علي عطا
في رواية “أيام الشمس المشرقة” (دار العين) للكاتبة المصرية ميرال الطحاوي، نجد أنّ عالم المهاجرين غير الشرعيين لا يقلّ بؤساً عن العالم الذي فرّوا منه في بلادهم الأصلية؛ على أمل بلوغ “الجنة الأبدية” في الولايات المتحدة الأميركية.
تعطي ميرال الطحاوي الأماكن أسماء رمزية، عوضًا عن أسمائها الواقعية. فـ”الشمس المشرقة” هي “منطقة – تقع جنوب غرب الولايات المتحدة الأميركية – تتنفس كل يوم غبار التلال التي تطلقها وتتصالح مع أبخرة خليج ضحل” (صـ14).
هي مجرّد مستعمرة صغيرة، أو أنقاض مدينة حدودية شبه ساحلية مهجورة. يقدم السرد شخصيات العمل ومعظمهم نساء، في مهجرهم البائس هذا، وعبر تقنية “الفلاش باك” يتتبع ما كانوا عليه في بلادهم الأصلية، في ما يبدو حصاد عمل استقصائي على غرار رواية سفيتلانا أليكسيفيتش “صلاة تشيرنوبل”، حوّله التخييل إلى عمل روائي بامتياز.
“نِعَم الخباز” تعمل أولًا في رعاية العجائز، ثم تعمل في نظافة البيوت. تتزوّج من متسلل يدعى “أحمد الوكيل” وتنجب ولدين، “جمال” ينتحر عند بلوغه التاسعة عشرة من عمره، و”عُمَر” يفر منها لتتبناه أسرة بديلة في نطاق ما يسميه السارد “الجنة الأبدية”، تتيح له الالتحاق بالجامعة والانعطاق من بؤس أبدي.
“أحمد الوكيل” غريب الأطوار مؤرق بالمخاوف. علاقته بـ”نِعَم الخباز” تشبه تصادم جبلين من الجليد، يتقاربان فقط ليسحق أحدهما الآخر، ثم ينسحبان بعد خسارة حتمية بفعل التنافر العميق بين روحيهما، بتعبيرات سارد رواية الطحاوي التي يتركز عملها هذا على عالم مختلف أوسع جغرافيًا على الأقل عن عالمها الأثير، عالم البدو في نطاق محافظة الشرقية في مصر والذي تسيّد رواياتها الأولى “الخباء”، “الباذنجانة الزرقاء”، و”نقرات الظباء”. إلا أن عالم “الشمس المشرقة” يبدو امتدادًا أشد مأساوية من عالم روايتها الرابعة “بروكلين هايتس” الذي دارت حوادثه بين مصر ونيويورك، وفازت عنه بجائزة نجيب محفوظ التي تمنحها الجامعة الأميركية في القاهرة، كما تضمنته القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية.
احتقار وكراهية
تحولت علاقة نعم الخباز وأحمد الوكيل، تدريجيًا إلى مزيج من الاحتقار والكراهية المتبادلة في محيط “الشمس المشرقة” الواقعة في السفح، فيما تزخر الجبال المحيطة بها بمنتجعات يصفها الراوي العليم بـ”الجنة الأبدية”. هي مجرد منخفض قاري يتوسط سلسلة من الهضاب والتلال الخفيضة والصخور النارية. قاع مكدَّس بالبشر يطلق عليه البعض “سُرَّة الأرض”.
أم ميمي دونج، التي تبدأ الرواية بحادث غرقها وتنتهي به، فهي “دكناء اللون، أفريقية، جميلة، طويلة ونحيلة وتملك وجهًا يثير الرغبة والحنق في آن. بشرة سمراء ناعمة كالحرير وعينان لوزيتان وشفتان ممتلئتان. جلبتها إلى الشمس المشرقة بعثة تبشيرية وهي في التاسعة من عمرها”.
عاملة نظافة تكرهها “نِعم الخبّاز”؛ لأنها مرغوبة من الرجال ولأنها أغوت ابنها “جمال” قبل أن ينتحر. “الشمس المشرقة” إذاً هي بلدة تعددت جيوبها العرقية وأصبحت مستعمرة كبيرة لعاملات النظافة والتدبير المنزلي من الأفريقيات والمكسيكيات والمربيات الآسيويات. أهلها يعيشون في بؤس أبدي، ولا أمل لأي منهم في الارتقاء ليصبح من أهل “الجنة الأبدية”.
على غير المتعارف عليه، تكشف ميرال الطحاوي في روايتها “الشمس المشرقة”، عوالم بائسة في “أرض الأحلام”، بل إن بؤسها يفوق بؤس كثير من بلدان الطامحين في الهجرة إليها. مع “نعم الخباز” و”ميمي دونج”، هناك “نجوى سالم” التي جاءت إلى “أرض الأحلام” تلك للدراسة، لكنها مُنيت بفشل ذريع، ومع ذلك رفضت العودة إلى بلدها والتحقت بوظيفة في وكالة أهلية لغوث المنكوبين. كرهتها “نعم الباز”؛ الشخصية المحورية التي تتقاطع بشكل أو آخر مع شخصيات “الشمس المشرقة” ومحيطها، لاعتقادها أنها لم تساعدها كما ينبغي عبر وظيفتها في تلك الوكالة التي تتسم على أي حال بفقر الموارد التي يمكن أن تعينها على غوث المنكوبين، وما أكثرهم في تلك المنطقة المتخيَّلة من العالم والتي لا تعدم أسباب اتصالها بمناطق مشابهة في البلدان التي يتوق كثيرون من أهلها إلى الهجرة إليها، على أمل النجاة من بؤس أبدي.
الحياة بشكل متكرر
العمال الملونون يشكلون غالبية سكان بلدة “الشمس المشرقة”، الواقعة في الجنوب الغربي لدولة مصنفة باعتبارها الأغنى في العالم، ويقع في القلب منها حي يسميه الراوي العليم “الرُبْع الخالي – الكوارتر” وفيه تتمركز عصابات تهريب العمال والمهاجرين المتسللين عبر الطرق الجبلية، إلى حقول العنب… “في المساء يراقب الجائلون على رصيف الكوارتر كيف تسير الحياة وتعيد دورانها أمامهم بشكل معجز ومتكرر، تلك الحياة التي يتم اختصارها بوصفها محاولة انتحارية للتسلل إلى تلك الأرض ثم محاولة انتحارية موازية للهرب في تلك الجبال. يحاول العابرون تجاهل تلك المشاعر المختلفة وتجاهل حركة الزوارق التابعة لمكتب الجمارك وحماية الحدود وهي تجول متهادية أمامهم” (ص 236).
ويعتقد “سليم النجار” الذي يعمل حارس عقار أن “الشمس المشرقة” هي موطن إيروس ذاته؛ انطلاقًا من إيمانه بأن كل فنون الشبق “مشرقية”؛ لأسباب مناخية في الأساس. وهو هنا يتحدث عن بلدة تتسم بفضاء دافئ وصحرواي وشاطئي وحدودي مليء بالغرباء والعابرين. توافق “سليم النجار”، على عكس كثيرين غيره، مع عالمه الجديد، “واضعًا أحلام المهاجرين الرومانتيكية جانبًا والتعلق بما جادت به الحياة من متع صغيرة وآثمة” ص 241. تطارده “نعم الخباز” التي قررت استدراجه لكتابة الخطابات للمؤسسات الخيرية لمساعدتها في اقتناء شاحنة، وهو ما تحقق في النهاية. وهكذا امتلكت “نعم الخباز” شاحنة أطلقت عليها “البرنسيسة الصغيرة”! وباتت متخصصة في مرحلة من التنظيف الشاق المرتبط بكوارث.
النكبات موزعة على الجميع
“عُمَر”؛ الابن الأصغر لـ”نعم الخباز” يشتهي الحياة في مجتمعات “جنة عدن”. تبدو له تلك الحياة المشتهاة “أكثر آدمية ولطفًا”. حياة “تليق به كطالب مثالي ممتلئ بزهو تفوقه الدراسي”. وبالتالي يهرب من “الشمس المشرقة” بمساعدة معلمته في المدرسة الثانوية وتدعى “إليسا”. شجعتْه على أن يقبل أن تتبناه أسرة بديلة تساعده على الالتحاق بالجامعة. تعبر النكبات على الجميع في تلك الأرض، يكبر الأبناء على كراهية تلك الحياة الشاق، ويهربون حين يتسنى لهم ذلك، ويعودون إذا أخفقوا في العثور على ما طمحوا إليه.
الحيوانات الأليفة أيضَا تهرب حين تسنح لها فرصة الهروب. ربما كانت “نعم الخباز” استثناء من تلك القاعدة، فقد نجحت في الحصول على إقامة شرعية دائمة، ورغم معاناتها من شظف العيش، ونفور الرجال منها بسبب تشوه وجهها من جراء حادث قديم، فإنها لا تشعر بأي حنين إلى موطن طفولتها الشقية، وتسلم بأن حياتها في “الشمس المشرقة قدر محتوم وستنتهي إلى أن تدفن بعد موتها في مقبرة البلدة التي يطلق عليها “راحة الأرواح”، وكأنها المعادل الأخروي لمنتجعات “الجنة الأبدية”.
وبين “الشمس المشرقة” و”الجنة الأبدية” تقع منطقة يسميها السارد “تلَّة سنام الجمل”، وهي تسمية غير بعيدة من عالم ميرال الطحاوي الأصلي. تبعد “تلة سنام الجمل” كيلومترات عدة عن “الشمس المشرقة”، وحال سكانها المتعددي الأعراق، أفضل نسبيًا، لكنها تظل مجرد هضبة وسطى تنام تحت أقدام “الجنة الأبدية”. حتى المدينة التي درست “نجوى سالم” في جامعتها علم الاجتماع، تصورها لنا إحدى شخصيات الرواية وهي تخاطب الطالبة الحالمة على أنها “مدينة موبوءة وأكثر خرابًا من بلادك”. هي مدينة صغيرة وكئيبة في إحدى الولايات الشمالية. كآبته ترجع إلى أن الشمس لا تعرف طريقًا إليها، إلا في فصل الصيف القصير. هي أقرب المدن إلى بحيرة أونتاريو الشمالية التي تتجمد تمامًا في فصل الشتاء. وحتى سكان “الجنة الأبدية” يعانون من الانهيارات الجرفية في الجبال واندلاع الحرائق الموسمية بسبب البرق وتجديد مهابط الطائرات فوق المنتجع، فما الذي يجعل منها ومن “الشمس المشرقة”، أرض الأحلام؟