المهمشون ورواية “أيام يوسف المنسى” للسيد نجم

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د.مجدى أحمد توفيق

لستُ أعرفُ مَنْ ابتكر العادةَ التي ألِفها الباحثون حين يفتتحون دراستهم لأي موضوعٍ بأن يستشيروا المعجم، ويعرضوا المعاني اللغوية المختلفة التي نصت عليها المعاجمُ حول المفردة التي يدور البحث حولها، لكي يحددوا المعنى اللغوي، قبل أن يتناولوا المعنى الإصطلاحي الذي هو مدارُ البحث الحقيقي ومناطُهُ وهدفُهُ. وأغلبُ ظني أن هذه العادة عربية لأن ما طالعته من مؤلفات اليونان لم أجد فيه الحرصَ نفسَهُ على الإبتداء بالتمييز بين المعنى اللغوي والمعنى الإصطلاحي. وإذا تذكرنا إشارة أرسطو، على سبيل المثال، إلى الأصل اللغوي لكلمة دراما نجده قد التفت إلى الجانب اللغوي بعد أن أقام الدلالة الإصطلاحية، وكان التفاته إلي اللغة عرضياً وقاصراً على ما يتصل بموضوعه، ولا ينظر إلى الدلالات المختلفة للكلمة. وكنتُ كثيرًاً ما أرى هذا الإستفتاح بالمعجم إستطراداً غير مفيد، يعزز رأيي أن كثيراً مما تقدمه لنا المعجمُ من مادةٍ لا صلة له بموضوع البحث. ومع هذا فقد وجدتُ نفسي أتجه بدايةً إلى لسان العرب أستشيره عن كلمة " المهمشين "، ولكني فوجئتُ بأن المادة ليس بها شيءٌ ذو صلةٍ واضحةٍ بمعنى التهميش الذي يريده الناس. كنتُ أتوقع أن أجد في المادة اللغوية معلوماتٍ كثيرةً لا صلة لها بالمعنى المراد، ولكني لم أتوقع أن تكون خاليةً مما له صلةٌ بالموضوع المراد. مادتها تتوالى هكذا:

” هَمَشَ: الهمـشـة: الكلام والحركة، هَـمـَشَ وهَـمـِشَ القـومُ فهم يَهْـمـَشُون ويَهْـمِـشُون وتهامـشوا . وامرأةٌ هَمَشَى بالتحريك: تُـكْـثـِرُ الكــلامَ وتُجَـلِّبُ. والهَـمـِش: الـسـريع العـمل بـأصـابعـه”

فالمادةُ لا تشير إلى معنى التهميش المقصود. ولقد حاول من قبلُ علي فهمي ما حاولتُ ولم يجد في المعاجم العربية ما يتصل بهذا المعنى الذي تشير إليه الكلمة العربية المستخدمة حالياً والتي هي ترجمةٌ للمقابل الأجنبي في اللغتين الإنجليزية والفرنسية مثلاً.

وقد تكون حقاً ترجمةً لكلمةٍ مثل marginal * ولكن إختيارها للترجمة لا يبرر أن تحمل المادة اللغوية المعنى الجديد؛ فلابد من وضع لغويٍّ يرشح تحميلَ المادة بالمعنى الجديد. وما يبدو لي فرضاً حسناً في هذا الشأن هو أن تكون صلةُ المادة اللغوية بالكلام سبباً لأن يسمِّيَ الناسُ الحواشي باسم الهامش. وإذا صح هذا الفرض فلابد أن تكون هذه النقلة اللغوية حديثة تاريخاً؛ لأن الغالب على التأليف العربي القديم أن تستخدم كلمة الحاشية، والمؤلفات العربية التي ظهرت في عصور التأليف المتأخرة المشغولة بالملخصات والتعليقات على المؤلفات السابقة كانت تفضل كلمة حاشية، مثلما فضَّلها الصبَّان في حاشيته المشهورة. وإذا صح هذا كله فأنه يقتضي منا تعليقين أو خاشيتين. التعليق الأولُ هو أن اختيار مادة همش لتسمية الحواشي ثم نقلها إلى تسمية المهمشين ينطوي على تقدير سلبي للحاشية، وهو أمرٌ يؤكده الشكوى المتكررة من الحواشي الكثيرة، وميل بعض الباحثين إلى استخدام نظم حديثة في الكتابة تخفف الحواشي وتقللها أو تلغيها . وهذا التقدير شديد الخطأ لأن الحواشي شديدة الأهمية في كل نص؛ ذلك أن الحواشي هي ما يوثق المادة المعرفية ويردها إلى أصولها الصحيحة، والعناية بالتوثيق هي الشرط الضروري لأي خطاب علمي باحث عن الحقيقة. وهذا التصحيح لتصورنا للحاشية يمكن – وهذا هو التعليق الثاني – أن يصحح لنا تصورنا للتهميش المقصود؛ فبدلاً من أن نرى المهمشين ليسوا قوةً تافهةً في المجتمع نراهم القوة التي تصنع الطبقات الأعلى في المجتمع، الطبقات غير المهمشة التي تتصدر العلاقات الإجتماعية والتي لولا ما تجنيه من الطبقات المهمشة ما حققت وضعها الأعلى.
وهنا نجد أنفسنا أمام التناول الإجتماعي لمفهوم التهميش في ظل علم الإجتماع، مضطرين إلى أن ننظر فيه على الرغم من أن موضوعنا الأصلي أدبي لا إجتماعي .

لقد ناقش علماءُ الاجتماع موضوعَ التهميش، وركزوا على الظاهرة في مصر تحديدًاً. قد تكون بحوثُهم المتعلقة بالموضوع أقل مما نأمل، ولكنها أفضل كثيراً من أن يُهْمَلَ الموضوع برمته، وقد يُغْنِي بحثٌ عن عشرات البحوث. ناقش الظاهرة محمد نور فرحات في “الدور السياسي للجماعات الهامشية في مصر”  مركزًاً فيه على الجعيدية والزعر. وناقشها علي فهمي في “ملامح الثقافة السياسية للمهمشين في مصر المحروسة”. وناقشها أماني مسعود في “المهمشون والسياسة في مصر”.. وناقشها كذلك إبتسام علام في “الجماعات الهامشية”. وأحدث ما طالعناه من بحوث في هذا الشأن هو الكتاب الذي وضعه سيد عشماوي “الجماعات الهامشية المنحرفة في تاريخ مصر الاجتماعي الحديث” . . ولا سبيل إلى أن نعرضَ هذا كله، ولا ضرورة.

والأمر الملحوظ أن كثيرًاً من هذه البحوث ينظر إلى المهمشين بوصفهم فئاتٍ منحرفةً كالمتسولين واللصوص. وهؤلاء يستحقون وصف التهميش بغير شك، وأتخيل أن المسجونين مهمشون قطعاً، أبعدهم القانون خارج المجتمع تقويماً لسلوكهم وحمايةً للناس منهم. ولكني أتصورُ أيضاً أن ظاهرة التهميش لا تختص بالمنحرفين، وقد يكون المهَمَّشُ إنساناً صالحاً . ولقد لاحظ علي فهمي هذه الحقيقة فأشار إلى أن المهمشين منهم منحرفون مجرمين كالعيارين والشطار والفتوات، ومنهم غير مجرمين كالحرافيش والحشرية والجعيدية. ويبدو من تحليل كلام الباحث الكبير أن ما يجمع بين هذين الفريقين هو أنهم “بعيدون عن العملية الإنتاجية”. ولما كان الباحث لم يضع تعريفاً صريحاً للتهميش فإن الغالبَ المرجح أن التهميش عنده الوقوفُ خارج العملية الإنتاجية في المجتمع. وهو تعريفٌ جيد لا يخلو من أصداء لفكرة البروليتاريا الرثة التي كان الماركسيون يصفون بها هذه الجماعات المهمشة في أنماط العلاقات الاجتماعية السائدة، ولكنه يتحرر في الوقت نفسه من الصيغة الماركسية القديمة بشكلها التقليدي .

وتقوم دراسة سيد عشماوي على أن الجماعات الهامشية المنحرفة يرتبط نموها وإزديادها بالأوضاع الإجتماعية السياسية والاقتصادية، وأن عنف هذه الجماعات مرتبطٌ بعنفِ السلطة وتعسفها. وترتبط الظاهرة أيضاً بفقر هذه الجماعات، ولما كانت غير مندمجة في المجتمع، تعيش على هامشه، فهي أضعف صلةً من الطبقات الكادحة الأخرى بنظام القيم والأعراف الشرعية، فهم يحلون مشاكلهم على نحو ينحرف بهم مزيد انحراف عن المجتمع الذي يعيشون على هامشه . وعلى الرغم من أنهم يتألفون من شرائح غير متجانسة اجتماعياً، مفتتة، متنافرة أحياناً، فهم آخر الأمر ظاهرة واحدة قد تفسـرها نظرياتٌ عدة. منها نظرية التبعية التي تراهم تكويناً طبقياً – بروليتاريا رثة – له مكانة اجتماعية متدنية، ولكنه يمثل رصيداً شعبياً لتحرك راديكالي عنيف يحررهم من التبعية . ومنها نظرية الهامشية التي تراهم في عزلة حضرية نسبية يشعـرون فيها بالنبذ، يدفعهم إلى الخروج على النسق العام للمجتمع الذي يسعى إلى التكامل. ومنها النظرية الثقافية التي تراهم ثقافةً فرعيةً خاصة جانحة، ترتبط بثقافة الفقر، ثم تتفرع إلى ثقافاتٍ أخرى بحسب تفرع هذه الجماعات إلى جماعاتٍ عدة : للتسول، النشل، الخ. ويبدو أن الكتابَ قد تبنى النظرية الوسطى لأنه يدرس هذه الجماعات في وضعها الهامشي على مستوياتٍ سياسية واقتصادية واجتماعية ليس منها التحليل الثقافي التام .

كل هذه الأفكار تعتمد على النظر إلى المهمشين نظرةً دونيةً تقلل من مكانتهم الإجتماعية، ولكنَّ علي فهمي ينبهنا إلى أمرٍ مهم؛ ذلك أن التراث الأدبي الشعبي، خاصةً السير الشعبية، يحتفل أيما إحتفال بهؤلاء المهمشين ويكسبهم سماتٍ إيجابيةً، بل هو يجعل منهم أبطالاً مثلما فعل مع شخصية علي الزيبق الذي قدره حتى جعله يتولى درك مصر بدهائه الفائق لأنه عند الجماعة الشعبية أرقى من الطبقة العليا، ومن أهل السلطة المتعسفين. وهذا معناه أن الحكم القيمي أو الخلقي عليهم الذي هو مناط الحكم بدونيتهم ليس إلا حكماً نسبياً. ومن هنا يتخذ وضعهم الاجتماعي قراءتين مختلفتين لمفهوم الدونية؛ فهي عند الطبقات الحاكمة من الحقارة والانحطاط الخلقي، وهي عند هذه الجماعات وعند المتعاطفين معها تشير إلى الظلم الواقع عليها، والفقر والعجز اللذين يقيدانها. وربما يبلغ حدَّ التعاطف أن نرى في سلوكهم نوعاً من الإبداع الفائق يواجهون به عالمهم. ولهذا نفضل أن نحيِّدَ الحكم الخلقي عند تأمل الوضع الذي عليه هذه الجماعات.

نستخلص من البحوث الإجتماعية أن الهامشية إجتماعياً موقع اجتماعي، تبغي (= غير قيادي)، أسفل العملية الإنتاجية أو خارجها، غير متكيف أو ضعيف الاندماج، يقابل أصلاً السلطة بصورها العامة، ويقابل فرعاً الطبقات والجماعات والشرائح التي هي قريبةٌ من آليات السلطة العامة ومستفيدة منها . ومن الملحوظ أن هذا الموقع الاجتماعي مرتبطٌ بأحكام القيمة والأحكام السيكولوجية، من قبيل الدونية، والعجز، والقهر. ولعل كلمة الهامشية محملة إجتماعيًاً بهذه القيم هذا هو التصور في العلوم الاجتماعية فكيف هو عند الجماعة الأدبية ؟  

لقد شاعت فكرة التهميش، وتعبير أدب المهمشين، في السنوات الأخيرة شيوعاً كبيراً على الرغم من أننا لا نجد دراسةً واحدةً للفكرة في ذاتها تناسب هذا الشيوع. وأحسب أن هذا الشيوع يمكن لي أن أعلله بأمرين:                                                                                                  الأمر الأول هو إنتشار ظاهرة الجماعات الإسلامية في المجتمع المصري من منتصف السبعينيات إلى الآن (بدايات القرن الحادي والعشرين) في مدى أكثر من ربع قرنٍ كاملٍ، لا من جهة أدبياتها وأفكارها المعلنة، بل من جهة التحليل الذي إعتمدته الثقافة المصرية لها؛ ذلك أن هذا التحليل ظل لوقتٍ طويلٍ يرى هذه الظاهرة نتيجة لإخفاق النظام السياسي في منح طبقات المجتمع العناية السليمة، ووقوع جزء كبير من المجتمع المهمل المظلوم تحت ثقل أزمات إجتماعية حادة ناشئة عن ضعف الدخول، وقلة الخدمات التعليمية والصحية والثقافية والإجتماعية بوجهٍ عام، وإخراج هذا الجزء الأعظم من المجتمع من دائرة القرار السياسي، وهذه كلها أركانٌ صالحة لصفة التهميش.

وكانت العلامة الكبرى على صحة هذا التحليل هذا العدد الكبيـر من الأحياء المسماة بالعشوائية. ويكاد يرادف مصطلح العشوائية مصطلح التهميش؛ فالعشوائي حيٌّ بناه ساكنوه دون الرجوع إلى السلطات أو التوافق مع حاجات النظام العام، فتأتي هذه الأحياء لا توفر الخصوصية، تنقصها الخدمات الأولية العصرية، وهي بهذا تتحول إلى بيئاتٍ معزولةٍ لها مكانةٌ اجتماعيةٌ دنيا، أي هي باختصار تتهمش أو يعيش سكانها على هامش المجتمع. ويمثل الربط بين هذه الظاهرة (= العشوائية) وظاهرة العنف الديني، ما يذهب إليه العلماء والمحللون من أن المناطق العشوائية الفقيرة المحرومة مرتعٌ خصبٌ لنمو الجماعات العنيفة ذات الشعارات الدينية. وخلال هذه السنوات تصاعد الوعي الإجتماعي بوجود فئاتٍ كثيرةٍ مهمشة: الأحياء العشوائية، الصعيد، النوبيون، الأقباط، وكلها أبرزت نفسها، وتحدثت عن تهميشها ولازالت تتحدث، وقد أضيف إليها أخيراً بدو سيناء. ولقد أصبح الربط بين جماعات العنف الديني والأحياء العشوائية موضوعَ حديثٍ مكررٍ في الإعلام المصري بعد تولي حسن الألفي وزارة الداخلية؛ فلقد كانت تصريحاته الأولى تشير إلى الأهمية الفائقة للعناية بهذه الأحياء العشوائية، وأهمية السيطرة على المساجد العشوائية التي لا تسيطر عليها وزارة الأوقاف بوصفها منابع، أو منابر، أو لنقل قنوات إعلامية، لترويج أفكار هذه الجماعات، وتفريخ الأعضاء الجدد لها. ويبدو أن ثورة سكان الضواحي في باريس في نوفمبر 2005م يوماً بعد يوم تذكيرٌ للوعي المصري بهمومه الخاصة، وهي تعطي إنفجارات المهمشين بعداً عالمياً. كل هذا إنعكس على الوعي الأدبي في مصر فغذى فيه، على نحو مباشر أو غير مباشر، الوعي بفكرة التهميش وخطورتها، وما يكتنفها من ظلم.

الأمر الآخر هو التحولات الثقافية العالمية، ووصول العالم إلى درجةٍ يعلن فيها إنتهاء الحداثة، وإفتتاح عصر جديد، يسمى ما بعد الحداثة، ويسمى ما بعد الصناعة، ويسمى ثورة الاتصالات، ويسمى عصر المعلومات، ويسمى أخيرًاً باسم العولمة، ويسميه بعض الألمان الذين يتمسكون بفكرة الحداثة، ويشعرون بأنها لم تنقطع بَعْدُ باسم الحداثة العليا، وهو اسمٌ لا يزال يقطع بالشعور بأننا نشهد جديدًاً مختلفاً . والفائدة غير معلقة بفكرة التحول في ذاتها، وإنما هي معلقة على بعض الأفكار التي صحبت هذه الأفكار الجديدة وتفرعت عنها . منها هذا الشغف الذي يروده الألمان خاصةً بتحليل السلطة، وإلقاء الضوء على آلياتها، والوعي بقدرتها على الإقصاء والنبذ، وهذا ما تنبه له ميشيل فوكو في تحليله للجنون بوصفه آليةً من آليات السلطة للنبذ والإقصاء . وينمو دوماً الوعي المتزايد بفكرة السلطة فينمي معه الشعور بالهامشية عند كل مَنْ لا يرى نفسه جزءاً من أبنية السلطة، خصوصاً في عالم الأدب الذي يراهن دوماً على تحرره من آليات السلطة ومناضلته لها.

وعلى الرغم من شيوع القول بأن العولمة تهدف إلى صبغ العالم كله بصبغة واحدة فإن هناك قولاً آخر موازياً لا يقل شيوعاً هو أنها تقاوم ظهور كيانات كبرى جديدة، وأنها تسعى إلى تفتيت الكيانات القائمة دولاً وقومياتٍ وشعوباً، وكان الاتحاد السوفيتي ودول الكتلة الاشتراكية عامةً أول ضحاياها وليس آخرهم . وسرعان ما شاع تحليل العالم بوصفه عالمين: عالماً متحققاً غنياً هو السلطة الكونية، وعالماً آخر – ثالثاُ بلا ثانٍ – مهمشاً، بلا فعالية، هو الضحية، وميدان الـرماية، وموضوع الترويض . وتسللت مع أفكار ما بعد الحداثة إلى ثقافتنا أفكار التفتت، والتشظي، والتهميش .

مهما يكن هذان الفرضان السابقان صحيحين فإن علينا أن ندرك أن فكرة التهميش ليست كشف الحاضر وحده، فهي قديمةٌ، يظهر قِدَمُها إذا تحررنا من لفظها، ولاحظنا أن أفكار القمع والقهر والإستغلال التي طالما تحدثت عنها البشرية، منذ ماركس، وقبل ماركس، وربما من بداية الوجود البشري الواعي تشير ضمناً إلى مضمون فكرة التهميش. وفي مجال الدراسات الأدبية من الصعب أن تجد متحدثاً يتناول شعر الصعاليك في العصر الجاهلي، مثلاً، ولا يقارب هذه الفكرة. ولدينا نموذج مهم لإستخدام فكرة التهميش إستخداماً واعياً في تحليل الظواهر الأدبية. وهو كتاب “سوسيولوجيا الغزل العربي: الشعر العذري نموذجاً” الذي ألفه الباحث التونسي الطاهر لبيب، وترجمه للعربية عن الفرنسية محمد حافظ دياب. ويقوم الكتابُ على “ملاحظة الوضع الهامشي لهذه الفئات المدروسة”  فئات العذريين.

فهؤلاء العذريون جماعةٌ لم تستطع التكيف مع العالم فأصبحوا “جماعة واقعية هامشية بصورة متميزةٍ ولاسيما على الصعيد الاقتصادي”. ذلك أن مورفولوجية الحجاز ليست متجانسةً تماماً. ومن خصائص وادي القرى الذي عاشوا فيه أنه معزولٌ عن نجد شرقاً، وتهامة غرباً، بسلسلتين متوازيتين من جبال الحجاز، يحد هذا الإطار الجغرافي من حركة العذريين، ومن اتصالهم بالعالم. وشهدت الجماعة العذرية بعد الإسلام تحولات الدولة الإسلامية: إنتشار القيم الإسلامية، التمجيد العرقي السياسي للعنصر العربي، التطور الحضري الضخم، السلطة الملكية التي تزداد إستبداداً من وقتٍ إلى آخر، وتُعَمِّقُ التناقضَ القديم بين البدو والحضر، وأدى هذا كله إلى عداءٍ من البدو- وبعض الشرائح الريفية- للسلطة، نمَّى لديهم روح اللامبالاة، وقلة الإهتمام بالجماعة. هكذا ولدت الطبيعة الجغرافية هامشية الجماعة قبل الإسلام، حتى اضطرت الجماعة إلى أن تعتمد على إتاواتٍ تنالها من اليهود انقطعت بعد الإسلام الذي طرد اليهود في صراعهم معه، وظلوا مهمشين عن حضريي الحجاز، وعن ملاك الواحات المنتجة، وأكد الإسلام هذا التهميش، فاجتمعت الهامشية الجغرافية، مع هامشية إقتصادية، مع لامبالاة ثقافية، فجاء شعرهم تعبيرًاً عن هامشيةٍ عميقةٍ.

هذا المثالُ لفكرة التهميش عند الباحثين يكمله أمثلةٌ أخرى كثيرة تدل على أن الأدب لطالما التفت إلى المهمشين ما لم نقل إن المهمشين هم الموضوع الأول للأدب. فإذا قرأنا مثلاً رواية “الحرافيش ” لنجيب محفوظ دلَّ اسمها قبل نصها على فكرة المهمشين الذين عرفنا من البحوث الإجتماعية أن الحرافيش من الكلمات الدالة عليهم. ومثل “الحرافيش” رواية “حكايات حارتنا” التي تهتم بعالم الفترات.

ومن هذه النماذج رواية ” أيام يوسف المنسي ” للسيد نجم، التي جعلت صفة المنسي علامةً باكرً في عنوانها على تهميش شخصيتها الرئيسة تهميشاً بلغ به حد أن يرى العالم من ثقب في حجرةٍ ضيقةٍ بمساكن الإيواء. وأظن أمثال هذه الشواهد أكثر من أن تحصى.                                )ولا يختلف الحال مع الشعر عنه مع الرواية أو القصة، فإذا كان القول إن” بني وركان “الذين جعل طه حسين بطلة “دعاء الكروان” منهم نموذج صارخ على العناية الروائية بمجتمعاتٍ مهمشةٍ – وإن تكن الأحداث لاتدور في مضارب خيامهم – فإن شاعراً مثل أمل دنقل ليس بمعزلٍ عن هذه النماذج في شعره. إقرأ له مثلاً قصيدته “البكاء بين يدي زرقاء اليمامة”، وانظر إلى الجزء الذي يقول فيه إنه ليس له شان، ولم يأكل من قبل لحم الضان، ولم يدع إلى الحفل قبل أن يدعى إلى المبارزة، أدركت أنه صورةٌ للرجل المهمش في فقره، وتجاهل السلطة له، وبعده عن مدارات الحكم، والظلم الذي يرسف فيه)

ولكن هذا كله حكمٌ بعدي. أعني أننا بعد أن فشا فينا مصطلح التهميش أصبحت عيوننا قادرةً على أن نرى مظاهر التهميش حيث تكون. أما قبل ذلك فإن المفهوم لم يكن حاضراً بنفسِهِ. فلم يكن الشعراء الصعاليك في الجاهلية يصدرون في شعرهم وسلوكهم عن مقولة التهميش صدوراً واعياً . وأمل دنقل لا يختلف في ذلك عنهم . لهذا يحسن أن نركز النظر على النصوص التي تكتب عن التهميش في أفقٍ تتردد فيه فكرة التهميش صراحةً . وأظن أن هذا يقتضي أن ننظر في حفنةٍ من النصوص التي تقدم فكرة التهميش تقديماً مباشراً، دلالةً على حضورها الكبير في الخطاب الأدبي المعاصر، وتلمساً لتصور واضح للمفهوم؛ فليس من المفترض بالضرورة أن يكون مفهوم الكلمة في العلوم الاجتماعية هو عينه المفهوم في الخطاب الأدبي .

هناك بدايةً من يربط التهميش بموقف السلطة – أو المؤسسات – من الأدباء . تجد هذا المعنى عند حسن خضر حيث يقول: “لقد كان أسلوب المؤسسات الثقافية سابقاً النفي العَمْد والتهميش في الظل لمَنْ وما لا تريده من الأشخاص أو الأفكار”. فهو يرى أسلوب المؤسسات في تعاملها مع المثقفين والأدباء أسلوب نفي عمدي وتهميش، ويقرن فكرة التهميش بالظل قرناً مهماً لأنه يسمح أن نرى في نصوص كثيرةٍ تتحدث عن الظل حديثاً عن التهميش. ويوافق حسن خضر فيما يذهب إليه عبد المنعم عبد القادر الذي يرى أن السلطة لجأت لكي تحقق هذه الغاية لأن تتبنى أول مؤتمر لأدباء الأقاليم الذي عُقِدَ في الزقازيق تحت رعاية وزير الداخلية آنذاك. ولم يستسلم الأدباء فتواصلت حركة الماستر – يقصد طباعة الأعمال الأدبية بنظام الماستر نظرًاً لتقصير مؤسسات الدولة في نشرها، ونظراً لرخص تكلفة النشر بالماستر وإن يكن رديئاً – واستمرت، وكرسها المهمشون من المثقفين والمبدعين وسيلةً لتوصيل أصواتهم . وإذا صح رأي عبد المنعم عبد القادر فإن حركة الماستر شكلٌ من أشكال المهمشين من الأدباء في مقاومة السلطة، وهي بهذا نقطة البداية في تشكيل الوعي المعاصر بآليات التهميش التي قد تتخذ صورة النبذ أو الاحتضان، والوسيلتان كلتاهما لهما الهدف نفسه، تجريد المهمش من فاعليته.. هنا المهمشون هم الأدباء .

وهناك من يرى فكرة التهميش في ضوء حركة الثقافة كلها، وهذا ما نراه في حديث جابـر عصفور في ندوةٍ موسعةٍ أقامها المجلس الأعلى لمدة يومين تكريماً لإدوار الخراط بمناسبة بلوغه السبعين، إذ يتحدث عن ” إرادة الإبداع ” عند الخراط، ويرى أنها : ” … تتحدى سلطة الكتابة المهيمنة، باحثةً عن نغمتها الخاصة وسط ركامِ المألوف والمعتاد، بعيداً عن غواية المركز، حيث الهوامش التي لا تعرف سوى الإبحار صوب المجهول الذي يظل في حاجةٍ إلى كشف” ، وذلك” لتفرضَ الهامش على المركز، وتسهم في إنتقال الكتابة من عهدٍ إلى عهد …”. فالسلطة هنا ليست سلطة الدولة مباشرةً، ولكنها سلطة الكتابة التقليدية.

وهناك من يرى المهمش ليس شكلاً وإنما هو موضوعٌ من موضوعات الإبداع. يتحدث الناقد عبد الحميد عقار عن واقع التجربة الروائية في المغرب فيرى أنه قد “أتيح للرواية أن تنفتح في الموضوعات والأساليب على العجيب والمنسي أو المهمش والمحظور، وعلى ضروبٍ من المتخيل ذي المرجعية المحلية”. وهو يرى أن الرواية المغربية تطلق نداءاتٍ متنوعةً منها “نداء الذات أو الكينونة ” …. وهو ” مسكون بمقاومة الدونية والتهميش … “، وهذا ما يراه متحققاً في “الخبز الحافي” و”زمن الأخطاء” لمحمد شكري، و”الضوء الهارب” و”لعبة النسيان” لمحمد برادة، ونصوص أخرى . وكلام عقار يستخدم مفهومين للتهميش، الأول يراه نوعاً من المتخيل الروائي، يريد أن هناك متخيلاتٍ روائيةً مهمشة ومنسية ومبعدة يستعيدها الخيال الروائي. والمفهوم الآخر هو المفهوم الاجتماعي الذي استدعى كلمتي الدونية والتهميش لتكون الكتابة فعلاً من أفعال المقاومة لتهميش الذات – لم يحدد إذا كان المقصود ذات الكاتب أم ذات اجتماعية أخرى أم المقصود الذاتيين معًاً.

ولقد نشرت الكتابة الأخرى بياناً لجماعة من الكتاب المغاربة أطلقوا على أنفسهم اسم الغاضبون الجدد، وسرد بيانهم أسباب تجمعهم وتكوينهم جماعتهم، فكان من هذه الأسباب “من أجل إعادة الإعتبار لكتابة الظل والهامش … “.

ومِنَ الكتاب مَنْ يستخدم كلمة الهامش دالةً على أغوار نفسية بعيدة مهمشة داخل النفس الإنسانية ونفس المبدع خاصةً. من ذلك أن يرى جمال القصاص في ديوان “باتجاه ليلنا الأصلي” لكريم عبد السلام أن قصائده تُظْهِرُ نوعاً من بنية المشهد الشعبي، وتُظْهِرُ ” ولع الشاعر نفسه بالتقاط التفاصيل الصغيرة والدقيقة في اللاوعي الهامشي لهذه البنية، وما يضمره هذا اللاوعي من خبرةٍ جماعيةٍ مستقرةٍ على مستوى العادات وأنماط السلوك الاجتماعي ” . واللاوعي الهامشي هنا يذكر بأفكار يونج عن اللاوعي الجمعي ومكنونات المخيلة الجمعية .

يتفق مع هذا المعنى أن نقرأ لإدوار الخراط حديثه عن كتابة التسعينيات الذي يقول فيه : “إن الرصدَ الخارجي الدقيق لتفاصيل المشهد اليومي المبتذل العادي قد يحمل دلالةَ نفي الإنسان عن العالم أي إستئثار ” الأشياء ” و”الموضوعات” بالمركز وتنحية الحياة الداخلية تماماً عن مواقع الضوء ” . يضاعف من أهمية كلام الخراط أنه لم يستخدم فيه كلمة الهامش، ولكن الكلمة لا تزال حاضرةً وراء الكلمات، يشير إليها كلمة المركز إشارة الضد لضده. ولعلنا نفهم من هذا اللون من الحضور اللغوي كيف أن الشواهد التي نسوقها الآن عن فكرة التهميش يمكن أن نضاعفها مئات المرات إذا نظرنا إلى معنى التهميش لا لفظه؛ ولاحظنا أن كلماتٍ كثيرةً مثل الظل، والمركز، والمنسي، والمهمل، وما شابه كلها تدور في مدارٍ كلمة الهامش تكمن فيه. والخراط يرى هنا أن الهامشي هو الحياة الداخلية التي تقبع في الظل خارج موقع الضوء. وهذا وجهٌ آخر للمعنى السيكولوجي للهامشي غير اللاوعي الجمعي هو أقرب إلى اللاوعي الفردي .                      هنا الهامشي هو اللاوعي .

ويتحدث القفاش عن كتابة التسعينيات فقال: “وحاولت كتاباتٌ نقديةٌ أن تُسَمِّيَ تلك التحولات والتغيرات بعدة مسميات، لكن المشكلةَ في اجتهادات النقاد أنها “تشوش” على روائية هذه الروايات لتجعلها مجرد كتابة على هامش النوع أو خارجه أو على الحدود بين أنواعٍ عديدةٍ ” . وكلمة هامش هنا تشير إلى موقف النصوص بين الأنواع الأدبية، فالتهميش قد يكون تصنيفاً يحرم النص من الإندراج في خريطة الأنواع التي تعطي النص مصداقيته ومشروعيته وقبوله. وتكشف لنا هذه الفكرة جانباً مهماً من جوانب التهميش هو أنه سلوك تصنيفي طردي أو إقصائي . ويبدو أن منتصر يخشى الأثر السلبي لهذا السلوك التصنيفي الذي ينبذ النص الجديد إلى فضاءٍ غير محدد المعالم، كالمتاهة، خارج الأنواع المألوفة. ولهذا يقاومه بأن يؤكد على روائية النصوص – كأنها ميزة – لكي يعيد لها مصداقيتها عند القراء .

ويعترض إبراهيم عبد المجيد على تسمية هذه النصوص الجديدة باسم أدب التسعينيات؛ لأنها تسمية تضر بكتابٍ آخرين مجيدين لا ينتمون إلى الظاهرة نفسها، ويفضل على هذه التسمية مصطلحات ” من نوع أدب الجسد أو الأدب الهامشي أو أدب اليأس أو أدب العزلة وكلها سماتٌ تتسع وتنكمش في هذا الأدب، أو أي مسمى أعمق مما أقترح” . ويقدم لنا معلومةً مهمةً، هي أن ما يسمى كتابة التسعينيات، أو أدب التسعينيات، يقترن بمفهوم الهامشي، وما يتصل به من أفكار اليأس والعزلة، إلى درجة أن هذه الكتابة تستحق أن تسمى الأدب الهامشي .

وشبيه بهذا الموقف أن تقرأ لعبد الله السمطي عبارة كأنها نبوءة تقول: “سيركز الشعراء الآن (= من الآن؟) على السخرية، والكتابة عن المهمل، والمهمش، والصغير، واليومي، والفضائحي، والجسداني، وبهذا تحل أنماطٌ تعبيريةٌ جديدةٌ محل أنماط سابقةٍ، ويعود الشعـرَ ليدخلَ في نمطيةٍ، وأكليشيهات تعبيرية بادية ” . وتقع كلمة المهمش، بوصفها نوعاً من المواد التي ينهل منها الشاعر الجديد، في قلب ما يحرص عليه هذا الشاعر، وتكاد تكون الخصائص الأخرى ألواناً أخرى من المهمش.

ولابد لنا من وقفةٍ مع أمجد ريان تحديدًاً؛ فهو أكثر الكتاب تأثرًاً بمفهوم الهامشية حتى أنه أصدر على نفقته كراساً غير دوري، في صورة ملزمةٍ صغيرةٍ واحدة، تشبه المجلة لأن بها الحوار والمقال النقدي، ونصوصاً مختارةً لأدباء متميزين في أدب التسعينيات – إذا قبلنا التسمية قبولاً مؤقتاً-، وأخباراً قليلة عن أعمال أدبية جديدة من هذا الأدب، فإذا به يسمي هذه الملزمة غير الدورية باسم “الخطاب الهامشي”. وبين يدي الآن العدد الأول من أعداد هذه الكراسات، وقد صدر بتاريخ الأول من إبريل 1997م، وتحت عنوانه عبارة “كراس غير دوري يُعْنَى بالتحولات”. وعلى الرغم من أن العنوان العام هو ” الخطاب الهامشي ” فإن إفتتاحية العدد الأول لا تتحدث عن هذا الخطاب الهامشي، ولا تعرف بمفهوم الهامشية الذي لا يعرفه أحد، وإنما تتحدث عن مفهوم التحولات كأنها لارغب في أن تختص المجلة بالدعاية لكتابة دون كتابة، أو كأنها تحرص على قدرٍ أوسع من العموم والتجاوب مع ميول مختلفة واهتمامات مختلفة، وتجتذبها إلى أرضها من خلال فكرة التحولات، وهي فكرةٌ عامة ليس له خصوصية فكرة الهامشية . والأهم من الافتتاحية هو أول مادة من مواد العدد، وهو حوار أجراه صاحب العمل مع شخصيتين مهتمتين بالفلسفة والثقافة المعاصرة، غير مشهورتين على جدارتهما بالاهتمام، الشخصية الأولى أحمد عبد الفتاح، والأخرى فاروق سليمان.

وعلينا الآن أن نستخرج مما عرضناه النتائج التي يقدمها لنا..                                           أولى النتائج أننا نستطيع أن نقرأ التهميش في نصوص كثيرةٍ عبر التاريخ الإنساني بوصفه وضعاً إنسانياً يمكن أن يعانيه الناس في كل أمة، ولكننا كلما تقدمنا مع النصوص وتقدم بنا الزمن ووصلنا إلى تسعينيات القرن العشرين ألفينا مفهوم الهامشي قد أصبح شعاراً أدبياً وثقافياً مرفوعاً أو ما يشبه الشعار. وإذا نظرنا إلى الحالة الأولى: قراءة التهميش في النصوص عب التاريخ، فقد نرى أن أحق الآداب بأن نسميه أدب المهمشين هو الأدب الشعبي بالمعنى الذي يردنا إلى الفولكلور؛ فهذا أدبٌ ألفه مهمشون حتى أننا لا نعلم اسم مؤلفٍ منهم في كثيرٍ من الأحيان، وقدموا فيه ثقافة يتبناها الجماعة الشعبية المهمشة، عبرت لهم عن تهميشهم وقاومته . وقد يكون هذا القول مدخلاً صالحاً لقراءة جديدة مطولة للأدب الشعبي من منظور التهميش . وإذا نظرنا إلى الحالة الأخرى: الوعي الصريح العلني بالتهميش، وجدنا أنفسنا أمام ما يكاد يكون مذهباً أدبياً جديداً على نحوٍ أو آخر .

والنتيجة الثانية أن كلمة التهميش تُسْتَخْدَمُ باشتقاقاتٍ مختلفةٍ بين المعاصرين على نحو واسع المدى، ولكنها لا تكاد تحظى بتعريفٍ واحدٍ دقيق – في حدود ما نعلم – يَضبطها ويُعَرِّفها ويُحَدّد المقصود منها . وهو نقصٌ كبير يشوش المعنى كثيرًاً .

والنتيجة الثالثة أن الكلمةَ في غيبة الضبط التعريفي أصبحت نهباً لحشدٍ كبير من المعاني بحسب مراد المتكلم وغاياته . ونستطيع أن نقررَ طائفةً من المعاني تتعاور الكلمة – إستخلاصاً من المقتبسات السابقة ومن خبراتنا لسنواتٍ طويلةٍ بين أدباء مصر من أجيالٍ متنوعةٍ – نقسمها إلى مجموعتين أو نوعين من المعاني:

1.    المعنى الاجتماعي الذي تشير فيه الكلمة إلى شرائح اجتماعية مهمشة، وهو المعنى الذي دارت حوله البحوث الاجتماعية، والذي ترددت أصداؤه بين الكتَّاب في حقل الأدب . وهذا النوع من المعنى قد يتخذ شكل الحديث عن جماعة محددة من فئات المجتمع، أو عن بيئة من البيئات المهمشة التي تضم داخلها عينات مختلفة من البشر كالأحياء العشوائية .

2.    المعنى الأدبي الذي قد يشير إلى معان فرعية كثيرة، فالمهمش قد يكون الأديب أو الأدباء أنفسهم، وقد يكون المهمش موضوعاتٍ أدبيةً لا يجرؤ أحد على تناوله، وأشهر ما يكون ذلك الموضوعات التي تُسَمَّى بالتابو أو المحرمات الثلاث : الدين، والسياسة، والجنس . ويُعَدّ الجسد – جنساً وغير جنس – أهم هذه الموضوعات، وإن تكن موضوعاتُ النسوية تحمل هذا التصور على تقدير أنها تكشف ذكورية النصوص، وتقتحم الحقيقة الأنثوية المطموسة . ومن هذه الموضوعات المهمشة – وإن لم تكن تابوهات – تناول الوعي الداخلي للإنسان، وعياً فردياً أو جمعياً، وهذا ما يمثله بوضوح النصوص التي تأخذ بتقنية تيار الوعي . وقد يكون المهمش هو الشكل الأدبي، بمعنى الأدب الحداثي أو ما بعد الحداثي الجديد، أو بمعنى الأدب المتمرد على محددات النوع الأدبي، أو بمعنى الخصائص الجمالية المستحدثة غير المألوفة . وعندما ننظر إلى المهمش بوصفه الشكل، أو النوع، ونضعه في سياق صراعات التطور، نكون قد خرجنا بالموضوع إلى أفق الثقافة الواسع . وبطبيعة الحال يمكن أن نعيدَ التعبير عن أي مفهومٍ من المفهومات الثلاثة الأخيرة بعبارات المفهومين الآخرين؛ فمن السهل مثلاً أن نقولَ إن الشكل الحداثي – أو ما بعد الحداثي – يحقق للأدب خروجاً عن محددات النوع، وهو يجاوز التقاليد الجمالية السائدة . هذا لا يعني أن هذه المفهومات غير متمايزة، وإن تكن مترابطةً متداخلةً؛ فالشكل الحداثي مثلاً قد يوافق محددات النوع، وقد يصير هو نفسُهُ، بمرور الوقت، مؤسسةً جماليةً تقليدية راسخةً تنتظر الثائرين عليها .

ومن السهل أن نبلور الآن هذه النتائج في الرسم التوضيحي التالي: وهذا الرسمُ التوضيحي لا يتضمن النتيجة الأولى التي تقضي بأننا نستطيع أن نقرأ الأدب كله في ضوء فكرة التهميش، وإذا أضفنا هذا البعد وجدنا للتهميش وضعين: الأول التهميشُ فيه إستراتيجية قراءة، والآخر التهميش فيه إستراتيجية كتابة. وجميع المعاني السابقة المصورة في الرسم التشجيري السابق تمثل استراتيجيات للكتابة. وبإضافة البعد الجديد يمكن أن نحصل على رسم نحذف منه ما ورد في الرسم الأول إختصارًاً:

وبطبيعة الحال تلتقي إستراتيجية القراءة وإستراتيجية الكتابة في إستراتيجية الكتابة؛ أعني أن التهميش حين يسعى الكاتب إلى أن يجعله هدفاً لكتابته يحرص عليه، فإن الناقد أو القارئ يحسن به أن يجعل إستراتيجة قراءته للنص أن يتحرى فيه علامات التهميش المختلفة، وهو حينئذٍ مضطرٌّ لأن ينظر في القوى الاجتماعية المتنوعة التي يصورها النص، ويتأمل مدى هامشيتها، أو تهميشها، فإن لَحِظَ أن الخطابَ الأدبي ذاتيٌّ اتجه نظرُهُ إلى وضع الأديب نفسِهِ، بوصفه المتكلم الذي يبوح بهامشيته نصاً، أو يقاومها نصاً، وإن طغت على النص آليات الكتابة التي تجاوز التقاليد السائدة فإن نظرَهُ سيتجه صوب تهيش الكتابة نفسها . وسيكون عليه طوال الوقت أن ينتبه إلى الإستخدامين المختلفين للتهميش: الإستخدام الإيجابي الذي يرى أن المهمش هو المجدد، الفائق، صانع المستقبل، المتخطي للحاضر، المستشرف، الرؤيوي، إلخ، والإستخدام السلبي الذي يرى أن الهمش هو الضعيف، العاجز، المزاح بعيداً عن أفق النظر، المحرم، المكبوت، وقد يكون المنحرف، المجرَّم، المقارب للخطيئة، أو الكافر .

وعلينا الآن أن نلقيَ نظرةً أخرى على هذه الخريطة لمعاني التهميش والهامشي، نظرةً مقيدة بأن نشير مع جزئياتها إلى نماذج من النصوص توضحها. وسيكون علينا أن نمنح ما يسمى كتابة التسعينيات.

أول معنىً للهامشي هو المعنى الاجتماعي. وهذا المعنى له صورتان. الصورةُ الأولى تخص تصوير جماعة محددة تتعرض للتهميش . هذا ما يمكن أن نتمثلَ له برواية “حكايات حارتنا” لنجيب محفوظ؛ فهي تمثل قراءةً جماليةً لشريحةٍ اجتماعيةٍ محددةٍ هي الفتوات.

كما ويمكن أن نرى في رواية ” السقا مات ” ليوسف السباعي التفاتاً جماليًاً لشريحةٍ همشها التطور الإجتماعي هي شريحة السقائيين التي تأملت الرواية فقرها، وعجزها، ومواجهتها للموت . وفي بعض نصوص محمد البساطي ومحسن يونس تركيزًاً خاصًاً على جماعة الصيادين التي تعيش على سواحل مصر الشمالية. وعلى الرغم من أن المعنى السلبي للهامشية – النفي داخل الوطن – هو ما يوجه هذه النصوص جميعاً، كما فى رواية ورواية “أيام يوسف المنسى” للسيد نجم، وفيها ينهار المنزل ولا يبقى على قيد الحياة سوى “يوسف عبدالواحد المنسى”، وتبدأ الرواية مع يوسف فى رحلة تكشف الخفى فى قاع المدينة، فى مساكن الايواء الفقيرة المهمشة، ولتنتهى ولا نعرف ان كان سقوطه على ارض “تكية المولودية” هو إشارة إلى موته، أم لم يمت وهناك بداية أخرى جديدة ومختلفة بعد السقوط. 

فإن النصوص تقرأ جمالياً معان إيجابيةً أخرى في الوضع السلبي؛ فالفتوات مثلاً كانوا الموضوع الجمالي الرمزي الذي ينفتح داخل رواية نجيب محفوظ على أشواق الناس المهمشين وهم يتطلعون إلى أحلام العدل والخير والحرية، فضلاً عن أنهم يكشفون لنا حقيقة أن المهمش يمكن أن يكون مركزاً يدور الآخرون حوله، في هامشه، داخل بيئته، أو على أقل تقدير أسرته.

وقد تكون الجماعة المهمشة هي عينها الجماعة المنتجة للأدب. فلنا أن نقرأ شعرَ الصعاليك في العصر الجاهلي بوصفه شعرًاً لجماعةٍ مارست التهميش من منظورٍ إيجابيٍّ قصدي . ولقد قرأ الطاهر لبيب الغزلَ العذري قراءةً تراه إنتاج جماعةٍ محددةٍ مهمشةٍ تعبر عن رؤيتها للعالم من وضع التهميش الذي وجدت نفسها فيه . ومن الميسور أن نقرأ الشعر الصوفي من منظور كونهِ إنتاجَ جماعةٍ مارست التهميش على تقدير أن الهامشيةَ تعني الخروجَ عن السياقات السائدة جميعاً، وتحرير الوعي منها، تطهيرًاً للنفسِ، وارتقاءً بها في مدارج الروح، وهذا كله يجري في مجرى التصور الإيجابي للهامشية . وأحق أدبٍ بأن نراه أدباً أنتجته جماعةٌ مهمشةٌ هو الأدب الشعبي الذي يراه العلماء نتاج جماعةٍ شعبيةٍ مهمشةٍ بالضرورة، تشكل جمالياً رؤيتها للعالم، وتصنع أبطالها التخيليين من بعض أفرادها مهما يكن الوصف السائد لهم يُجَرِّمُهم .

وليس في مفهومات ما يسمى بالكتابة التسعينية إشارةٌ إلى الرغبةِ في التعبير عن جماعةٍ محددةٍ، وليس في نصوصها كذلك الإشارةُ إلى جماعةٍ مهمشةٍ محددةٍ، ولكن نصوصها تقبل أن نقرأ فيها تهميشاً واضحاً للشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى وما تحتها من شرائح أقل . وأذكر أن شكري عياد – يرحمه الله – قد قال يوماً إن هذه الكتابات مرتبطةً بانتشار ظاهرة البطالة، وأعتقد أنه وقتها كان يريد أن يومئ إلى الجواني الاجتماعية المختلفة لظاهرة التهميش. وعلى الرغم من أني أنفي وجود العلامات القاطعة المباشرة الدالة على الرغبة في التعبير عن جماعةٍ محددةٍ مهمشةٍ.

والصورةُ الأخرى للهامشية الاجتماعية هي البيئة . الفارق بينها وبين الصورة الأولى أن الجماعة الواحدة قد تنتشر في بيئاتٍ مختلفةٍ، والبيئة الواحدة قد تضم فئاتٍ من جماعاتٍ مهمشةٍ متنوعةٍ. فعناية محمد البساطي بالقرية المصرية الساحلية تسمح لنصه بأن يرى فيها فئاتٍ من الصيادين، والمزارعين، والتجار، والمتعلمين الموظفين. وتكاد تكون القرية عند يوسف أبو رية “الضحى          العالي” مثلاً، أو قرية هالة البدري في “منتهى” فضاءً ريفياً يتسع لشرائح كثيرةٍ من سكان مصر، أو هو مصر مختصرة بمعنىً من المعاني.

ويمكن القول إن تصوير البيئات المهمشة من الموضوعات المهمة في الكتابة الروائية التسعينية على الرغم من أن روايات الحارة التي كتبها إسماعيل ولي الدين، ومحمد جلال، والتي قد نعود بها إلى ثلاثية نجيب محفوظ قد إستهلكت كثيراً من أبعاد هذا التصور. ولكن الرواية التسعينية لا يمكن أن تتجاهلها مادام البحث عن الهامشي من ضروراتها. وأمثل لها برواية “لصوص متقاعدون” لحمدي أبو جليل التي تدور أحداثها في ضاحية منشأة ناصر، مركزةً منها على سكان المنزل رقم 26 من شارع 14 تحديداً، وصنعت الروايةُ نفسها من سلسلةٍ من الحكايات الصغيرة المتجاورة تخص البيت والشارع وسكان البيت، وكان منها حكاية الحي نفسه التي إتخذ اسمه منها لأن الرئيس جمال عبد الناصر كان قد أمر ببناء الحي السكني حتى يسكن فيه عمال المصانع التي يزورها، وهذا كله يجعل الحي نفسه – أو هذه البيئة – الموضوع الحقيقي للرواية.

ولنا أن نستنتج من إشاراتنا إلى نصوص غير تسعينية قبل النصوص التسعينية أن المعن الإجتماعي للتهميش، خصوصاً تصوير البيئات المهمشة، ليس إنجازاً كبيراً فارقاً بين هذه النصوص وما قبلها؛ فالقارئ مثلاً لرواية إبراهيم عبد المجيد “لا أحد ينام في الإسكندرية” يدرك أنها تركز على أطراف الإسكندرية لا قلبها، وعلى هوامشها قبل مركزها، والنماذج على هذه الظاهرة أكثر من أحصيها . ولهذا لا يُعَلَّقُ الرهان الجمالي للكتابة التسعينية على الهامشية بمعنى تصوير البيئات المهمشة، بل يُعَلَّقُ على أسلوب السرد أساساً الذي يتبنى طريق الحكي اليومية المألوفة في الحديث اليومي وإن اصطنع في خطابه الفصحى، فهو سرد حكائيٌّ متدفقٌ موجز وثاب كما أن الحكي اليومي كذلك. ولكن هذا الأسلوب السردي يتطلب تركيزاً على عوالم أدنى إلى الحياة اليومية البسيطة، وهي بطبيعتها العوالم الموصوفة بالهامشية . ولعل سعيد نوح قد حدس بهذه الحقيقة على نحوٍ ما فجعل روايته “كلما رأيتُ بنتاً حلوةً أقول يا سعاد” لا تكتفي ببيئةِ مهمشةٍ في ضاحية حلوان، فاتجهت إلى أن تتحرر من الشكل الروائي التقليدي، فتقطع السرد بنصوصٍ من الشعر، وتنوع منظورات السرد، وتقلل من نسقية الأحداث وترابطها، مكتفيةً بأن تكون سعاد والبيئة التي عاشت فيها سعاد، مدار النص، ومناط وحدته، ومكمن ترابطه، حينئذٍ يكون الوقوع خارج النوع نوعاً ثانياً من الهامشية أقوى أثراً من تصوير البيئة المهمشة، بل هو يهيمن على تصوير البيئة المهمشة ويستدعيه .

الأهم من المعنيين الإجتماعيين للمهمش المعاني الأدبية له؛ فهي أشد صلةً بالأبعاد الجمالية للكتابة، وليست فحسب محدداتٍ للموضوع الجمالي شأن المعنى الاجتماعي .

ويتخذ المعنى الأدبي للهامشية ثلاث صورٍ: صورة ذاتية، وصورة موضوعية، وصورة جمالية . تتعلق الصورة الذاتية بذات الكاتب المهمشة . وتتعلق الصورةُ الموضوعية بالموضوعات المُقْصَاةِ عن الكتابة . وتتعلق الصورة الجمالية بعلاقات الشكل، والنوع، والتقاليد، في إطار الثقافة بوجهٍ عام.

يشير المعنى الذاتي إلى ذات مهمشةٍ لها ثلاثة إحتمالات: قد تكون ذات الأديب، أو ذات جماعةٍ من الأدباء، أو ذات الأدباء جميعاً والأدب نفسه معهم ضمناً. ولما كان المعنى الثاني يردنا إلى فكرة الجماعة مرةً ثانيةً، فإننا نكتفي بالنظر في المعنيين الأول والثالث .

وبطبيعة الحال ليس شعور الأديب بأنه ذاتٌ مهمشةٌ شعورًاً مبتكرًاً لم يعرفه الأدب من قبلُ. وهو في ذاتِهِ قد يتخذ صورتين: الصورة الأولى أن يكون مدارُ النص حول أديبٍ مهمشٍ. ويمكن أن أمثل لهذه الصورة برواية “تصريح بالغياب” لمنتصر القفاش، ولا تحاول الرواية أن تضفيَ أية خطورة على الخبرات الإنسانية البسيطة العادية التي مر بها، بل تقبل بهامشية الذات، وتحاول أن تتبينها، وتستخرج منها خبرتها، أو روايتها، التي لا ندري هل هي الرواية التي نسيها في الوحدة العسكرية، أو هي الرواية التي يتخيلها ويحكيها.

والصورة الأخرى أن يكون الخطابُ في النص منطلقاً من الذات، سيرياً. هذا ما جعل السيرة الذاتية فناً جذاباً للكتابة التسعينية، وجعل كثيراً من الروايات ممسوسةً بهذا المس السيري: من بهيجة حسين، إلى منى البرنس، إلى ميرال الطحاوي، إلى صفاء عبد المنعم، إلى نجلاء علام، ومن سعيد نوح، إلى سامي إسماعيل، إلى ياسر شعبان، إلى محمود حامد، إلى محمد هاشم، وآخرين من دونهم . ولا يمكن لقارئ رواية ميرال الطحاوي ” الباذنجانة الزرقاء ” أن يغفل عن هذا السرد السيري فيها، وما يسري فيه من تأمل استبطاني واضح . وقد يعجب القارئ لأنه يجد نصاً أقرب ما يكون إلى السيرة الذاتية، ولكنه لا يتضمن خبرة واحدة خطيرةً، أو خبرة تتعلق بمصائر هائلة وإنجازات كبيرة مما يكتب الكتّـابُ سيرَهم لإظهارها.

تذكرني رواية سيد الوكيل “فوق الحياة قليلاً”، وهي النموذج الصالح لأن يصور هامشية الأدباء جميعاً لا هامشية الذات الأديبة وحدها. فيها يصور النص جماعة أدباء يجلسون في مقهىً، يتناولون بالنقاش قضاياهم التي تبدو لهم أسمى من اهتمامات الناس، حتى تبدو المقاعد التي يجلسون عليها كأنها لا تلمس الأرض، تسبح معهم فوق الحياة نفسها قليلاً. وبفضل تقنيات السخرية يُسْقِطُ النصُّ فكرةَ تميز الأدباء ونبوة الأديب . ويمضي النص مع شاب أقبل من جنوب مصر إلى القاهرة ليصنع فيها مجداً أدبياً، فصوره النص تصويراً ساخراً، أو بائساً، يكشف هامشيته. واختار النص المقهى مكاناً للحديث لأن الأدباء فيه يجلسون وسط الناس، ولكنهم يحسون أنهم فوق الناس لأوسطهم. ويسمح الحديث عن مقاهي الأدباء وتاريخها الطويل بأن يخرج النص في فصلٍ من فصولِهِ إلى شكل المقال، متحررًاً من الشكل الروائي بأكمله، فإذا بالنص، وهو يؤكد بالسخرية هامشيةَ الأدباء، وهامشية الأدب نفسهِ، يصبح هو نفسه على هامش النوع الروائي، فتمتزج فيه ألوانٌ من الهامشية .

الآن لابد من أن نسأل مجدداً السؤالَ الرئيس : ما المقصودُ بأدب المهمشين ؟                        قد يُقْصَدُ به الأدب الذي تنتجه الجماعةُ الشعبية في عالمها الهامشي، الأدب الذي نسميه أدباً شعبياً أو فولكلوراً . وقد يُقْصَدُ به الأدبُ الذي تنتجه جماعةٌ مهمشةٌ في أية لحظةٍ من لحظات التاريخ مثل شعر الصعاليك، أو الشعر العذري . وقد يُقْصَدُ به تصوير الأدب، بوجهٍ عام، للهامشية الإنسانية في كل زمانٍ، وكل مكانٍ، وهو معنىً يستوعبُ القدرَ الأعظمَ مما يكتبه أدباء مصر الآن في عاصمتها وأقاليمها جميعاً على حد السواء. وهذا كله ما يناسب أن نرى في أدب المهمشين إستراتيجية قراءة . وقد يُقْصَدُ به عناية ما يُسَمَّى الآن باسم الكتابة التسعينية بمفهوم التهميش عنايةً تجعلنا نستطيع أن نسميَ هذه الكتابة في شعرِها وقصِّها بأدب المهمشين، ونستطيع أن نسميها بالأدب الهامشي، لا نقصد الثانوي، غير المهم، بل نقصد المجدد، أو المتحرر من التقاليد، المفعم بالإحساس الممزق بالهامشية التي تخترم وجودَنا إلى مدىً بعيدٍ .

الوظائف الأسلوبية فى “أيام يوسف المنسي”

1-     لا يتيح لي منهج التحليل الأسلوبى الذي إصطنعه فى هذا المقال أم أعالج ما يسمى عادة سلبيات العمل الادبى، لأنه منهج يعنى بالوصف أكثر من عنايته باتخاذ سمت الخبير المثمن. لا يرضى هذا أتوجه –بلا شك- القارئ الذي يفهم النقد كما كان يفهمه ناقد عظيم مثل “قدامه بن جعفر”، كان يرى النقد ضربا من التأليف ينسب إلى علم جيد الشعر من رديئة. يكفى أن يقال الآن أن كثيرًا من السلبيات يمكن أن يرى فيها القارئ المدرب على إنتاج الدلالة الأدبية دوالا على معاني بعيدة. وربما نلمس فى بعض المواضع القادمة شيئا من هذا.

 

ويعتمد منهج المقال على مقدمتين: تسلم أولاهما بأن الأبنية النحوية تتضافر لتصنع مستوى من مستويات بنية النص تقوم عليه الدلالة، ويمارس كثيرًا من الفعالية. هذه المسلمة شبيهه بكرة عبدالقاهر الجرجاني عن “النظم” الذي هو ليس “إلا إن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو”.

لكنها فى نفس الوقت تتجاوز عبدالقاهر. ولا يسمح الموقف بإستعراض مواطن الخلاف. يكفى أن نشير إلى أن ما تأسس لتأمل جماليات البيت الشعري لا يصلح لبنية أكثر تعقيدًا كالقصة أو الرواية. ولنشر كذلك إلى أن النص مع أنه فى بناء أسلوبه يدور فى مدار النحو وهو يختار أبنيته اللغوية من هيكل اللغة ومن ذاكرتها، إلا أنه يمارس قدرًا من المخالفة تسمى بالإنحراف الأسلوبى، هذا الإنحراف ليس خروجًا تامًا عن القواعد النحوية، ولكنه عدول عن الأصل إلى الفرع، وإلحاح –أحيانا- على اختيارات معينة لا تدأب عليها اللغة، وإضعاف لنسبة توقع القارئ للنمط اللغوي، مما يولد لدى القارئ شعورًا بالمفاجأة.

 

وتسلم المقدمة الثانية بأن علم النحو يحاول أن يستنبط من اللغة بناء من الميتافيزيقا والمنطق، حتى أننا نستطيع أن نستخرج المقولات العشر المتداولة فى المنطق الصوري من مقولات علم النحو العربي. ههنا السر الذي يستخرج به المبدع من الهيكل النحوي للغة أبنية جمالية شامخة. ومن الأمثلة المعروفة على هذه النقلة للمفهوم النحوي من مكانه فى علم النحو إلى قمته فى علم الجمال نقلة مفهوم “الفاعل” من النحو إلى النقد الادبى على أيدى البنائيين، خاصة من يعاملون النص بوصفه جملة واحدة شديدة التعقيد.

وما يحاوله النقد الادبى حينئذ هو أن يكشف عن نجاح المبدع فى تحويل النمط اللغوي إلى بنية فنية شديدة التعقيد والاختلاف. وربما كان الإختلاف الذي يوصف أحيانا بالإنحراف هو ما يدعو إلى القول إننا بحاجة أمام كل نص إلى تأسيس علم للنحو بهذا النص وحده.

 

من ههنا نستطيع أن نقرأ أيام يوسف المنسي ونبحث فى إنجازها النحوي، ونحصر أبنيتها الأسلوبية الفاعلة، ونرى أساليب الإضافة، والنعت، والتعريف، والضمائر، والزمن النحوي، والزمن المعجمي.

وذلك ما دام الأسلوب محصلة مجموعة من الاختيارات المقصودة بين عناصر اللغة القابلة للتبادل. وأظن أننا لسنا بحاجة إلى التذكير الملح بان تحليل الأسلوب يقع فى منطقة وسطى بين علم اللغة والنقد الأدبى. وإنما يجب الإلحاح على أننا لا نصنع صنيع “ليش” الذي وضع تحليلا لبنية المقاطع فى الانجليزية ليصف على نحو شامل بنية الأنماط الشكلية المحتملة فى الشعر، لكننا نتذوق جمالياته الأسلوبية وانجازه النحوي فحسب.

 

2-     لأسلوب الإضافة فعالية كبيرة فى النص. ذلك أننا من بعض الوجوه إمام رواية من روايات الانتماء. لقد انهار بيت وفقد الأهل، أصبح فى حاجة إلى أن يكتشف عالما من العلاقات يندرج فيها. والإلحاح على أسلوبي الإضافة يجسد هذا الشعور، كأن الأشياء تحاول أن تتماسك.

والإضافة نحويا نوعان: إضافة غير محضة، وهى إضافة الاسم الذي يعمل عمل الفعل لمحمولة، كقولهم مررت بضارب زيد، فضارب هنا تعمل عمل يضرب، والمضاف إليه زيد هو المضروب. مثل هذه الإضافة امكانبة غير مستعملة فى الرواية لأنها تحتاج إلى فاعلية يفتقدها يوسف فى ظروفه.

والنوع الثاني الإضافة المحضة، وهى الشائعة، وتفيد عند النحاة التخصيص مثل رسالة شوق، أو التعريف مثل رسالة زيد.

ونستطيع أن نجد هذه الإضافة فى عنوان الرواية أيام يوسف المنسي. إضافة الأيام إلى العلم يوسف، وإضافته إلى العلم المنسي (هناك إحتمال أخر له موضع قادم) يؤسسان شعورًا مبكرًا بالحاجة إلى الترابط. ومع أن الإضافة إلى علمين إلا إن يوسف يتساءل: “هل إنا نكرة؟”، بل أن اسمه عنده “بلا معنى ألبته”. إننا إمام إضافة مفرغة من دلالتي التعريف والتخصيص. والأيام ههنا ليست عظيمة كأيام العرب، إنها هنا فى هذا النسق شيء يوحى بالتعاقب البارد الخالي من الفعالية. ويقول يوسف عن المعلم محرز:

“يعشق لعبة الأنساب وتأصيل الأسماء ومعرفة كل صغيرة وكبيرة داخل بيوت الحارة”

وتأتى بنية العبارة على النحو التالي:

يعشق لعبة الأنساب..

= فعل بفاعل (غائب) + مفعول به + مضاف إليه

وتأصيل الأسماء..

= فعل بفاعل (غائب) + معطوف عليه + مضاف إليه

ومعرفة كل صغيرة..

= فعل بفاعل (غائب) + معطوف عليه المضاف إليه السابق

داخل بيوت الحارة..

= فعل بفاعل (غائب) = ظرف + مضاف إليه + مضاف إليه

فلإضافة ذات الحضور القوى تتسق مع لعبة الأنساب، وتأصيل الأسماء، والبحث عن الإنتماء.

 

3-     وأسلوب “النعت” له فعاليته الكبيرة. وهو متصل بطبيعة الرواية، إنها رواية من روايات التعرف. لا التعرف الأرسطى الذي “موضوعه الأشخاص”، وإنما التعرف على العالم والبيئة ونسق العلاقات الاجتماعية. ويشترك هذا التعرف الذي يعيد تنظيم الوعي مع التعرف الارسطى على الأشخاص فى أن كليهما “انتقال من الجهل إلى المعرفة يؤدى إلى الانتقال: إما من الكراهية إلى المحبة، أو من المحبة إلى الكراهية عند الأشخاص المقدر لهم السعادة أو الشقاوة. لكن الانتقال فى الرواية أكثر تعقيدا من ثنائيات وتبادليات الكراهية والمحبة، والسعادة والشقاوة. إنه على إتصال بوجود الإنسان فى العالم وبالقوى المتحكمة فى هذا الوجود.

ونستطيع أن نستبدل بمصطلح الرواية التعرف مصطلح  رواية التعلم الشائع فى النقد الأدبى والذي ظهر مفهومه عند هيجل حين حديثه عن الرواية. لكن البطل فى الرواية خلافا لرواية التعلم لا يمارس تمردا واضحا على المجتمع قبل أن تدفعه التجارب إلى التعقل والخضوع. انه يبدو فى الرواية، خاصة قسميها الأولين ، ينظر إلى العالم من قمقم الذات، نظرة أقرب إلى التعرف من التمرد.   

وفى مثل هذا الموقف تصبح نعوت الأشياء نوعًا من تحقيق المعرفة بها. وربما يصح أن نرى النعت نحويا فى عنوان الرواية، ذلك أن دلالة النسيان فى كلمة “المنسي” جزء من شفرة تحكم أسماء الأشخاص فى الرواية، وتقوم بتنميطهم. وكلمة المنسي بدلالتها النعتية تجعل يوسف نموذجا للقوى المهمشة فى الواقع . يعين على هذه النمذجة اسم الأب “عبدالواحد” المشتق من الواحدية فى الأسماء الحسنى، والمشتق من الوحدة والانفراد فى الدلالة المعجمية. ويعين عليها كذلك التناص الواضح بين يوسف فى الرواية الذي يرى نفسه ملقى فى جب، ويوسف النبي الذي طرحه إخوته فى البئر. وها هو يتعرض لصنوف من الإغراء، منها الإغراء الجنسي مع زوجة النجار، وينتهي إلى العمل فى نشاطات اقتصادية ملوثة، مما يجعل اليوسفين يتناقضين قدر ما يتماسان.

والدلالة النعتية للإعلام تظهر على نحو خاص فى الأشخاص الكثيرين الذين يظهرون فى مساكن الإيواء. شمروخ مثلا “مجهول المولد والأهل” (تذكر الإضافة والنسب) وهو يرى كل شيء وينقل الأخبار فى المساكن، فكأن كلمة شمروخ وهى تعنى العصا الكبيرة، تجعله يرى الأشياء واضحة من اعلي ولنسمع حيرم العضل يصف  نفسه:

“المهم، إنا حيرم العضل ملك السلخانة. هباش عنبر3، اكبر العنابر، عنبر الأكابر وملوك السوق –عنبر الحكومة”

إنها طائفة من النعوت المسوقة مساق الإخبار ترسخ مفهوم القوة، وتستمد من شفرة المذبح، فلم يطلق عليه حيرم الحديد مثلا، لان العضل انسب. وكلمة حيرم قليلة الشيوع مما يساعد على الإيحاء بالنمطية. ومثل هذا فى أسماء أخرى كثيرة. لنرى تعرفه على أم وردة:

“تعرف على صوت أم وردة من بين الأصوات المقذوفة إلى إذنيه، نهض مسرعا يلقى نظرة عليها، وجدها منتصبة وسط حلقة من رجال المساكن، فى العقد الرابع من العمر، عيناها الحور أحاطتها بكحل اسود فازدادتا جمالا، شعرها الطويل مصبوغ بالحنة الحمراء وقد تركته على كتفيها ناعما مستقرا، اكسبها ثقة مع صوتها العالي الواضح القوى الواثق أيضا، بدت خفيفة الحركة باليد والحاجب، سريعة التفكير..”

موقف التعرف واضح فى الكلمة الأولى. والاسم المشهور به “أم وردة” اسم اضافى، فهي ذات حضور بيئة تنتسب إليها وتمارس فيها فعاليتها، ولا تبحث عن هوية ووجود مثل يوسف. والأوصاف فى الفقرة كثيرة بعضها يعرب نعتا، وبعضها له إعراب آخر مع تشبعه بالدلالة النعتية. الموقف سرديا هنا موقف نعتى إلى حد كبير، وذلك فى سياق محاولة يوسف أن يتعرف على العالم.

 

4-     ينبثق عن الموقف المعرفي ليوسف شيوع ظاهرة “التعريف”. ولقد أشرنا إلى     

    التعريف بالعم وما يحكم شفرة العلم من دلالة وتنميطية. يبقى التعريف ب “ال” .

    نجد هذا الضرب من التعريف فى كلمة “المنسي” . ونجده فى عناوين الأقسام الأربعة.

القسم الأول: “الخريف الحزين”، القسم الثاني: “أطول أيام الخريف”، القسم الثالث: “الشتاء والربيع قد يأتيان معا”، القسم الرابع: “الصيف الساخن”. ومن الواضح أن الأسماء كلها معرفة، لأننا فى الحقيقة أمام رحلة معرفية للذات.

 

5-     الضمير له أثره فى بناء الخطاب القصصي فى الرواية. وإذا كان النحاة يقولون أن الضمير ما دل على غيبة أو الحضور فان ضميري الغيبة والحضور يتجاوران على نحو ملحوظ فى لغة السرد. لنقرا هذه الفقرة من مطلع الرواية:

“شق قصير فى حائط المنزل، تابعه يكبر طولا، عمقا، وعرضا. اخبرهم –الجيران وأباه- كان جوابهم: ليكون آيلا للسقوط.. لن نتركه، إلى أين المسير.. إن هلك نهلك معه، إن بقى سيبقى سترنا؟! وقتها لم يفهم يوسف سر رغبتهم الدينية –الجماعية- فى الهلاك!

ماذا على أن أقول؟

عن ميتة أبى.. احتواه الهلاك وهو فى المرحاض…”.

كان من الممكن تعريف الحائط بأداة التعريف، لكنه عرف بالإضافة إلى المنزل، لن المنزل يجسم العالم المفتقد الذي ينتسب إليه يوسف. وكان فى إمكان القارئ أن يستنتج من يعود عليهم الضمير هم قوله “اخبرهم” لكن عناية الأسلوب بهم العالم الانسانى جعلته يوظف البدل لغمر الضمير بمزيد من الضوء، فالكتابة ههنا تحاول أن تصنع العالم المجهول المهمش فى دائرة الضوء. وفى جوابهم عليه توحيد واضح بين مصير البيت ومصير البشر يتفق مع موقف الانتساب إلى العالم.

وفى “سترنا” ملمح اسلوبى، فالشائع أن يقال سيبقى سترا لنا، لكن إضافة الستر/ المنزل إلى ضمير الجماعة تحرك فى جماليات لإضافة دلالة الانتماء. وتقدم ظرف الزمان “وقتها” على الفعل “لم يفهم” ، انحراف اسلوبى آخر يميز بين وقتين الأول خاص بلم يفهم، والأخر خاص بالرحلة المعرفية التي تبدأها الذات بالسؤال: “ماذا على أن أقول؟” ههنا تحول واضح من الإشارة إلى يوسف بضمير الغائب، إلى الإشارة إليه بضمير المتكلم الذي يستحضره ويستنطقه.

ويستطيع القارئ أن يلاحظ بنفسه الحضور الخصب للمزاوجة بين ضمير الغائب وضمير المتكلم الحاضر، وان يلاحظ أن هذه المزاوجة تنحسر مع القسم الثالث والرابع من الرواية حيث يعمل يوسف، والعمل يعنى الاندراج فى مصفوفة الواقع، والانضمام إليه –من موقع المشاركة لا التغير- وإنتهاء التخبط بين دخول جب الذات (ضمير المتكلم) والخروج بالوعي إلى العالم (ضمير الغائب).. لكنه لم يكن خروجا موفقا.

     6-يعالج علم النحو مشكلة الزمان فى ثلاثة أبواب: الأول والثاني منها هما الظروف واسم الزمان والمكان من المشتقات، وهما اقرب إلى ما نسميه بالزمن المعجمي. إما الثالث فهو الفعل، فالأفعال فى النحو يتلبسها الزمان ويصنفها إلى ماض وحاضر ومستقبل. ولا نستطيع أن نفصل الأفعال عن أدوات افصل والوصل فى الأنساق الأسلوبية للرواية الحالية.

إن الزمن النحوي فى أسلوب الرواية يمثل معادلة تجمع بين الزمان والفعل وبين الفصل والوصل. نقرا هذا فى النص التالي حيث يصف يوسف لحظات إنهيار البيت:

“لحظتها ما كنت أشعر أنها لحظات الموت، كنت أفكر فيما يجب على أن افعله.. قررت الرقاد تحت السرير، وجدته أفضل بالرغم من الأرض الممزقة تحتي، تكورت داخل بطانية صوفيه، شعرت بالطمأنينة داخلها. قررت ألا أبول، أن اشرب دمعات عيني إن بكيت. قررت أن أصيح بأعلى صوتي على فترات منتظمة. لا أحفظ كثيرا من الآيات القرآنية، إكتفيت بالفاتحة والصمدية”

تقديم ظرف الزمان “لحظتها” يشبه تديم الظرف “وقتها” الذي مر بنا فى الفقرة الخامسة. انه تثبيت للحظة الصدمة التي يولد فيها الوعي. لذا انتفى الشعور، “ما كنت أشعر” وثبت التفكير: “كنت أفكر”. وموضوع التفكير هو الفعل الواجب لا الحر. الواقع يهاجمه وعليه أن يقوم برد الفعل ليحافظ على حياته. والفعل “قررت” يتكرر ليبرز شعور الذات بذاتها، وبالنشاط الذي بدأه يتكرر ليبرز شعور الذات بذاتها، وبالنشاط الذي بدأه الوعي. والطمأنينة التي شعر بها داخل البطانية زائفة طبعا بدليل الخوف الأحق بها من البول والدموع. هذا الزيف يمارس ما اسماه رولان بارت تفريغ العلامة ودفع موضوعها إلى الوراء. بإرادة خالية من الوعي  بالعلامات السببية. ذلك أن بنية النص تجميعية مكانية وليست سببية رمانية. ومظهر هذا التجميع المكاني انتفاء أدوات الوصل . لنعد كتابة النص موصولا:

“لحظتها ما كنت اشعر أنها لحظات الموت، بل كنت أفكر فيما يجب على إن افعله، قررت الرقاد تحت السرير، الذي وجدته أفضل بالرغم من الأرض الممزقة تحتي. ثم تكورت.. الخ”

لا شك انه نص آخر بأدوات الوصل، إننا إمام وعى واضح ينسق علاقات الاشياء، وهذا يتنافى مع طبيعة وعى يوسف، ولو كان له هذا الوعي ما انتهى إلى ما انتهى إليه فى تكية المولودية.

       7-يبقى لنا ما اسميه بالزمان المعجمي. وقد مر بنا انفا موضعان لتوظيف ظرفي الزمان، “وقتها” و”لحظتها” أسلوبيا. والواقع أن معجم الزمان ينهض بعبء كبير فى بنية الرواية، وبصفة خاصة معجم الفصول.

القسم الأول: “الخريف الحزين” يعالج سقوط البيت، وانفصال يوسف عن عالمه كانفصال الورقة عن شجرة الخريف،  لتتلقاه ارض الواقع، فتصدمه بما فى الواقع من تشوهات أولها الشذوذ الجنسي بين عمال المخبز. يتلوها الفصل الأخير من القسم، وفى الفصول الستة عشر في القسم الثاني: “أطول أيام الخريف” مشاهد الحياة فى مساكن الإيواء بتشوهاتها العجيبة. لهذا الخريف بين عنواني القسمين.

أما القسم الثالث: “الشتاء والربيع قد يأتيان معا” ففيه يكف يوسف عن مراقبة العالم ويخرج إلى العمل، فيعمل طبالا وراء الراقصة سونه، وتقوده الظروف لإحياء فرح محبوبته “أمل” على شاب غيره، مما يدفعه إلى عالم المخدرات، حتى يمل ويهجر المساكن ليعيش مع نجار ترابيسك من ازدراء الناس عن مهنته لساد الذوق وبينما يعمل مساعدا للنجار تجتهد زوجة النجار فى غواء يوسف.، ويجتهد يوسف فى الرفض، حتى يكتشف النجار الأمر فيرجع يوسف إلى المساكن، ومن الصعب أن نميز الشتاء من الربيع فى هذا القسم، ولعل الربيع هو “أمل”  ولعل الشتاء هو صدمته بزواجها.

 

ثم القسم الرابع: “الصيف الساخن” فيعمل فيه يوسف مع أم وردة فى تهريب البضائع من بورسعيد، يقوم عنها وعن شخصية كبيرة تحمى أم وردة بشراء الملكية التي يملكها والد أمل لتحويلها إلى متجر لتوزيع البضائع المهربة. ونظرا لان أمل قد طلقت فلقد حاول معاودة العلاقة لكنها رفضته لان يوسف فقد نقاءه القديم. وينتهي الأمر به فى إحدى التكايا القديمة التي يدور فيه كالدرويش حتى يقع على الأرض بين الإغماء والموت. لعل الصيف هنا يشير إلى حرارة الصراع مع قوى الفساد بالفصل.

وتكمن الصعوبة ى تحديد دلالات الفصول فى أنها تتصدر عناوين الأقسام مع أن السرد لا يعنى بعناصر الطبيعة، ولا يذكر شيئا من مظاهر الفصول، مما يحيل إلى شردة رمزية تهيب بتحولات الوعي فى اكتشافاته داخل الواقع المهمش الذي يضئ إلى قوى خطيرة لا تراها العين مباشرة. وتمضى تحولات الوعي فى اقسم الأول فى حركة راسية تنتقل من عالم المخبز إلى عالم المساكن ولكنها تخلو من مشاركة الذات فى حركة الواقع- هذه الحركة الراسية المتنقلة من عالم إلى عالم، تملا القسم الثالث والرابع- لذا تتعادل هذه الأقسام.

هذه الكثرة من الفصول تصنع أمامنا الوعي غارقا فى تفاصيل الواقع، وهو أمر لا إفلات منه إلا بالخروج إلى العمل.

ولما كان الزمان ههنا يؤسس النص ويحمل أعمدته فى الوقت الذي لا يعنى فيه السرد بمظاهر الزمان فى الطبيعة، فان النص يقوم بتفريغ العلامة من دلالاتها المعجمية المألوفة، ثم يقوم بتشفيرها مسقطا عليها دلالات الوعي الذي يتعرف على العالم، ويعجز أن يغيره ويعجز الاستمرار مشاركا فيه، أو الاستمرار فى قبول تشوهاته.    

        8- وما يحدث مع الزمان المعجمي يتفق مع إستراتيجية النص كمحاولة لتحقيق انجاز نحوى واسلوبى، يعيد توظيف أبنية اللغة، لخلق عالم لغوى وأسلوبى، يشي بتوترات وتمزقات الوعي المعبر عن تشوهات الواقع، ويرفضها ويعجز عن تغيرها ، ولا يملك إلا أن يظل واعيا، بل أن وعيه ليزداد رهافة وجدة ورفضا.

مقالات من نفس القسم