وجد الناي يوم وجد الحزن في جوى كل إنسان، قصبة قصية على ضفاف وادي مر بها راع متوحد اخترمها ثقبها بعدد ثقوب نفسه ثم انتحى بها مكان قصيا تحت زعرورة جرداء عجفاء وأرسل أول صوت حنين شجي رمادي حين سمع القطيع ذلك الصوت لم يأبه له إلا عنزة كانت قد فقدت جديها افترسه ذئب عرفت لوعة الفقد والحزن لكن لم تعرف كيف تثغو به ليتميز عن بقية ثغاء الماعز حين سمعت الناي صاحت كما صاح أرخميدس في حوض الحمام أوريكا أوريكا وجدتها وجدتها هذا ما كنت أبحث عنه اكتشف أرخميدس قانون الطفو فخرج عاريا يصيح في شوارع أثينا واكتشفت المعزى قانون الوجود الذات المتألمة.
من ذلك اليوم وهي مدمنة على سماع ذلك الصوت كل زوال وكل أصيل تقترب من الزعرورة الجرداء لتسمع ذلك الصوت المتوحد الغامض المنساب في الفضاء على ظهور نسمات الهواء ليلامس شغاف كل قلب حزين.
سأل الراعي القصبة:- لم تنقلين الصوت هكذا حزينا أكثر من اللازم ما أردت ذلك ؟
ردت القصبة:- حزنك وحزني اجتمعا فجاء الصوت هكذا حزينا !
قال الراعي:- لا أنكر أني حزين منذ عشت في رحاب الطبيعة بينكم معشر الماعز اكتسبت أخلاقكم وأخلاق الطبيعة كنت أتامل في الموت والحياة والأبد والأزل والروح والجسد ولكن ضرورة الحياة الاجتماعية تلقي بي في خضم الأخلاق الاجتماعية البشرية :
الرياء مقابل العفوية والعطاء مقابل الأنانية والبساطة مقابل التكلف والفطرة مقابل السلطة.
– ولم أنت حزينة؟ سأل الراعي
– لأني كنت متوحدة منذ سمعت ذلك الشاعر الأعمى يقول:
توحد فإن الله ربك واحد** ولا ترغبن في عشرة الرؤساء
أبيت الاندغام مع القصب حين ترى القصب من بعيد لا تميز واحدة كله متشابه أنا مثلا علي نقطة سوداء ميتة لا تراها من بعيد ولكنها كانت مؤلمة لي لأنها لا تتغذى لا يصل الماء إليها لذا انتحيت مكانا قصيا لأشعر الآخرين بإنيتي بكينونتي بمشكلتي. أريد من يتحدث عني لا عن القصب ككل يشير إلي لا إلى القصب ذلك الجبل حيت تراه من بعيد شماريخ مبهجة للعين ولكن وسط الجبل يكمن راهب وقاطع طريق وبقايا جيفة وزهرة عوسج الاندماج يفقدك خصوصيتك ستصبح رقما بدل ذات مستقلة. الجحيم هم الآخرون والنعيم هم الآخرون أيضا عش منفصلا متصلا ومتصلا منفصلا بقدر التزامك بضرورة الحياة الاجتماعية، والتزامك الاخلاقي وماعدا ذلك لا تلفت لأحد ولا تبال بأحد فكثير من الأعراف مطبوعة بطابع الرياء والتصنع والمباهاة والتسلط ولذة العبودية وأصفادها والانتحار الأحمق قي التقليد.
من أجل ذلك صار الناي شعار المتوحد لا يقبل الاندغام مع الآلات الموسيقية ، كل الآلات تسير إلى تحسين وتعديل وتطوير وبعضها إلى زوال إلا هو كالفطرة كالحليب لا يقبل تعديلا ولا تحسينا بسيط بساطة الأرض المغبرة الرحبة حنون حنو الأبجدية إلى سيدها من ينتشلها من وحدتها ويجمع بينها يعقد زفافا بين حروفها على إيقاع ذلك الناي وتتناسل الأحزان وأصوات الناي ومعاني الحروف بعد أن صارت كلمات ليست كالكلمات منها شعر ذلك الشاعر وبلاغة ذلك الكاتب.
ميراث الألم يقتسمه أصحاب العقول والقلوب التركة للأكثر رهافة حس ، حظ الإثنين لمن رهف حسه أكثر لا ذكورة ولا أنوثة في هذه الفريضة من تلك التركة ومنها ينعم الناس بالغناء ويترنحون طربا للمغنية وهي تغني لأبي فراس:
بلى إني مشتاق وعندي لوعة
ولكن مثلي لا يذاع له ســـــــر
إذا اليل أضواني بسطت يد الهوى
وأذللت دمعا من خلائقه الكبــــــر
مع أنه ألم ومن تلك التركة بالذات !
ويسعد القارئ وهويتصفح بمتعة القراءة آنا كارنينا ومدام بوفاري وأحدب نوتردام والعجوز والبحر والخبز الحافي ولكن الخيط الوحيد لذي يجمعها الألم فمن رحمه يولد الابداع حتى أن القائل قال:
إن الشقاء سلم إلى السما
فعدن ميراث لمن تألما
لا ينبغ عادة أبناء الاغنياء ولا الوجهاء فالعادة أن يتبلد حسهم وتنشط غرائزهم بفعل النعمة ولن يكون منهم لا عالم ولا شاعر ولا فنان عظيم لقد وفتهم النعمة حقهم متاع الحياة الدنيا بينما ينبغ الفقراء فمنهم العالم والشاعر والفنان وفي مسار كل واحد قصة ألم حتى الأنبياء كان لهم نصيبهم من تركة الألم .
حين التقى قيس بليلى قالت له ألست القائل:
أصلي فما أدري إذا ما ذكرتهـــا
اثنتين صليت الضحى أم ثمانيا؟
وما بي إشراك ولكن حبــــــــــها
كعود الشجا أعيا الطبيب المداويا
قال: بلى
من أجل أن تقول وتقول متعنتا في البعاد والحرمان وفي ألمه لو تزوجتني ما وجدت شيئا كثيرا ستمل لقمة عيش وعيال وأصهار والتزامات وروتين عش مجنونا ومحروما وأنا كذلك وللناس روعة ذلك الشعر وخلودنا معا إنها الضريبة على القيمة المضافة.
ومن أجل ذلك ذهب بجماليون إلى كبير الآلهة يسأله أن يرد المرأة تمثالا يريد خيالا وألما ليعيش ويبدع تماثيل أخرى.
مازلت المعزى كل مساء تنجذب إلى صوت الناي حين يعزفه الراعي تترك القطيع وتقترب من الزعرورة لتسمع ماينقله الناي من ألمها الجواني ، وحتى الشمس ألفت في مسارها اليومي ذلك العزف وحتى القمر والنجوم والزعرورة والكون كله يتراقص على صوت ذلك الناي.
………….
*كاتب من الجزائر