان يقف بزيه الأبيض ذي الياقة الحمراء والأزرار السوداء، ذلك الذي لا تشوبه شائبة، وهو يشرح النقطة الأولى فى نظريته. كان يتحدث بحماس بابتسامته الواسعة المعهودة وجبهته العريضة التي أكسبتها صلعته الشهيرة طولًا إضافيًا، لكن شاربه الكث كان أكثر كثافة مما هو عليه في الواقع ويبدو أنه قد اكتسب حجمًا إضافيًا ليهتز فوق فمه كأنه نسخة مصرية كارتونية معدلة من ألبرت أينشتاين.

على شاشة العرض، التي شغلها بالضغط على زر خفي داخل الكبشة التي أمسكها بيده المشعرة، ظهرت صورتان: الأولى لحزمة ملوخية طازجة والأخرى في هيئتها المجمدة. ظننت في البداية أنه سيوصي باستخدام الثانية بسبب أحد العقود الدعائية الكثيرة التي يرتبط بها كأنه أحد نجوم كرة القدم، لكنه فاجأني بما قاله:

الترجمة والملوخية واحد يا سيد الكل. الأساس في الترجمة جمال النص الأصلي والأساس في الملوخية إنها تكون طازة

أعجبتني مقاربته كثيرًا، فكم من مرة شهدت فيها هذه الإشكالية: نص رديء ينتج عنه ترجمة خاوية من أي معنى ولا تقل أي رداءة عنه رغمًا عن كوني مترجمًا جيدًا- أو هكذا يقولون- ثم أكمل حديثه بالتأكيد على أن المترجم هو الحساء- أو كما قال تحديدًا- ” الشوربة”. كانت نصيحته سهلة وبسيطة: لا يجب اهدار حساء غني وشهي على الملوخية المجمدة مثلما لا يجب اهدار مجهود مترجم جيد على نص رديء والعكس أيضًا صحيح. هذه هي الفكرة التي أوصلها بسلاسة وهو ينثر أوراق اللاورا ويُسقط الحبهان ويرش الملح والفلفل ومسحوق جوزة الطيب فوق الإناء الذي كانت دجاجة مسكينة تضحي داخله بكل دسمها وسط الماء الفائر في شعائر تضحية لا مفر منها من أجل الوصول لغرض نبيل

قبل أن يشرع الشيف شربيني في شرح الجزء الثاني من نظريته، وضع يده فوق أذنه. يبدو أن مخرج الحلم أخبره بوجود اتصال هاتفي. هل لاقت محاضرته اهتمامًا مفاجئًا من قبل جمهور مُحب لصنعة الملوخية-الترجمة؟ يبدو أن الأمر صحيح بالفعل.

ومعانا مكالمة تليفونية من مدام أسماء. تحت أمرك يا ست الكل. سؤالك إيه؟

لم تجبه المتصلة، فكرر الشيف شربيني عبارته مجددًا ليأتي صوتها:

-أيوة يا شيف شربيني. عامل إيه؟ أنا آنسة مش مدام. أنا سؤالي بخصوص الملوخية لما تسقط وعلاقتها بالترجمة من وجهة نظر أكاديمية. ردك هيبقى مفيد جدًا ليا في رسالتي اللي مش راضية تخلص.

وهنا أدركت على الفور هوية المتصلة: أسماء جمال عبد الناصر صديقة زوجتي التي تخرجت من قسم اللغة الإسبانية وآدابها في نفس الكلية بعدي بعامين. ندعوها “النحلة” لأنها لا تتوقف عن التنقل من هنا إلى هناك، من وظيفتها الحكومية لعملها في القطاع الخاص ثم تلك الندوة فحفل توقيع ذلك الكاتب أو زواج ذلك الصديق، ومع كل هذه المشاغل تمكنت من الحصول على درجة الماجستير في الترجمة، التي تناقشت معها أكثر من مرة  بخصوص جدواها في ظل الوضع الحالي. يبدو وفقًا لمكالمتها أنها لا تزال تعاني من بعض المشكلات في مراجعة رسالتها الأكاديمية، وإلا فما السبب وراء اتصالها بالشيف شربيني؟ الملوخية؟ لا أعتقد. أعرف أنها لا تحب الطعام ولا تأكل كثيرًا، بل أظن أحيانًا أنها ستطفو في وقت ما في الهواء بسبب قلة ما تتناوله من أكل ونشاطها المفرط العابر لحدود الجيزة والقاهرة التي تقطع كلاهما حرفيًا “رايح جاي” في أغلب أيام الأسبوع

كعادته جاءت إجابة الشيف شربيني وافية، خاصًة وأن هذه كانت النقطة التالية في محاضرته وعلى الفور قام بتشغيل مقطع فيديو يوضح أسرار “سقوط” الملوخية التي يقع فيها العديد من الزوجات العاملات وربات البيوت أيضا: الإفراط في تقليبها وتغطية الإناء وتركها تغلي لوقت طويل. تخيلت أسماء ممسكة بدفترها الصغير وهي تدون كما جرت العادة الملحوظات التي تسترعي انتباها. تخيلتها داخل حلمي بينما تقف في فراغ ليس له ملامح، ربما لأن عقلي لم يستطع أن يحدد وهو في حالة النوم إذا كانت ستقوم بتدوين ما لفت انتباهها وهي داخل المطبخ أم على مكتبها وإن كان عقلي الآن في حالته اليقظة يرى أنه لو كان هذا الأمر حقيقيًا لفعلته جالسة على مكتبها، ولفعلته أنا داخل المطبخ وصوت الشيف شربيني يتردد بين جدرانه من “سبيكر” هاتفي الذكي وأنا أستمع اليه بصحبة زوجتي إسراء التي يتفوق جمال وحلاوة الملوخية التي تطهوها على أمي. ربما تشعر “الحاجة” ببعض الضيق من هذا الاعتراف، لكن هذه هي الحقيقة. يكفيكِ يا أمي الحبيبة بقية الأطباق الأخرى التي تتفوقين فيها عليها بأستاذية، لكن ملوخية إسراء هي الأفضل!

وضع الطباخ الشهير بعد انتهائه من تخريط الملوخية وتنعيمها في الحساء ذي الرائحة الشهية وبعدها أدخل الدجاجة الشهيدة في الفرن وهو يتحدث عن العلاقة المستحدثة التي أوجدها بين هذه النقطة والترجمة، فالإفراط في تقليب الملوخية بالنسبة له هو تحميل النص أكثر من طاقته بكلمات مفخمة ومعظمة قد تشوهه، أما تغطية الإناء فهو الإفراط في الهوامش والتوضيحات بشكل يفقد القارئ تركيز ويجعل بعض قطعه المحورية تسقط من ذهنه ليفقد قوامه المثالي ويسقط، تمامًا كما تسقط الملوخية أسفل الحساء، أما تركها تغلي أكثر من اللازم، فهي الحالة النفسية للمترجم الذي قد تضربه نوبة من الغضب بسبب صعوبة فقرة أو جملة بشكل قد يفقده ثقته في نفسه بالكامل ليلجأ للإخلال بأمانته وتسقط ترجمته.

دعاني لأصعد بجانبه على المنصة وأمام الموقد. حينها سمعنا صوت ضربات متتالية على الباب. ظننت أن أسماء نشرت خبر المحاضرة وجاءت بصبحة عدد من طلبة الماجستير وربات البيوت و”الأكيلة” لحضور الجزء المتبقي منها على أرض الواقع-الحلم، لكنه كان أحد الفراشين يخبرنا بضرورة الانتهاء سريعًا لوجود ندوة لاحقة بمشاركة عدد من الأكاديميين حول أعمال كاتب لا وجود له يدعى “خوان دي لا أوستيا”. لم أرغب في اخبار الشيف شربيني بالحقيقة وأن إدارة الجامعة ترغب في “توزيعه” لتفريغ القاعة الخاوية في الأساس لمن يرون أنه أهم منه. في الحقيقة كنت أيضًا أتطلع لمعرفة كشفه القادم ولتذوق الملوخية و تلك الدجاجة الشهيدة بعدما دخلت الفرن، لذا أخبرته بأننا سننهي المحاضرة في ظرف دقائق قبل أن يأمرني الطباخ ذو الشعبية الجارفة بتجهيز الـ”طشة“.

شرعت أقطع الثوم بنصل حاد فوق لوح من الخشب إلى جزيئات صغيرة بكل استمتاع وسرعة كمادس ميكلسين في مسلسل (هانيبال)، بمهارة لا أمتلكها على أرض الواقع. هذا هو جمال عالم الأحلام، يمكن للشيف شربيني أن يصبح محاضرًا عن الترجمة والطبخ ويمكنني أن أكتسب أي مهارة أفتقر إليها. بالأمس حلمت بك يا شيف شربيني وأنت تضع تلك الطاسة الصغيرة فوق الموقد وقطعة صغيرة من السمن تسيح فوقها قبل أن ألقي بالثوم والكزبرة فوقها لأقلب هذا الخليط بعناية حتى يكتسب لونه الذهبي. سمعتك تخبرني بأن النهايات دائمًا مهمة، فـ”الطشة” هي التي تُكسب الملوخية نكهتها النهائية
الطشة هي المراجعة النهائية للنص يا سيد الكل. تغيير كلمة هنا، كلمة هناك

قلت هذه الجملة لي يا شيف شربيني بينما تُسقط الـ”طشة” فوق الملوخية ليتصاعد ذلك البخار ذو الرائحة المحببة، ثم نفذت الخطوة الأخيرة: “الشهقة”، تلك العادة المضحكة التي لا أعرف سببا واضحًا لها، لكني أحببت القيام بها في طفولتي مع أمي بالمطبخ في كل مرة كانت فيها الملوخية ضيفًا عزيزًا على مائدة طعامنا. لا ليست مائدة طعامنا بل تلك الطبلية ذات الأرجل الأربعة المصنوعة من الألومنيوم

نهضت من فوق فراشي وأنا لا أستطيع التمييز بين الواقع والحلم، ربما أيضًا بين الترجمة والملوخية. كنت أظن أنني سأشتم رائحة الملوخية في الأجواء، البعض يشتم رائحة القلق أو التوتر في الأجواء، لكن كل ما كانت تسعى أنفي لشمه هو الملوخية. قصصت على إسراء الحلم، لكني لم أخبرها برغبتي في تناول الملوخية مجددًا، فهي قدمتها لي منذ يومين فقط وكالعادة تكفلت بانهاء الحلة بمفردي تقريبًا
وأنا في طريقي للعمل بالوردية التي تبدأ في الرابعة عصرًا كنت أعلم أن الطعام الذي سأتناوله اليوم والموضوع في حقيبة ظهري هو الأرز والسلطة والبطاطس ولا وجود للملوخية بكل تأكيد. بعدها بدأ عقلي كما يفعل دائمًا يفكر في أمور غريبة ومنها التفاهات التي تنغص حياة بعض المترجمين، بعضها كان مرتبطًا بالحلم، فكيف سأترجم كلمات مثل “طشة” أو “شهقة” للإسبانية، لا مفر من الأسلوب العقيم لكتابة نطقها بالعربية بحروف لاتينية ثم شرح ما تعنيه في الهامش. حسنًا، قد تصلح هذه المسألة مع “الطشة”، لكن “الشهقة”؟ ملعون أبو الترجمة! لن أتحدث عن معاناة مترجم أدبي شاب مع الناشرين أو ألعنها..كل ما أعرفه أن الحياة أبسط حينما تتعلق فقط بالملوخية!

 

*كاتب ومترجم مصري

 

 

 

 

مقالات من نفس القسم