النسيان وحب الحياة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 102
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عبد الحكم سليمان

"كرسيان متقابلان" ديوان لعلاء خالد، وهو عبارة عن قسمين، القسم الأول "جيرة دافئة" ويضم 17 نصاً أما القسم الثاني "سنواتي الجميلة" ويضم 11 نصاً. بشكل عام انصب الاهتمام على موضوعات خارجية في القسم الأول، أما في القسم الثاني فربما كان الاهتمام أكبر بموضوعات ذاتية داخلية. لكن داخلي وخارجي هنا أو هناك هي مسألة نسبة وتناسب فقط، فالشاعر طرف حاضر على مدار الديوان ككل حيث إنه قد اتخذ لنفسه موقعاً ثابتاً تقريباً. من هذا الموقع الثابت أخذ يلاحظ ما يدور حوله على مدى زمني طويل للغاية. وأخذ يصف لنا تأثير هذا الزمن على نفسه وعلى الآخرين. كمؤشر على هذه الملاحظة الطويلة للزمن لا يخلو نص من نصوص الديوان تقريباً من جمل مثل: "طوال عشرتي له"، "كل عدة أعوام"، "أن نظل أصدقاء حتى العقد الخامس"، "عشرون عاماً يفكر"، "لسنوات طويلة"، و"على فترات متباعدة".

خيراً فعل الشاعر عندما اتخذ لنفسه مكاناً ثابتاً، ففي الحقيقة تستدعي مثل تلك الملاحظة الطويلة للزمن توفر مثل هذا الموقع، ولا سيما لو كان ذلك الموقع الثابت ناتجاً عن التواجد الطبيعي مثل مكان الإقامة أو العمل أو كلاهما معاً كما هو الحال هنا. في هذا السياق تواترت في العديد من نصوص الديوان عبارات مثل: “بواب إحدى العمارات المجاورة”، جاري في المحل المجاور”، “مثلي لم يبرح الحي”، “سور واحد يفصل بيننا”، و”وهو يمر أمام المحل”. إذن تدور معظم نصوص الديوان في فلك وصف فعل الزمن وكأننا بصدد غرض رومانسي تقليدي. ولم لا؟ فهي خبرة إنسانية لا يمكن أن تسقط بالتقادم ولكنها وقف على راصد منتبه لديه قدرة عالية على المتابعة الطويلة ليراكم تلك الخبرة الخاصة، طبعاً لكل زمان خبراته ولكل كاتب خصوصيته. بخصوص هذا العمل أرى أننا بصدد ذات رقيقة تغادر مكانها القديم بهدوء باتجاه التواضع إزاء الزمن. فنجد: “كل نقطة كانت موقعة فاصلة”، تتحول الغرف إلى أنقاض من الكلام”، “استشهادات من كل بقعة ساخنة”، و”والشارع هو منزل الفرقاء”. توحي هذه الجمل المأخوذة من مختلف نصوص الديوان بما كان مطروحاً على جدول أعمال ذات مقاتلة من مهام ثقيلة للفهم والقبض النهائي على لب الحياة. تلك الروح نفسها قد انتهت إلى: “نجلس داخل غرف مشابهة بحياه أخرى بعيدة”، الآن لم أعد أميز وحدتي”، و”كم تبقى لي كي أعيش بمفردي”. حيث توحي هذه الجمل هذه المره وكأن بعض المهام قد تم التراجع عنها لصالح التواضع تجاه الزمن والآخرين، ولعل ذلك ما أفسح المجال لهذا التركيز الواضح على البسطاء الموجودين من حوله. فالشاعر لم يذهب إليهم بغرض الكتابة عنهم، لكن حضورهم القوي في الديوان سببه أنه أصبح أكثر تفهماً لضعف الناس وتحايلهم على الزمن، وكأنه يحترم ويتوحد مع خبرتهم على بساطتها، كما تشير جملاً مثل “صار سؤالي محطة لي أيضاً” (في نص عن بواب إحدى العمارات المجاورة)، “ولكنني اكتسبت صديقا” (في نص عن جاره المكوجي)، “وأنا أعد السنوات المتبقية في حياته وحياتي” (في نص عن صديقه سائق التاكسي)، و“وسيكون لكل منا ذكرى ينحني لها” (في نص عن جاره الكمساري).

معظم بسطاء علاء خالد يتقبلون بطش الزمن في تواضع تام، لا يحسبون أفعال الزمن بالمكسب والخسارة حيث أن الحياة لا بد أن تستمر. عاملة المنازل رغم ما يصيب جسدها من تدمير تطلق شعرها المصبوغ. البواب الطيب رغم أنه مهموم بورم مهدد في رأس زوجته إلا أنه لم يتخل عن حبه للماء الجماعي، المكوجي رغم هموم عمله ووفاة زوجته إلا أن دكانه ظل استراحة لكل بسطاء الحي. بائعة العرائس التي هجرت زوجها بعد أسبوع واحد من الزواج لتعيش عنوسة باكية تعود شابة بضفائر محلولة عندما تحكي عن أبيها. هؤلاء البسطاء محبون للحياة وللآخرين بالفطرة. أما النسيان فهو السلاح الآخر المقترح لمواجهة الزمن أي عدم الوقوف أمام عجلة الزمن بالتجاوز والتخطي أو “أن تهيم فوق الذكرى وتكبر معها كأخ حميم“، وإلا فأن الزمن قادر على مغافلة الكثيرين وتركهم فريسة الحيرة والتردد ويكون قدرهم أداءً عبثياً لا طائل من وراءه. مثل تلك التي تعود كل عدة سنوات من أوروبا لتنظر إلي بيتها القديم حيث أنه كتب عليها أن ترحل عن أماكن حميمة وهي بعد صغيرة. أما سائق التاكسي الذى أخفقت كل أحلامه منذ أن مات أبوه وتزوجت أخواته وانقطع حبل الغناء وأفلت حياة حافلة كان في كنفها. وهذا الذي خذلته الامومه وما زال ابناً  يؤدي دوراً حزيناً في الحياة رغم سنواته الستين. أما الكمساري فكان قد ترك التعليم وترهل جسده ترهل المستسلمين. وهذا الأعزب ابن الستين عاماً الذي لم يستطيع أن يتجاوز طقوس شرفة الصباح مع أمه حتى بعد أن ماتت.

بخلاف هذا المدار الرئيسي، تعاطت نصوص أخرى مع حالات إنسانية فريدة تأمل فيها الشاعر من لم تعد لديهم القدرة على إقامة توازن ما لأرواحهم مثل هذا الذي لا يقوى على تحريك أفكاره أبعد من النافذة المغلقة في نص “خطوة معلقة”، أو هذا الذي يعنف بقبضته كل عامود يقابله ليرسم خريطة جديدة للمدينة في نص “صوت منطق للألم”. كذلك من أشرفوا على لحظة النهاية مثل الجدة التي تصفف بيدها خصلة شعرها كما كانت تفعل دائماً في السابق رغم أن النبض سوف يتوقف بعد لحظات. ومريض السرطان الذي يحاول إقناع جسده بأن النهاية ما زالت مفتوحة كونه على وعي بفروقات رهيفة بين أطياف من الألم.

بالتأكيد لا يوجد أي داعي لذكر إننا بصدد قصيدة نثر حيث أن ذلك أصبح طبيعة المشهد الشعري الآن وأظن أن التذكير يصبح مطلوباً فقط إذا كنا بصدد شعر تفعيلة أو ما شابه. أما من ناحية اللغة، فجاءت نصوص هذا الديوان في لغة رشيقة دقيقة المعاني وبسبب هذه الدقة كانت اللغة على درجة عالية من الوظيفية، فهي لغة غير مقصودة في ذاتها تقف عند حدود تلبية الغرض بدون زيادة أو ترهل. في الحقيقة أعتقد أن اللغة هنا كانت على درجة فائقة من الانضباط.

مالت بعض النصوص نحو سردية عالية حتى كادت أن تقترب من منطق القصة وبالذات في نص “جيرة دافئة” الذي يدور حول جاره المكوجي. ولعل هذا ما دفع الشاعر لتطعيم هذا النص بالذات بالعديد من الجمل مثل “لا يتحمل الحب إلا إذا ترك علامة على جلده”، “أي مرارة كانت خدعة”، “يحاول بكلتا يديه أن يسد ثقباً كبيراً تتدافع من خلفه المياه“. في الحقيقة لا أشعر بالراحة التامة تجاه مثل هذه الجمل التي تتعامل مباشرة مع مجال الدلالة وكأن الكاتب يريد أن يذكرنا أننا بصدد الشعر ما زلنا. أعتقد أن هذا الكشف المباشر للدلالة يقلل من الشعرية ويحد من أعماق محتملة للنص، في المقابل لا الإخفاء التام للدلالة ولا الغموض هما المستهدفان. ولكنني أعتقد – مثل آخرين – أن الدلالة تحقق في الشعر الحديث في مستوى أكثر شمولاً يخص النص كاملاً وربما الديوان برمته.

مع أن بناء معظم نصوص الديوان كان بناءً سلساً إلا أن ذلك لم يكن الحال في النص المفاجأة “شارة الأنوثة” إذ يبدو كأن هناك جملاً مقصودة أكثر من جمل أخرى، وكأن هناك أماكن نشطة فى هذا النص وأماكن خاملة، وكأن مقاطع وجمل هذا النص قم تم إعادة توزيعها بقصد التعقيد ومراوغة القارئ. ولكن من المؤكد ان  ذهن كل متلقي سوف يقوم مباشرة بإعادة ترتيب تلك الجمل بطريقة ما، كي تصبح مفهومة. للاسف سوف تتركك تلك الإجراءات بما تتضمنه من احتمالات وأنت غير واثق تماماً فيما وصلت إليه ولكن ليس هناك حل آخر مع مثل هذه النوعية من النصوص: دع الطائرة الورقية تنفلت بعيداً، الألم شارة الأنوثة التي تخيم على النسبة الغالبة من حياتي، كم تبقى لي كي أعيش بمفردي، وأية نسبة جديدة يمكن أن تنال مني مثل الخوف من الفقد. ربما تستقيم مثل هذه المحاولة من إعادة الترتيب والحذف مع منطق الديوان ككل. إنه الزمن هنا أيضاً. كأنه كفيل بكل كل شيىء وحتى المبادئ، فأصبح الالتزام بمبدأ الحب السرمدي والانتماء لآخر موضع شك ، وطالما ان الالام موجوده موجوده،  اذن لماذا كل هذا الخوف من الفقد ،  ليفقد ما يفقد،  فالحياة أوسع كثيراً مما نتخيل .

ــــــــــــــــــــــــ

الديوان: كرسيان متقابلان

الكاتب: علاء خالد

الناشر: دار شرقيات-2006

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم