سأقول كدرويش: لا موسوعة الأزهار تسعفني، ولا القاموس يسعفني، سيخطفني الكلام، إلى أحابيل البلاغة، والبلاغة تجرح المعنى وتمدح جرحه كمذكر يُملي على الأنثى مشاعرها.
ندخل من باب ليلٍ يُخبئ أجسادا تعيش على حافة الهاوية، لم يكن الأمر امتلاك جسد يعبث في مساحة المقهى بكل عنفوانه، وينكسر خارج حدود هذا المقهى بكامل عنفوانه أيضا. أجساد لم تتحقق الا داخل مساحة ضيقة من المقهى الحياة. تنفرد كل حكاية بذاتها، وتستقل عن أخرياتها، وتتشابه في المصير الذي سيتمرد عليه بعضها. خلف الباب أشباح تتحرك وأجساد متعبة أو منتهكة، أو مستسلمة. خلف الباب رغبات تسيل وأرقام تدور وأرواح تتلاشي فلا يبقي غير صورة الجسد.أجساد تتمرد بطريقتها الخاصة، بفعل الامتهان ربما، بفعل العادة ربما، بفعل الرغبة، أو الهروب من ماض غامض والثورة عليه. تحول الجسد إلى تجارة رائجة في سوق عربي يمتهن الأجساد والأرواح والهويات.
أبو شندي سيتحول إلى شبح يرتكن إلى ذكرياته وثورته ونضاله، معلقٌ الرجل بين هويةٍ معلقةٍ عابرةٍ للحدود، مسلوبة الأرض والحياة.ابو جعفر سيحمل شجن وألم العراق وخداعات الزعماء، سيحمل دواء انتهت صلاحيته لأمراض لا دواء لها، لأوطان لا دواء لها، وخديعاتٍ كبري لبيع أوطان أو سلبها أو احتلالها.
أجساد النساء لم تكن سلعة، فقط، لم تكن متعة ورغبات فقط، كانت تمردا وحربا على واقع مشوه. انتقام خفي من آخرين، ستبوح به احداهن حين تذهب إلى بلد آخر وتعود لتقول لزميلتها لقد انتقمت لك منهم، هل تبرر ما تفعله؟أم تسخر مما تفعله؟أم كان حقا ما تقول؟.
شخصيات تتخفي خلف وجوه مصطنعة، باربي لم تكن غير درة، نعيمة لم تكن غير رحمة أو حلومة أو ألفه. تختلف الوجوه، لكن الحكايات تتشابه، والمصير يتقاطع، والمكان يجمع ويحتوي، والليل يستر ويحنو ويضم. مصائر لم تمتلك غير أجسادها تقاوم معها وبها فعل الحياة.
شخصيات ضاعت أوطانها وهويتها، ابو شندي ينزوي جنبا إلى جنب مع ابي جعفر، شادي يقبع في نهاية الامر جانب الرفيق بريجنيف على طاولة لفلسطين، هل هي عوضا عن وطن؟
وآخرون قنعوا في نهاية الأمر بطاولةٍ ورقم لامرأة وسهرة عابرة. لتدور الدائرة كل يوم ولا تنتهي.
بناء سردي محكم يتجول بين الشخصيات باختلاف انكساراتها وانتصاراتها الوهمية، شخصيات تنقسم وتتفتت محاولة اقتناص لحظة وجود يتحقق فيه انسانيتها. وفضاء المكان المحدد (المقهى ) المنغلق البناء، والمنفتح على عوالم الشخوص الوجدانية التي تتصارع داخل ذاتها، وداخل ملذاتها.
لغة ساخرة، وساحرة تترصع بلآلئ المجاز، لا تلتفت للتكثيف بقدر ما تلتفت للبوح الشجني، عبر خمسة عشر بابا للألم والوجع الانساني وفقدان الهوية واشتعال الهوي.
و راوٍ سارد يأخذك من يدك منذ اللحظة الأولى ويقبع معك في زاوية المقهي، يفتح لك باب الحكي والوصف السينمائي ليشير لك على شخصياته واحدة بعد أخرى، وأنت لا تستطيع أن تقاطعه، فقد أصبحت شريكا له في اللعبة و في قلب الحدث، لا تملك الا أن تجلس و تشرب الشاي معه في مقهى (لمة الأحباب).
يلزمنا اذن اجتراح المعنى والاشتباك معه، يلزمنا اختراق الجاذبية والكلام لكي نحس بخفة الكلمات حين تصير طيفا هامسا فنكونها وتكوننا، فتكون اللغة والكلمات هي الوطن والمنفي، فينحسر الضباب عن الشخوص، والغيمات عن الوطن الذي هو على مرمي بصر وحجر.
مصائر خرجت من أوطان مفقودة، لتسكن في أجساد مشهودة. تجتمع في لحظة شتاتٍ عربي، وعبث عربي، وسرقة أوطان بالكامل ونهبها على أيدي جنرالات يبيعون الوطن والهوية قطعة قطعة.
مصائر تصر على الوجود رغم انهزام ذلك الوجود، توشوش لأقدارها: نحن هنا لم نزل، في مقهى يحتفي بانكساراتنا ورغباتنا الدافئة. وما زال ذلك الذي يحمل فوق رأسه (قُبّعةَ ) البلاغةِ والمجاز، يكتب عنا.