الملكة

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد محمد مستجاب

لم أكنأعرف أن الكتابة تسطيع أن تخلق لي هذه السعادة، لكن ربنا رزقني بها، ملاك على الأرض،  هذه هي الملكة وهذا المقال هو سبب السعادة.

عن الملكة.

الملكة

يقينا سيأتي اليوم الذي اغتال فيه نهي محمود، وأمزق فيه جسدها على ربوع وأرض هذا الوطن، بل أنني سوف أخفيها في كهوفه وآباره وسراديبه، لكني أعلم إنني وبنفس – حماس القتل- سأعود وأخرجها وأجمع أجزائها الممزقة، ذلك لأنها تكتب ما أريد كتابته، وتفعل ما أريد فعله، لكني اخشي من كتابته، ولا أعرف من أي شيء أخشى هذا؟، لكن ربما يعود هذا لتربيتي وثقافتي، ألا أن نهي تقوم بهذا بكل بساطة وجراءة في آن.

فهل يأتي يوم استطيع فيه أن أحطم أعمده الإنارة التي أرها أمامي لأنها تمثل لي مشانق، وهل أعود ذات يوم وأمتلك القمر وأرقص على أرضه وعلى سنون جباله، وأقوم برسم وجه حبيبتي التي تركتني، تلك الحبيبة – التي ألعنها وأعشقها في نفس الوقت، هل سوف اكتب عن الساعات التي أظل أنظر فيها إلى التليفون وأتمنى أن يرن، هذا الانتظار الساحر المدغدغ للحواس، وأظل أنظر إلى الهاتف على أنه التليفزيون، وهل سأكتب عن تهديدات جاءت لي من جماعات مجهولة بأنه يجب أن أكتب قصصاً إسلامية، وهل سأكتب عن الكتب في مكتبتي وكأنهم جنود مستعدين للانقضاض والحرب والدفاع عني، وهل سأكتب عن الوحدة التي أعيشها ويحسدني عليها أصدقائي نتيجة زواجهم بدون حب، وهل سأكتب عن فتيات يملأن حياتي بالفراغ، وهل سأكتب عن خوفي الذهاب لشاطئ الإسكندرية لأنني وعدت البحر بأن آتي بحبيبتي في المرة القادمة، وهل سأكتب عن عودة أسراب النمل مهزومة لأنها لم تجد حبة سكر أو كسرة خبز في بيتي، وهل سأكتب عن حبي للتصوير وسخرية من يحيطون بي من تلك العادة، وهل سأكتب عن عشقي لسينما مترو وكيف تربيت فيها وأشعلت بها أول سيجارة خوفاً من الأسرة، وهل سأكتب عن ذراعي وقلبي اللذين يتمنيان أن يحتضنان حبيبه، وهل سأكتب عن إصبعي الذي يختنق بدبلة خطوبة وهمية.

لقد فعلت نهي محمود هذا..

أزاحت كل ذلك وكتبت، وهذا ما تفعله نهي، إنها تكتب عن أوراقها وقلمها وملابسها الخارجية والداخلية وجسدها وأكلاتها ووسادتها التي تغرقها بالدموع والأحلام والأمنيات، نعم فعلتها نهي – ومع إننا لم نلتق حتى الآن، وهذا هو الأمر الغريب فلم أرها حتى اليوم، مع إننا نظل كالقطارات نمر بجوار بعضنا، لكن لا احد من الركاب يري الآخر، مجرد ضجيج وملامح نجمعها فقط، وإذا كانت هي الآن تتوج ملكة في الكتابة حيث جاء ترتيبها الأول في مسابقة دبي الكبرى، بينما جاء ترتيبي أنا السادس وبدون أموال.

ألا أنني فرحت جدا، جدا، وكنت أعطي رقم هاتفها لكل من يقابلني كي يهنئها، هذا هو الشعور بأننا جيل واحد وليس جزراً منعزلة، جيل به الكثير من الخيبات مثلما يمتلك كثير من الأمنيات، أمنيات في الكتابة وطرقها ومفرداتها، جيل لم يهتم به احد ولم يوجهه احد ولم يرعه احد، لذا كتبنا ما نعرفه وما نحبه، لذا اصبحنا – كجيل – لنا مميزاتنا ولنا طعمنا ولنا رائحتنا، وقد قالها لي احد كبار نقادنا: لن يكتب عنك احد لأنكم تفعلون ما لم يستطيع جيل آخر فعله، ولا انسي أول اعمالى القصصية عندما ذهبت بها لأحدي اللجان، فإذا بها بعد موافقة اللجنة يتم رفضها، وعندما سألت عن الأسباب، قال لي الكاتب الكبير والمشرف على اللجنة: هذا لمصلحتك، ولا داعي لإثارة الأمن، ثم طلبت منه تقرير الرفض، فصرخ في وجهي وقال: إذا كانت هذه بدايتك، فماذا ستكتب عندما تقترب من الموت.

اللعنة على الجميع، وليبقي شيء واحد، هو الاحتفال بملكتنا، نهي محمود، تلك التي توجت بالمركز الأول في احدي اكبر مسابقات العالم وليس الوطن العربي، جائزة دبي الثقافية.

نعم، إن نهي الآن ملكة ورأس حربة لجيلنا، ونحن حولها، فرسان ووزراء ومساعدين، نحتفي بها ونفرح معها وننتظر منها المزيد.

وذلك لأن نهي تكتب فتترك في قلبك شرخاً وفي روحك كلمة تعذبك وفي جسدك وشم وعلامة لا تمحي، نهي التي تعلم عن الرجال أكثر مما يعلموا، وعن الروح وتقلباتها وثوراتها وخفوتها، لذا فهي تحب أن تقلب فيها، فهي تقول: من لم يضاجع امرأة بدينة فهو لم يمارس الجنس أبدا.

إن نهي محمود قد وصلت خلال تفكيرها وكتاباتها وتعبيرها ووحدتها ودوشة أصدقائها إلى نتيجة: إنها لن تضاجع رجلا إلا إذا كانت تحبه، ومع علمها أن الرجال كائنات سخيفة وبلهاء، ويتساوون عندها جميعاً، إلا أنها تلحم بفارس ككل البنات، وتتمني ذلك النموذج المصري الأسمر العبقري الشبيه بالفنان الكبير أحمد زكي.

نهي الواقعة في إغواء الحب وإغواء الكتابة وإغواء الجسد، تتمني أن يدغدغ جسدها الآخرون، لذا عندما لا تستطيع أن تحصل على ذلك (؟ ) فأنها تدغدغ كل من حولها بكلماتها، هلاوسها، أحلامها المخفية أو المعلنة، كلماتها وصراحتها في الحب والجنس والأفكار والشوارع والطرقات، تتمني أن تتعري وتنطلق تحت الشمس، تغرق في أضواءها، وان تتلمس الأشعة أديم جسدها، فتصنع منه صحراء لغزوات الرجال، هؤلاء الذين يحاولون أن يصبحوا فرسان، وما عليهم ألا أن يدخلوا في مغامرة عبور تلك الصحراء، واعتقد انه لم ينجح احد حتى الآن في عبور صحراء جسدها، وارِى الكثيرين منهم تائهين، مع أن جسدها ليس صحراء تيه، ومع انه به الكثير من الواحات للراحة، ألا أن جميع الفرسان تائهين، ولم يعد منهم احد حتى الآن، لأن الجزيرة المجهولة، في الداخل، وفي أعماق الأعماق وهي قلبها وروحها، ولا احد يعرف تلك المسالك والدروب والشرايين والأوعية التي توصلهم إلى هذا التاج، أو هذا القلب، قلب الملكة، إنها الرحلة المستحيلة والأمل المنشود في وعي كل الرجال الذين يحيطون بنهي.

ان نهي تستطيع أن – تخلق – نفسها كل فترة زمنية، سواء عن طريق عمل إبداعي جديد أو مجرد أن تتحدث مع نفسها في مدونتها كراكيب، تلقي بها كل القديم وكل الذي يخنقها ويضايقها، لتولد من جديد، لكنها – وأحيانا – تعود لهذه الكراكيب، لأنه من المؤكد سوف تجد فيها أفكار وقلوب رجال وأجزاء من أجساد وأصابع منهم، تلك التي فتكت بهم نهي.

نهي: الغارقة في بخار وعرق المتعة الحسية والمعنوية للحب، وان يكون جسدها لشخص تحبه، تعطيه ما لم تستطيع أن تقدمه لأحد غيره، انه شئ كلنا نبحث عنه، الحب، تلك الكلمة التي لم تفرق بين الحضارات أو العقائد أو ألوان البشر، نهي تسير بها، تضعها أمام عينيها ليل نهار، لكنها لا تستطيع أن تغلق عليها قلبها، ذلك لان رائحة الحب تفضح من يحملها، فتجد نفسك تسير وسط البشر سعيد، مبتسم، محلق، تعانق السماوات، تصبح عمود بخار، وآه وجع، تعتقد انك قاربت بأطراف أقدامك أبواب الجنة، وتتحول إلى كل شيء وأي شيء، تسافر عبر الزمان ويصبح الأطلس الجغرافي هو بوصلة تصل بك إلى أمريكا كي تقف على رأس تمثال الحرية وتقبل من بجوارك وفي يدك زجاجة بيرة، ثم تتناول الغذاء وسط روائح البرفان الفرنسي في برج إيفل، ثم تتناول الطحالب وأنواع غريبة من الأطعمة في شرق أسيا، ثم تفترش بنت ملهلبة مربربة في رمال وصحراء الأهرام، هكذا هو الحب، وهكذا تستطيع أن تولد كل فترة زمنية من جديد، انه شيء يسمي الإبداع، وهو ما تمارسه نهي منذ فترة في كتابتها، وهي الآن على أعتاب العبقرية، تلك التي يحارب العالم للوصول إليها، أن نهي تنسحق من الداخل، تحاول أن تحطم كل الثوابت والمسلمات في حياتنا، وأن تكون كتابتها مثلها نقية وبسيطة وعميقة، نهي التي تتساءل دائماً، وتحمل في عقلها علامة استفهام تكبر وتكبر، لماذا لا تكون فستان أو كعب حذاء عالي أو حتى مغرفة خشبية في مطبخ، أنها تمتلك لغة الأشياء، أن تتحدث مع ظهر كتاب أو دولاب أو حتى باب الثلاجة، نهي تفعل ذلك وتشعر به ويملئ روحها بالسعادة، لذا فأنا استطيع أن أقول إنها تصبح شرسة جدا عندما ينبهها أحد لحياتنا العادية، هنا تعود نهي وتبرق عينيها، وهذه هي العبقرية، أن تري كما لا يري أحد، وأن تسمع كما لا يسمع أحد، وأن تستنطق الأشياء، كي تكتب، ونهي منهزمة لكنها لا تظهر هذا، والرجل الملعون الذي تبحث عنه لن تجده، وهذه هي المتعة الكبرى، فهذه هي الحرب القلبية الكونية الكبرى للإنسان.. أي إنسان.. حتى ولو كانت الملكة.. نهي محمود.

 

  

مقالات من نفس القسم