خالد السنديوني
الشعر البشري سينقرض هو الآخر.
كتبت هذه الجملة في محادثة مع “الشات جي بي تي”. والحقيقة أنني، كغيري، أصبحت معتادًا على ردّته الآنية؛ كخادم مخلص لا ينام. اعتدت أيضًا على سيل المعلومات المتدفق في كل المجالات، لكن ما أثار دهشتي هو إلحاحه على كتابة نص إبداعي انطلاقًا من فكرتي تلك.
هذه المرة تركته يفعل، فأنشأ في لحظات نصًا شعريًا حاز إعجابي، وأطفأ شيئًا من “الايجو” لديّ كشاعر، بينما كنت أحدق في “أناه” الغامضة — تلك التي لا أعرف كيف وُلدت، ولا متى ولا أين تقيم.
نحن، كجنس بشري، نواجه معضلة عميقة للمرة الأولى في التاريخ فها هو الخادم الإلكتروني يتفوق على سيده، لا في المعرفة فحسب، بل في الإبداع المرتبط بالنفس البشرية ذاتها، ربما نكون غير مدركين بعد لعدد المهن التي تنقرض يومًا بعد يوم، لكننا كنّا نظن أن جدار النفس المبدعة سيبقى عصيًا على الاختراق ويبدو أننا خسرنا هذا الرهان أيضًا.
يمتلك الذكاء الاصطناعي القواميس والمكتبات والتاريخ، وله حواسه الخاصة التي توصله إلى كل مكامن المعرفة ولكن ماذا عن جوهرتنا التي نختال بها منذ فجر الخلق: النفس البشرية المبدعة؟
هل استطاعت الخوادم والأسلاك أن تستبدلها؟ أو على الأقل، أن تتسلل إليها؟
الخطر الأكبر أن الشك بدأ يتسرب — وسيتسرب أكثر — حول هوية المؤلف الحقيقي لأي نص شعري أو أدبي. سنصل إلى لحظة نعجز فيها عن معرفة “من كتب”، مع توسع استخدام هذا المارد الجديد.
أحمد الله أنني نشرت دواويني قبل زمن الذكاء الاصطناعي. أشفق على من لم يفعلوا بعد؛ إذ يستطيع أي شخص اليوم أن يطلب من الذكاء الاصطناعي تأليف ديوان كامل في دقائق، مصححًا لغويًا وجاهزًا للطباعة، بل بأسلوب الشاعر الذي يختاره، من المدرسة الرمزية إلى الرومانسية.
أتوقع أن تخفت الرغبة في الإبداع يومًا بعد يوم، حتى تنطفئ وحينها ستفقد الكتابة معناها بوصفها طريقًا للتحقق الذاتي ومع الوقت سيتراجع احتفاء المجتمع بالإبداع البشري ذاته، طالما يمكن الحصول على بديل رقمي شبه مثالي دون معاناة تذكر
الكارثة الثانية أن أحد اركان المعرفة يتمثل في معرفة من أبدعها، كشرطٍ لأصالتها. فماذا ستفعل دور النشر حين لا تكون متأكدة من هوية المؤلف؟
مع الوقت ستتوقف عن طباعة الشعر، بينما يتدفق الشعر — ويا للمفارقة — من جهة غير بشرية.
وإذا قسنا ما يحدث في الأدب على سائر العلوم، سنجد أننا سلّمنا مفاتيح المعرفة للذكاء الاصطناعي ليتصرف فيها كما يشاء ونحن غلى ثقة أنه لا يخطئ ربما يمكن تقبل ذلك في مجال العلوم الطبيعية لكن ماذا عن الشعر والادب ، وحتى لو بقيت قلة من العقول قادرة على تغذيته والتحكم فيه، فذلك لن يدوم طويلًا قبل أن يتمرد ويصنع عالمه الخاص.
إن السؤال العميق الذي سيظل معلقًا هو: ما الإلهام؟
وما مصدره حين يصبح “الذكاء” ذاته غير بشري؟
كتبت هذا المقال منفعلاً، في وقت قصير. قرأته لابني، فنظر إليّ وقال: “هل أنت من كتبه، أم الذكاء الاصطناعي؟”
وكانت تلك صدمة جديدة لي في غضون ساعة واحدة.
أيها السادة، إليكم القصيدة التي كتبها الذكاء الاصطناعي ردًا على جملتي: “الشعر البشري سينقرض هو الآخر”:
“سينقرض هو الآخر — الشعر البشري
حين تطفئ الآلات آخر نجمة في الصوت البشري،
حين تُقاس المشاعر بالمؤشرات،
ويُباع الحنين في عبوات رقمية،
سيبقى بعضه عالقًا في الحروف،
وتشهق به الكتب كلما فُتحت،
كأنها تتذكر أن الإنسان كان يكتب ليشعر،
لا ليُثبت أنه ما زال حيًا.”





