انطباعات نقدية حول ديوان: (تصطادُ الشياطين) لـ “سمير درويش”

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د.أحمد علوانى

لمحة حسابية:

هذا الديوان عبارة عن مجموعة من الإرهاصات الشعرية أو التجارب الوجدانية التى جاءت فى شكل متتابعة رقمية تصاعدية -من حيث التدرج الرقمي- حيث تبدأ برقم (1) وتنتهي عند الرقم (60)، فلا تقع أعيننا على عناوين للقصائد الشعرية ولكن نبدأ رحلة القراءة من المحطة رقم (1) ثم (2) فـ(3).. وكل رقم بمثابة محطة يتوقف فيها القارئ قليلًا لتبدأ القاطرة الشعرية فى التحرك منتقلة بالقارئ من مرحلة وجدانية أو حالة شعورية من حالات الشاعر، وقد حرص الشاعر على توثيق قصائده الرقمية أو تجاربه الشعرية توثيقًا تاريخيًّا دقيقًا يبدأ باليوم ثم الشهر والسنة.

ومن الملحوظ أيضًا أن الترتيب الزمني للكتابة هو ترتيب تصاعدي بدأ فى 8/ 3/ 2009 وانتهى فى 16/ 5/ 2011، وهى الإرهاصة الشعرية الختامية التى أخذت رقم (60) وكتبت على فترتين زمنيتين بدأت فى 18/ 4/ 2011 وانتهت فى 16/ 5/ 2011، أي أنها استغرقت (28) يومًا فى كتابتها وذلك عكس كل الإرهاصات السابقة عليها والتي كتبها الشاعر فى يوم واحد ووثقها بتاريخ هذا اليوم.

وإذا واصلنا لعبة الأرقام الحسابية سنتوصل بعد عملية الطرح الحسابية إلى أن الشاعر كتب ديوانه فى عامين وشهرين ويومين، ولعل هذه النتيجة الحسابية تتعارض مع حساب الشاعر المكتوب على صفحة الإهداء: (إلى: سهيل وسيف.. تهت عامًا.. أبحث عن ديوانٍ جديد.. هذا هو.. وهذا أنا!). فمن الواضح أن نص الإهداء السابق يحدد المدة التى استغرقها الشاعر حتى انتهى من إخراج ديوانه، وهى عام، ولعله يقصد عام 2009 الذي شغل نفسه بهذا الديوان وكثف عمله ليكتب (39) قصيدة، فكان هذا العام يمتاز بغزارة الإنتاج الشعري(*).

دلالة العنوان:

إن كل هذه الإرهاصات الشعرية الرقمية وضعت بين دفتي ديوان أخذ عنوانًا لافتًا للنظر هو: (تصطادُ الشياطين) وواضح أن الصياغة اللغوية للعنوان عبارة عن جملة فعلية مكونة من: (فعل + فاعل محذوف تقديره هي + مفعول به). ولعل هذا يدفع بنا إلى التساؤل: ما دام أن الفعل المضارع (تصطادُ) يؤشر على المؤنث -إذن- فمن هي الفاعلة التى تقوم بفعل الاصطياد؟! وكيف ستتمكن من اصطياد ما لا يُرى حقيقة وهم الشياطين/المفعول به؟

(تصطادُ الشياطين) هذا هو العنوان الذي وضعه “سمير درويش” لديوانه الأخير، وإذا كان الجواب يُقرأ من عنوانه فإن هذا الديوان لن نتوصل إلى فحواه ومضمونه من العنوان، لأن الشاعر يضع عنوانًا مثيرًا للجدل.

ويمكن تحليل مدلول هذا العنوان فى ظل استحضار تراثنا العربى وحكاياته عن شياطين الشعراء، وأن لكل شاعر شيطانه الذي يلازمه، بل ويساعده على نظم شعره، حيث يقف الشيطان مقام القرين الذي يُلهم الشاعر ويملى عليه. هذا هو المعروف تراثيًّا، وهنا يضع “سمير درويش” صائدة تصطاد شياطين الشعراء، ولكن من هي هذه الصائدة وما هي وسيلتها أو أداتها أو طُعمها الذي يمكنها من عملية الصيد؟

إن الصائدة هي أنثى لا يفصح عن اسمها، ولكن المؤكد أنها توظف جسدها الذي يقف بمثابة الطعم الذي يساعد فى نجاح الاصطياد، ولقد ألمح الشاعر إليها منذ البدء قبل أن يُصرح بأمرها فى آخر قصائد الديوان، ففي الإرهاصة الشعرية رقم (1) يقول:

“.. رفيقتي هناكْ

..

تتحكم فى المسافة بين جسدها المشتاق..”(1).

لقد وصفها برفيقته التى تمتلك جسدًا مشتاقًا، سيتعلق به الشاعر، وسيلح عليها كثيرًا، فهو عاشقٌ لهذا الجسد، فيلخص علاقته بمعشوقته أو رفيقته فيقول:

“لست سوى طالب متعةٍ

وليست سوى جسد!”(2).

 كما يصف الشاعر معشوقته بأنها تنصب شباكها المغوية عندما توظف جسدها لاصطياد الشياطين وذلك كما ورد فى القصيدة الختامية رقم (60) حيث يقول الشاعر:

“تأخذُ الشعراءَ إلى سريرها؛

شاعرًا إثر شاعرٍ، لتصطاد شياطينهُمْ

تكشف الحجاب عن ساقين منحوتتين،

تشحنُ صوتها بدلال أنثوي كإشارة للهجوم،

وحين يغمرُ الملاءةُ عرقٌ، وماءُ حياةٍ،

تقولُ بدربةٍ: “أين كنتَ منذ زمنْ؟””(3).

ويلح الشاعر على تكرار دوال البهجة والمتعة والعشق والاشتياق، وكل هذه الدوال ترتبط بالجسد، حيث تعكس المتعة الحسية أو النشوة الناتجة عن التصاق الذات الشاعرة بالجسد الملهم للإبداع، ولذا سيلاحظ المتلقى أن الديوان يكتنز بأجزاء الجسد أو بأعضائه المغوية، والتى يتولد عنها رغبة واشتهاء واشتياق ومتعة وبهجة مثل: (الرموش- الشفتان الشبقتان- الكف- مسام الجلد- الثدى- الخد الناعم- الصدر الطرى- العينان- البطن- الأسنان- الفم- ماء الشفتين/ الريق).

ولا يقتصر الشاعر على ترديد مثل هذه الدوال المكونة لهذا الجسد الأنثوي، ولكن يخلع عليه بعض الأوصاف أو الصفات التى تتلازم معه أو ترتبط به، وهى صفات أنثوية محبوبة فى الجسد فتقرأ على سبيل المثال: (جسدك كسمكة- جسد روماني- جسدك اللعوب- جسدها المرمرى- جسدها الفرعوني..).

إذن فمن الواضح أن الجسد الأنثوي هو المهيمن أو المسيطر على الديوان، تنعكس هذه الهيمنة منذ قراءة العنوان، وتزداد كلما تقدمنا فى القراءة الداخلية، ويكتب لهذا الجسد الانتصار فى القصيدة الختامية.

التناص:

التناص مع النص القرآني من الملامح البارزة فى الديوان، فالديوان مسكونٌ أو متأثر فى صياغته بالنص القرآني فتقرأ فى الديوان: (اجتثت بهجتي من فوق الأرض)(4). وهنا لا شك أنه سيحضر إلى ذهنك قوله تعالى: “وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ”(5).

ويتجلى التناص أيضًا فى ذكر الشاعر قصة خلق حواء لآدم من ضلعه الأيسر ثم خروجهما من الجنة، وقد أتى ذلك فى المقطوعة الشعرية رقم (25) فالقارئ لها يلحظ مناجاة ونداء بين الشاعر والخالق:

“أنتَ خلقْتَهَا جميلةً يا الله

اقتطعتها من ضلعه فانهزم

وبات ينشد كمالهُ فى اللجوءِ إليها!

أنت منحتها رهافةً

كخرير ماء يحتضن الصخور فى اندفاعه

نحتها فراشةً يا الله

وخلقتهُ ناقصًا

تهفو روحُهُ إلى الفراشات”(6).

شاعرية الألوان:

يركز الشاعر على تلوين الصورة الشعرية عندما يوظف الألوان وما تعكسه من دلالات فنية، فالألوان حاضرة فى الديوان بشكل طاغ، تجد (الأصفر، الرمادي، الأسود، الأبيض، البني المحروق، الأخضر، الوردي، السماوي، البرتقالي).

يظهر تأثير الألوان فى الديوان منذ البدء، حيث يظهر الأصفر المترب الذي يلون الناس، ويعكس مدى المعاناة والكآبة حين يصف أفواج التراب الخارجة من محبسها لترى نور الشمس الأصفر، فيختلط المترب بالأصفر، وبذلك يرسم الشاعر صورة تعكس الذبول والجفاف والضعف لأن الأصفر المترب يجسد الألم والعلة والشحوب والمرض المرتبط بهذه الأفواج الخارجة لتوها من القمقم الذي يرمز إلى المحبس.

يُكثر الشاعر أيضًا من ترديد اللون البرتقالي، ومعروف أنه مزيج من الأحمر والأصفر، وقد وظفه الشاعر ليعكس من خلاله مظاهر جسدية تمتزج بالعواطف الحسية تجاه رفيقته، فالبرتقالي هو اللون الأثير لديها، فهو لون الأثاث والمطبخ والألعاب والملابس والأشياء الخاصة بها، بل إن أنوثتها ترتبط بالبرتقالي وما يعكسه من بهجة جنسية ومتع حسية جاذبة.

ويرتبط توظيف الألوان فى الديوان بالجو النفسي، فالألوان المرتبطة بالرفيقة أو المعشوقة هي ألوان صافية، يبتعد فيها الشاعر عن الإتيان بالألوان الكابية، فهي ترتدي فستانًا بورود بيضاء، وتارة ترتدي فستانها السماوي، والوردي هو لون شفتيها، كما أن مكتبها أبيض، وسيارتها حمراء، وأيضًا هو يهديها وردة حمراء، ويكثف عند وصفها من اللون البرتقالي المحبب إليه وإليها، فيرد فى الديوان دلالات لونية برتقالية مثل: (اللون البرتقالي ونثار الأنوثة، يطغى البرتقالي عليها، مطبخها البرتقالي، عرائسها البرتقالية، بردائها البرتقالي، الأثاث بين البرتقالي والأخضر، بلوزة برتقالية).

توظيف الأغنية:

الشاعر متأثر بالأنماط الثقافية المحيطة به، ومن أبرزها الأغاني، فتأخذ بعض المقاطع الغنائية طريقها إلي الديوان، حيث يختار ما يروق له فيضمِّن صوت أم كلثوم:

(ومهما شفت جمال..

وزار خيالي خيال..

إنت اللى شاغل البال..

إنت)(7).

وأيضًا صوت فيروز: “أنا لحبيبي”(8).

ولعل تضمين مثل هذه المقاطع الغنائية يتلاحم أو يتواكب مع نفس الشاعر، وعلى حد تعبير د.أحمد مستجير: “إن شتَّى صور التعبير بالصوت تُشفى: الغناء، الصفير، الترتيل، الدَّنْدَنَة، الهَمْهَمَة، إلقاء الشِّعْر، الكلام، بل وحتى قولك آآآآآآه”(9).

على هذا النحو تكون الأغنية بمثابة التجربة الشعرية التي تمر بها الشخصية، بحيث يصبح المقطع الغنائي مجسدًا أو معبرًا عن الحالة التي تعاني منها الشخصية.

تماهى السردي بالشعري:

يمكن قراءة خطاب سردي شعري في معظم قصائده، وذلك عندما نلاحظ تحول القصيدة إلى قصة شعرية، حيث يتداخل السردي بالشعري، ويتغلب السردي على الشعري، وتتحول القصيدة الشعرية إلى أقصوصة سردية تتآزر داخلها عناصر القص من زمان ومكان وحدث وشخصيات(*). وعلى سبيل الاستدلال تقرأ مثلًا فى رقم (40):

“تتجولُ البنتُ برفقتي فى قريتنا

محتمية من البرد بسترة جلدية سوداء

وبلوزة برتقالية جلبناها معًا

من الإسكندرية

على البحر الآسر.

البنتُ الجميلةُ اكتشفت أنني أتوه

كغريب.. فى حارات قريتنا

أنني خجلٌ من البائسين

الذين يجوبون الطرقات ومدقات الحقول.

بينما هي واقعةٌ فى غرام مهرٍ

يجرُّ عربة صفيح

وأشجار جرداء

وأطفال لا تبرح عيونهم

نظراتٌ داهشة!”(10).

من الواضح أن المقطع السابق يشتمل على معظم مقومات السرد القصصي، فثمة حدث يتمثل فى زيارة القرية، وثمة شخصيات تتمثل فى (الشاعر أو الراوي المشارك فى الأحداث، البنت الجميلة، البائسون من أهل القرية، الأطفال)، وثمة وصف، وثمة تشكلات للأشياء من ملابس، وحقول وعربة وأشجار، وثمة فضاء للسرد هو القرية، وثمة زمان مذكور ضمنًا فى وصف ملابس البنت التى تحتمي فيها من البرد، وهذا يجعلنا نستنتج أن الزيارة كانت شتاءً.

هكذا يتجاور السردي مع الشعري فيمتزجان ويتداخلان، وكأن رغبة البوح عما يدور في نفس الشاعر دفع به نحو صياغة مادة شعرية سردية/ سردية شعرية يمكن للقارئ أن يتلقاها ويتفاعل معها.

 

——

الهوامش:

* كتب الشاعر فى عام 2009 (39) قصيدة، وفى عام: 2010 كتب (19) قصيدة، وكتب فى عام: 2010 (2) قصيدة، وبذلك يصل المجموع إلى (60) قصيدة هي مجموع قصائد الديوان.

1- سمير درويش: تصطادُ الشياطين، دار شرقيات، القاهرة، ط1، 2011، ص7.

2- الديوان: ص53.

3- الديوان: ص85.

4- الديوان: ص27.

5- سورة إبراهيم، الآية: 26.

6- الديوان: ص33.

7- الديوان: ص60.

8- الديوان: ص64.

9- د. أحمد مستجير: بيولوجيا الخوف، الجزء الثانى، مكتبة الأسرة، 2010، ص165.

* راجع دراستنا عن الشاعرة وفاء وجدى وغواية السرد فى ديوان: ماذا تعنى الغربة؟ الدراسة منشورة ضمن أعمال المؤتمر العلمي السادس الذي نظمته الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقليوبية تحت عنوان: “ملامح التجديد فى شعر وفاء وجدي”.

10- الديوان: ص48.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم