“الواقعية القذرة”، تلك العشيقة السرية

art
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

رمضان جمعة

سيظل هذا النوع من الكتابة، دائمًا، مثل عشيقة سرية، تلك العشيقة التي تكون من طبقة اجتماعية أقل من طبقتك كثيرًا، للدرجة التي تجعلك تدرك أنها لن تصلح يومًا زوجة شرعية. ستظل تخبئ تلك الرواية، تداريها عن أعين أسرتك، وأصدقائك، إلا أقربهم. سواء كنت كاتبها أو قارئها. تلك قسمتها وقسمتك. ستظل عشيقة سرية.

هي، تنفخ في روحك سعادة خفية، متعة خاصة لن تجدها إلا في حضن “بنت اللذين” هذه. وهي، أحبتك لما فيك من اختلاف عن كل رجال طبقتها، مثقف، وأمامك من النساء من هن أفضل بكثير منها، اللواتي لا ينظفن أجسادهن بحلاوة رخيصة، يشترونها من أي صبانة، بل يذهبن إلى مراكز الليزر ومراكز العناية بالبشرة والجسد.  أما هي، تستحم بليف خشن، وصابونة “دوش”. تسرح شعرها بزيت رخيص، تشتري الثلاثة منه بسعر عبوة واحدة، بعد صلاة الجمعة من بائع جائل بأحد الأسواق، ورغم هذه البساطة، التي قد تقرف بعض النساء من مجرد تخيل المشهد فقط، إلا أنها سوف تخرج من حمامها البلدي، في غاية الجاذبية، والجمال.

أنت حولك النساء، تعمل حمام مغربي، وتستخدم البادي سبلاش، والزيوت العطرية الغالية. تكوي شعرها، وتصففه بأغلى الكوافيرهات. معك “مارلين مونرو” لكن النفس تميل أحيانًا إلى “هند رستم”.

أحيانًا لا يروق لي تسمية هذه الكتابة بالواقعية القذرة. هي ليست قذرة، هي غاية في الجمال، كل ما في الأمر أنها تفضح القذارة التي في داخلنا، أقل هذه القذارة مثلًا: نظرة إنسان لآخر نظرة دونية، فقط لتغير الظروف والأماكن والثقافات. هي فقط معرية للقذارة في داخلنا. ربما لهذا، أفضل من كتبوها جيدًا، كانت دواخلهم مفعمة بإنسانية نظيفة. ليستطيع اكتشاف أكثر الأشياء قذارة.

أفكر، ماذا يمكن أن أسميها؟! فأقول لنفسي: “شوف! نسميها روقا*”.

“روقا”، الساحرة، التي تجعلني دائمًا، أبحث عنها، بشغف لا مثيل له، دائمًا أسألها: “اشمعنى أنتِ؟!”، وفي أثناء بحثي في سور الأزبكية، وسؤالي المجنون لكل أصدقائي، كل يوم تقريبًا، عن رواية “روقية” حلوة، يتردد في أذني صوت عبد الحليم حافظ وهو يغني وكأنه يوجه كلامه لي: “ستفتش عنها يا ولدي.. يا ولدي.. في كل مكان

وستسأل عنها موج البحر وتسأل فيروز الشطآن”.

نعم، هي هكذا. إدماني الذي لن أقلع عنه ما حييت يا “روقا”.

ولكني رغم هذا، أؤمن أن “روقا” هي التي تختار، إياك تفكر أنك تبعد عنها وتتلافاها باختيارك، لو هذا ظنك فأنت غلبان يا ولدي. روقا هي التي تختار عشيقها الذي… “يكتبها”. كل ما في الأمر، أنك لمست حتة عميقة في أنوثتها؛ جعلتها تشعر أن هناك رجل يفوقها، أو بدقة: رجل رأت أنه يستحق أن يفوقها، يستأهل طاعتها له. نعم، هي بهذه الغرابة. تترك “روقا” كل الرجال الذين يجرون وراءها؛ ليس هذا ما تبحث عنه. ستتركهم وتختار رجلًا آخر، ربما لم يكن يبحث عن مثلها أصلًا، وأحيانًا لا يشبهها، تلك هي المفارقة، وتلك هي اللعبة التي تحب “روقا” لعبها.

لكن! ماذا لو حاولت أن تجعل “روقا” هذه، نسخة من “نانسي” أو “لارا”؟!

تخيل أنك أخذت “روقا” ذات يوم، إلى مركز ليزر، ثم إلى مركز عناية بالبشرة، ثم إلى أشهر كوافير في البلد؟! وجعلت “روقا” واحدة ممن تراهن حولك كل ساعة؟!

ستفقد سحرها الذي يقلب كيانك. ستفقد جاذبيتها، هي هكذا، لا تحاول تغيير “روقا” إلى واحدة أخرى؛ ستفقد جمالها الحقيقي الذي جذبك إليها أصلًا. دعها تتجمل بطريقتها، اتركها تستخدم زيت الشعر الرخيص، الصابونة “اللوكس”، التي تستخدمها لك مخصوص، الكولونيا ذات الرائحة الفاقعة. اتركها وحريتها، وأعدك أنها سوف تمنحك متعة خاصة بها، لن تجدها مع سواها.

“روقا”، رغم رغبتها في أن تشعر بأنوثتها مع رجل، تشعر أنه بالفعل يفوقها، رجل يستحق أن تمنحه كل هذه الأنوثة. لن تقبل أن تكون واحدة من غير طبقتها، لن تكون مبسوطة في هذا الإطار. لذلك، تقبلها كما هي، استمتع فقط، دعها تظل على حالها.  وتقبل أنها ستفرض عليك عالمها، أو ارحل عنها، قبل أن تُطفشك هي، وتبحث عن رجل غيرك، يتقبلها، بكل هذا العبل، يترك لها نفسه، لتمنحه لذة سحرية، وحدها التي تملكها.

لهذا النوع من الكتابة، خصوصيته، لا تحاول فرض أسلوبك عليه، لا تغير في لغته إلى لغتك، ولا في أخلاقه إلى أخلاقك، ولا تحاول تجميل عالمها. إذا نادتك هذه الملعونة، استجب، وامشِ معها، وشُف أين ستأخذك! هي كتابة تفرض أسلوبها، ولغتها، وعالمها، وشخصياتها، تفرض كل أدواتها، ولا تقبل إلا أن تحترم كل سماتها. سواء كنت قارئًا أو كاتبًا.

إذا حاول الكاتب التدخل فيما يخصها، ستعاقبه، ولن تترك نفسها له ليستمتع بها، وفي النهاية ستفاجئه بوجودها في أحضان غيره. وإذا حاول القارئ الحكم الأخلاقي عليها، ستعاقبه بأن تحرمه من جنتها. ستقول له: “روح يا أخويا خليك في الملزقة أم شعر مسبسب، السحلية بتاعتك دي، وابقى تعالى تف عليا لو لقيت معاها ربع اللي معايا يا عينيا”.

الواقعية القذرة -روقا كما اتفقنا- هي كتابة متمردة بطبعها، فلا تتمرد عليها أنت، وإن حاولت؟! تناقش معها أولًا، لو لمست عدم تقبلها تراجع. وتذكر أن نفي النفي إثبات، والسالب دائمًا يطير مع السالب.  وأن المبروم على المبروم، ما يرولش.

……………………

*روقا: شخصية من فيلم العار، جسدتها الفنانة: نورا.

مقالات من نفس القسم