انطباعات حول “نسيج يستيقط”

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 82
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

جابر طاحون

   في حديث (أرشيبالد مكليش ) عن الشعر و التجربة ، يُعرف الشعر أنه: العلاقة بين الإنسان و العالم . الشعر شيء يتنقل بطريقة ما بين الإنسان و العالم  أو يكون جسرًا بين الإنسان و العالم .
السعي وراء الشعر يبدأ بافتراض وجود شيء اسمه الشعر و من ثم يُسعي لاستكشافه . الشعر يجب أن يبدأ إجمالًا حيث يأمل أن ينتهي أي بتقرير عن هذا المسعي .
بهذا المعني يتحول الشعر إلي سلاح للمقاومة بصورة ما ، أو بنص تعبير روبرت خوارثو : “
 إذا كنت أكتب، فلأنني ببساط أحب الحياة ” وهذا التعبير يقود  إلي أن الخيال يقودك لأن تكون حالمًا ، الخيال كما أدرك رامبو يمكن أن يصير خطرًا كونه قادرًا علي أن يقودنا بعيدًا عن العالم الإنساني الواقعي  و تنتج الشعرية من العودة إلي الذات /الواقع . تناقض عالم الفن / الخيال يعطي القصيدة هيئة و شكلًا . العودة إلي الذات لا تكون حينها عودة إخفاق و انكسار ، بل عودة ذاك الذي يظهر الواقع فنًا: القصيدة .
يقول ( كيتس ) في أحد رسائله: ” إنني لست متأكدًا من شيء إلا من قدسية العواطف و صدق الخيال ، فما يعتبره الخيال جمالًا يجب أن يكون الحقيقة . ”

   تنتج شعرية غادة خليفة من التناغم بواسطة الشعري والتشكيلي، بكيفية تجعل منهما معا كائنا إبداعيا واحدا يخدم جوهر الإبداع كيفما كانت أدوات التعبير التي يعتمدها. ولا يتسنى ذلك إلا بإلغاء جميع أنواع التواطؤ التي تحكم، في مثل هذه الحالات، الشاعر والفنان التشكيلي على السواء. تحقيق الاندماج بين الشعري والتشكيلي بما يجعل منهما نصا واحدا، وبهذا تصبح ” القصيدة منخرطة بجسدها في الحقل البصري، وبكيفية تجعل النص المرسوم فضاء مزدوجا وغنيا بالشاعرية”
السؤال الشعري في إطار الحياة اليومية و العادي ، المفردات الممزقة  وأشكال العزلة ، الذاكرة من التفريغ إلي الملء ومن الشيء إلي اللاشيء ، القوة التي تدعيها / قوة السيطرة على المألوف ، السعي نحو الشعور بالسعادة دون الإحساس بالجريمة والرغبة في اختزال المسافات و طيها .  

تبدأ غادة نسيجها من ” الحكاية التي لا تنتهي داخل رأسها” و الذاكرة التي تتشكل ـ هي ـ ضمنها و الثقوب التي تصيبها .
الخيالات تتحول إلي أشباح تمشي في اتجاهها ، هاجس البحث الدائم ، الترقب المستمر المتواصل ، انكسارات الزمن المتفاعل مع الحياة المصطرعة بالدمار و الرمادية . عوالم الأحلام الضائعة والإمساك بذكريات طفولية هاربة ، كإشارة لخطوط سفرها الداخلي مع ألعاب منسية وخرائط المشي داخل طبق مكسور، ما هو ليس لها و لا لأحد .

تتقاطع غادة مع سيلفيا بلاث التي ” الموت فن ككل شيء آخر تتقنه بشكل استثنائي.” كتبت سيلفيا بلاث في قصيدة لها اسمها ( ثلاث نساء ) : ” إني متوحدة كالعشب / ما هذا الذي افتقده / هل اعثر عليه يومًا . أيًا يكن ”
المشاعر تارة تبدو كمادة وثائقية و تارة أخري مناخات جديدة تؤجج في مشاهدها الذكريات و الاحتفاء بالتفاصيل . التوحد و البحث الدائم تحول إلي مرثية طويلة ، حيث إعادة تركيبة الأب الذي لم تعرفه . الذي أصبح غيابه رمزًا لغياب الحياة نفسها و حتمية لا مفر منها ” لو كانت تغرف أنها الأخير كانت ستحضنه علي الأقل ” لكن البكاء لن يعيد ترتيب الخطوات .
غادة ليست مثلك سيلفيا . تيد هيوز أغواها بشعره ، ذهبت لكنها لم تتزوجه ، اختارت أن تكتب و لم تترك نفسها للحب. ليست ” منهكة بأعمال المنزل و لا مجبرةً علي العمل ” لكنها مع ذلك تفكر في الانتحار مثلك . هي ليست ميج رايان في ” french kiss  “ كي تقرر أن تعيش مع اللص ، هي أقل شجاعة منها . كيف تثق أنه لا يخدعها ؟ كيف تستطيع تقديمه لعائلتها ؟ لا أحد يكلمها سيلفيا .

الموت حاضر بقوة ، الزمان يستعرض تدفقاته اللانهائية حين تربح شيء ، تخسر الواقع . الأشياء ا لتي اقترفتها و ” جسدها المغلول إلي عقل قديم ” الأصوات المتصادمة بين ثنائية الواع و الخيالي ، استذكار المنسي و العرضي . تورطها في شيء من التوضيح من أجل أن تعلن عن وجودها بعد أن أصبحت مفقودة .
تجلس علي الرصيف ، ركبتها تحتك بالأسفلت و ترتجف . تسعي لإعادة ترتيب العالم . تبحث عن لغة بسيطة تختزل بها العالم / عالمها. تنظر لنفسها ، تحاول فك شفرتها ، تارة تقدم علي أفعالًا ، تارة تتراجع و تندم .
من نافذة المطبخ نسأل ” لماذا خلقني الله هكذا / بكل هذه المشاعر التي تتدفق ” في تقاطع مع قصيدة ( فروغ فرخزاد )” بين يدي الله ” “أنتَ وحدك المدرك وأنت تعرف /أسرار تلك الخطيئة الأولى/أنت وحدك القادر على أن تمنح/روحي ذلك الصفاء الأول/آه … رباه … ماذا أقول/إنني متعبة معذبة من جسدي هذا/أقف كل ليلة على أعتاب عظمتك /في انتظار جسد آخر.

   تحاول غادة البحث عن ديناميتها الخاصة  بالتفتيش عن الكتابة و انتاج واقع جديد وفق شروطها الخاصة و ” تبتسم كلما كتبت سطرين ” 
دون محاولات فرض تيمات جديدة و احياء / انعاش بيئة شعرية ، توضح معني و اتجاه الصورة و تحول الحياة الواقعية لاستعارة :” بعدما أنتهي من كي ملابسي ، سأذهب إلي أبي و أهشم رأسه بالمكواة الساخنة / بعدها سأضعه مع بقية العائلة  علي النار ، داخل إناء جدتي النحاسي الضخم / سأقوم بسلقهم جميعًا ، قبل أن أطبخ الأرز بشوربة العائلة / سآكلهم ببطء / كي تنتقل إلي محبتهم التي يقسمون علي وجودها / و لم أشعر بها أبدًا .”

   وجه الخجل من البوح بمشاعرها  وعواطفها الخاصة و منحي السرية ، الافتقاد العميق للدفء و الأمان و البحث عن اليقين المطلق ليكون مرادف للذات  : ” أتكلم معي بصوت عالٍ _ أو أخبر العفريت ألذي أرسلته كي يتلصص علي بالتناقض الصارخ الذي يحولني إلي قطعة من غزل البنات ، مواتير أفكار تحول مشاعري إلي سحابة ضخمة و مخيفة  . / أجرب صوتك و أرد علي ، أعتذر ثم أصرخ ، و ال شيء يُعجبني … صار لي صوتي وحي / الآن أحكي لنفسي ، كيف عدت من منتصف البحر مرات كثيرة / دون صيد أو غرق ” 
باب الحيا ة و الحاجة إلى سفر مفتوح على الفضاء الشاسع، في الزمن الممتد في التفاصيل الصغيرة  ” آخر قشرة تسقط / أواجه موتًا لا أرغب باكتماله ، كل شيء يحدث ضد إرادتي  … حليب الخيال يشبعني / سأخرج من هناك باسم جديد و نسيان . “

غادة خائفة  من كل شيء معها و فيها ، الحقيقة و الانفصال عنها ، الحقيقة و العودة إليها ” الفرح ينقلب لوجع ، و الموتي يتساقطون علي الشاشة ” . هذه الوديعة التي يرونها داخل عينيها تئن و تسأل عن باب عليها أن تفتحه ” تراقب الفجر و تربت علي نفسها أنها ستعيش . هي علي أطراف العالم بعيدة جدًا عن أحلامها ، التغيير نفقًا مجهولًا تنتظر الضوء في نهايته .

 غادة تضم السَّدَى إِلى اللُّحْمة ، تصنع من حزنها الجميل و جمالها الحزين ، نسيجًا يستيقظ لأجل كل ما كانت تبحث عنه طوال حياتها.

المجموعة الشعرية هذه الصادرة عن الهيئة العامة للكتاب ، هي الثالثة لغادة خليفة ، بعد ” تسكب جمالها دون طائل ” و ” تقفز من سحابة لأخرى ” .

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم