اليوم الأخير

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

طاهر عبدالرحمن

خرج الباشا من قصره متوجها ناحية المسجد ولكنه لم يصل أبدا.

كان فى آخر أيامه، شعر هو بذلك قبل أن يسمعه من الأطباء،أدرك أنه لن يعيش بعد تحطم أحلامه،تمنى كثيرا أن يمتلك زمام القوة من جديد ليؤدب كل الخونة والمتآمرين،لكن ما باليد حيلة.فى السياسة والحرب من يخسر مرة يخسر للأبد، انتهت الأساطير لأنها لا تتحقق.

عزل نفسه بنفسه عن الناس، واعتكف طول الليل والنهار لايفعل شيئا سوى تدخين النرجيلة،ومع أنه يحطمها كل ليلة وكل صباح إلا أنه يعود ويطلبها من جديد ويواصل التدخين.

عرف من جواسيسه وخدمه ماتقوله العامة عنه: “لقد جن الوالى بعدما فقد مملكته وأحلامه، وذاد جنونه بموت الابن الأثير عنده”. ضحك مع نفسه كثيرا، فكيف له أن يجن أو تصيبه لوثة عقلية وهو من هو؟.هم مرات ومرات أن يجمع الوزراء والعلماء والمشايخ ليعرض عليهم خططه لتعويض ما خسره، وليثبت لهم أنه لايزال كما عرفوه منذ أربعين سنة،لكنه فى كل مرة يتراجع،ولايفعل شيئا سوى الجلوس مع نرجيلته.

سؤاله الدائم المتكرر :هل كانت أحلامه أكبر من طاقته،أم من طاقة من اعتمد عليهم؟، هل كان يبحث عن مجد شخصى أم مجد أمة بأكملها؟هل إعتماده على الحلفاء من الشاطئ الأخر للبحر كان سليما أم أنه لو وثق أكبر فى “الفلاح” لكانت الأمور جرت بعكس ماجرت به؟لا أحد يستطيع الإجابة،لأنه هو فقط من يستطيع،ولكنه لم يعد قادرا على شئ كما كان يفعل منذ نصف قرن مضى.

فى ذلك الصباح – وبعد ليلة طويلة من الغضب ودخان النرجيلة -قرر أن يذهب ليرى المقبرة التى أمر ببنائها لنفسه داخل المسجد الكبير فى قمة قلعة الجبل،حاول الأغوات مساعدته ليصل لباب المسجد،لكنه “برطم” بكلام فاحش وشتائم بذيئة فتركوه،وظلوا خلفه يتابعونه بدهشة وقلق.

جاهد الوالى وتحمل التعب والإرهاق ليصل لمكان المقبرة.وقف للحظات ونظر عن يساره،هناك بالضبط حيث فر المملوك الوحيد الذى نجا من المذبحة الشهيرة،حاول أن يتذكر إسمه أو حتى رسمه ولكنه فشل،رفع يده اليمين لمستوى بصره الواهن ورأى دماء تسيل منها،من أعلى الكتف حتى تتسرب من بين أصابعه شلالا،نظر إلى الأفق فوجده قانيا بلون الدم أيضا،لم يشعر بالندم على مافعله،ولو عاد الزمن لكرر مافعله،بل وبنفس الحزم والرغبة.

التفت للوراء ورأى كثيرين يتابعونه بعيون دامعة صامتة،إبتسم وأدرك أنه لن يصل للمسجد….

 

 

مقالات من نفس القسم